عُرف المغرب بعلمائه ومجتهديه، وقديما قيل : "لولا عياض لما عرف المغرب"، ولم يفرض القاضي عياض نفسه بهذا الزخم وبهذه القوة إلا بعلمه ومؤلفاته القيمة، أشهرها "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، وبعده اشتهر علماء كبار كان لهم في المشرق ذكر وتأثير، من أمثال الشيخ محمد العربي العزوزي والشيخ محمد بن جعفر الكتاني وبعض ذويه، والحافظ أحمد بن الصديق الغماري وأشقائه، والأستاذ عبد الله كنون وغيرهم كثير، فهل يعرف المشارقة عالما مغربيا اليوم ؟ نعيش في عصرنا نكوصا علميا لم يعرفه بلدنا منذ قرون، لدرجة أن السؤال أعلاه لم يعد ذا معنى، ويحق لنا تعديله بسؤال بديل : هل يعرف المغاربة عالما مغربيا ؟ بالأمس القريب، كان العلماء وأهل الفكر قادة المجتمع الحقيقيون، وكان تأثيرهم فيه أقوى من تأثير غيرهم، ولو كان من ذوي السلطة والرئاسة، ومن نماذج ذلك ودلائله : • تمسك المغاربة بالمذهب المالكي في قضاياهم ونوازلهم، وفاقا للعلماء المفتين، دون أن يلتزموا بالقرار الرسمي للدولة الموحدية المناهضة للمذهب. • تشبث المغاربة بالعقيدة الأشعرية تقليدا للعلماء وسيرا على نهجهم، وعدمُ تمسكهم بالعقيدة السلفية التي اعتنقها السلطان محمد بن عبد الله العلوي. من خلال هذين النموذجين يتبين أن العلماء كانوا بحق "مثقفين موضوعيين" حسب تعبير غرامشي، لذلك كانوا رموز المجتمع، يعرفهم أفراده، وتحترمهم طبقاته، وهذا الأمر تنبه له المخزن منذ أمد، فحاول أن يربطهم به، وأن يدوروا في فلكه، وأن يغدق عليهم من نعمه، كما حاول أن يخلق رموزا أخرى يرتبط بها الشعب دون أن تتهدد مصالحه، فأقصى العلماء عن الساحة بذكاء، وسهل طريق الشهرة والتمكين للفنانين والرياضيين وبعض السياسيين، ليقودوا المجتمع حيث يريد، وزيادة في التجهيل، أُسندت مهام المجالس العلمية – مع استثناءات قليلة - لأناس لا رمزية لهم، بل لا يكاد يعرفهم أحد، ولو أجرينا استطلاعا للرأي على الصعيد المغربي لمعرفة نسبة معرفة المغاربة بأعضاء المجلس العلمي لكانت النسبة كارثية بامتياز، فمَن من المغاربة يعرف السادة محمد البراوي أو إدريس خليفة أو المهدي السيني أو فاطمة القباج أو أحمد بصري ؟ هذا دون أن نذكر الملتحقين الجدد بالمجالس العلمية المحلية، لأن معرفة الناس بأغلبهم وارتباطهم بعلمهم تكاد تقارب نسبة الصفر، وهي نسبة مُبكية إذا قارناها بمعرفة أفراد المجتمع المغربي لعلماء من أمثال الشيخ الطيب بنكيران أو الشيخ حمدون بن الحاج أو غيرهما من الأعلام. ولعل أهم ما جعل مؤسسة العلماء في أدنى الدركات، هي قابلية العلماء أنفسهم للخضوع والانقياد، إضافة إلى معاكستهم لمنطق التاريخ. ولتبيان ذلك، يمكن عقد المقارنات الآتية : • في الأيام الماضية، اجتمعت هيأة كبار العلماء في مصر برئاسة شيخ الأزهر لانتخاب المفتي الجديد، وهي نقلة نوعية في تاريخ المؤسسة الدينية في أرض الكنانة، وسيعقد المفتيان السابق المعين والجديد المنتخب يوم 3 مارس مؤتمرا صحفيا لإتمام عملية تسليم وتسلم المهام، وهي طريقة حضارية وراقية تبعد عن طريقة عمل علماء المغرب بمسافات ضوئية غير قابلة للقياس، حيث لا زال علماء المغرب أبعد المؤسسات عن فكرة الانتخاب والانتقاء الحر النزيه. • في الأيام الماضية أيضا، أعلن الحبر الأعظم في الكنيسة الكاثوليكية، بنديكتوس السادس عشر، اعتزاله واستقالته من كرسي البابوية، وهي أول استقالة من هذا المنصب منذ ستمائة عام، معللا ذلك بكبر السن، مع ما يرافق ذلك من قلة الفاعلية وضعف الأداء، وهذا أمر لم يتفطن له علماء المغرب، وأنى لهم ذلك، لأنهم فاقدو الإرادة ابتداءً، لأن المعيَّن يُقال ولا يستقيل، أما المنتخَب فهو مالك إرادته وصاحبها، إذا تبين له ما يدعوه إلى الاستقالة لا يتردد في توقيعها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أُعْلن عن اجتماع وشيك لمجلس الكرادلة لانتخاب بابا جديد، لأن معجم القوم خالٍ من التعيين والانتداب. • في الأيام الماضية أيضا، اجتمع المجلس الحكومي (21 – 2 – 2013) وقرر الزيادة في التعويضات المخولة لرؤساء وأعضاء المجالس العلمية المغربية، حيث أصبحت تعويضات الرؤساء 13000 درهم بدل 10000درهم، وتعويضات الأعضاء 5000 درهم بدل 3000 درهم، وسيتم تفعيل هذه الزيادة ابتداء من فاتح يناير 2013. هذا السخاء علله الناطق الرسمي باسم الحكومة بكونه يأخذ في عين الاعتبار التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في السنوات الأخيرة، وكذا ضرورة تمكين العلماء من القيام بمهامهم في أفضل الشروط الممكنة !. إذا كان تعليل الأستاذ مصطفى الخلفي منطقيا، فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على العلماء هي نفسها المؤثرة على القضاة، فلماذا لا يعجل الأستاذ الرميد بالبت في أجورهم ويمهلهم حولين كاملين ؟ والتحولات ذاتها يكتوي بنارها عموم الموظفين، فلماذا صرح الأستاذ بنكيران قبل الشروع في الحوار الاجتماعي بألاّ زيادة في الأجور ؟ كل هذه التساؤلات نطرحها مع علمنا المسبق بأن السادة العلماء ليست لهم أية نقابة أو جمعية، ولم يسبق لنا أن رأيناهم محتجين أو مُضربين، فكيف عرفت الحكومة معاناتهم ؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون من باب تَوَرُّق العلماء الذي حذرهم منه أستاذنا العلامة أحمد الريسوني ؟ ماذا عساي أن أقول لعلماء المغرب ؟ أأدعوهم إلى تقليد علماء النصارى ؟ قد يحسبون الأمر سبة لهم. أأدعوهم إلى تقليد العلماء الأقدمين ؟ قد يظنون الأمر رجعية وتخلفا. أأدعوهم إلى تقليد علماء مصر الأبية ؟ قد يلمزونني بتهديد الخصوصية المغربية. أأدعوهم إلى التورع ؟ قد يصعب عليهم النأي بأنفسهم عن التورق. لكن سؤالا أكثر إلحاحا يفرض نفسه : هل هم أصلا علماء ؟ أم أنهم منتحلو صفة لا غير ؟ مع العذر لبعض العلماء الحقيقيين أمثال الشيخ عبد الله التليدي والدكتور أحمد الريسوني والدكتور مصطفى بنحمزة وآخرين على ندرتهم وقلتهم.