أول ما يلاحظه المتأمل في الشأن الديني بالمغرب أن الهيئات الرسمية العاملة في هذا الشأن تعاني حالة من التشتت والتشرذم مما يضعف قوتها ويفت من عضدها، حيث نجد ثلاث هيئات تتجاذب الإشراف على الشأن الديني بالمغرب وهي مديرية الشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف، والمجلس العلمي الأعلى وفروعه المحلية، والرابطة المحمدية للعلماء بفروعها أيضا، وهي في الأصل هيأة مستقلة أسسها بعض العلماء تحت يافطة "رابطة علماء المغرب" ثم حُول اسمها في عهد محمد السادس إلى الرابطة المحمدية للعلماء وتم تعيين رئيسها بظهير. وهذا التعدد التنظيمي يتضمن عدة سلبيات، أولاها تضييع جهود الأعضاء، ولو تظافرت جهودهم في تنظيم موحد واستراتيجية عمل موحدة لكان أجدى وأنفع. ثانيتها تبذير للمال العام أو مال الأوقاف، والسادة العلماء المنتسبون لهذه الهيئات أولى من يلقننا الدروس في التبذير وسلبياته ويحذرنا من الوقوع فيه ويرهبنا من عواقبه، وهم أعرف منا بالمسالك السليمة والطرق القويمة لصرف أموال المحبسين. وكمثال على التبذير الذي نحكي عن فصوله، نذكر أن المجلس العلمي المحلي الواحد يتقاضى رئيسه وأعضاؤه ما يقارب 230 ألف درهم سنويا، بمعنى أن ميزانية الدولة تتحمل سنويا ما يفوق 20 مليون درهم كأجور وتعويضات أعضاء المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، ناهيك عن مصاريف المقرات والتسيير والسيارات وتوابعها، ثم نضيف إلى كل هذا رواتب ومصاريف الرابطة ثم مديرية الشؤون الإسلامية أضف إلى ذلك ما تعرفه أنشطة كل هيئة من مصاريف ضخمة، وبعد كل هذا نتحدث عن الحكامة وتدعو الحكومة إلى ترشيد النفقات !. ومن أمثلة تبديد الجهود وعدم تظافرها، نجد لمديرية الشؤون الإسلامية منشوراتها الخاصة (الكتب التي تطبعها الوزارة سنويا – مجلة دعوة الحق – كتاب دعوة الحق) وللمجلس العلمي ميزانية خاصة بالنشر (مجلة المجلس – كتيبات) وللرابطة مراكزها البحثية ومنشوراتها (مجلة – جريدة ميثاق الرابطة – كتب وإصدارات متنوعة)، كل هذا ترصد له ميزانية ضخمة يمكن التقليل من حجمها إذا تفادينا هذا الواقع المتشرذم لهذه الهيئات. وإذا كان هذا جزء من الواقع غير السليم لمؤسسات الحقل الديني في المغرب، فإننا نطمح من فضلاء العلماء أن يطرحوا أفكارا ورؤى إصلاحية تتماشى مع ما يعرفه المغرب من دينامية وحراك وألا يخطئوا موعدهم مع التاريخ، وذلك بإعادة النظر في بنيتهم وكذا في طريقة عملهم ومنهج تسييرهم، وأول ما يطرح بإلحاح في هذا الباب ضرورة توحيد جهود العلماء تنظيما وتسييرا وإصدارا في إطار هيأة موحدة تشرف على الشأن الديني تدبيرا وتأطيرا مع الاستقلال المادي والإداري. ومن مؤاخذاتنا على علمائنا الفضلاء أن مكاتب الغرف الفلاحية والصناعية وغالبية الهيئات تتشكل بالانتخاب، أما مؤسسة العلماء فتبقى رهينة منطق التعيين الذي يجعلها تعيش في عصر غير عصرها وتبقى نشازا بين مؤسسات المجتمع ومنظماته، مع العلم أن العلماء هم أول من يتحمل مسؤولية إعادة الاعتبار لقيمة الشورى وأن يطالبوا بأجرأة مقتضياتها وتحكيم منطقها داخل هيئاتهم وخارجها، وأن يكونوا القاطرة التي تقود المجتمع نحو تحقيق المثل والمبادئ الإسلامية المغيبة. ومما يترتب على إلغاء الشورى وآلية الانتخاب في صفوف هيئات العلماء أن التعيين قد يكون في عدة أحيان بناء على معايير غير علمية من قبيل الانتماء العائلي أو القبلي أو القرب من ذوي النفوذ ... هذا ما أدى بنا إلى وجود فئة عريضة من "العلماء" أعضاء المجالس العلمية لا علاقة لهم بالبحث العلمي في العلوم الشرعية أو غيرها، أما أعضاء المجلس العلمي الأعلى فلم ينشر بعضهم ولو مقالا واحدا طيلة مشواره "العلمي"، وجزء منهم لا رصيد لهم سوى بحث أو بحثين نالوا بهما شهادة عليا ثم جفت أقلامهم وطويت صحفهم، وغير ذلك من النماذج التي لا أذكرها مع احترامي لقلة من الأعضاء ممن يستحقون لقب "عالم" وهم نقطة في بحر. ومن علامات ضعف علماء المجلس أو لامبالاتهم (وكلاهما مصيبة) أنهم عجزوا عن تحقيق رغبة بسيطة التمسها منهم ملك البلاد منذ تنصيبهم، حيث اقترح عليهم تحقيق الموطأ للإمام مالك وطبعه في حلة قشيبة مصححة ومحققة يفخر بها المغرب والمغاربة وكأنها شمس تشرق على العالم الإسلامي من مغربه، وشكلت لجنة للقيام بهذا الإنجاز العلمي منذ سنوات ولم ير النور إلى يومنا هذا، في حين لو تكلف بهذا الأمر طالب علم واحد طيلة هذه السنوات لأخرج هذا العمل العلمي إلى الوجود ولطبع وانتشر بين الباحثين. ونتيجة لما ذكر ولما لم يذكر من النقائص والسلبيات، فإننا بعد البحث والتنقيب في الساحة العلمية العالمية لا نكاد نجد أحدا من العلماء الرسميين يحتل مكانة عالمية مرموقة تشد إليه الرحال ويستفاد من مؤلفاته ورسائله وحلقات دروسه، ورحم الله عهد العلماء المشاهير الذين كان لهم ذكر بل تأثير في المشرق من أمثال الأستاذ عبد الله كنون ونبوغه والأستاذ المختار السوسي وموسوعاته وآل الكتاني ورسائلهم ومصنفاتهم وآل الصديق الغماري واجتهاداتهم وتحقيقاتهم وغيرهم من الأعلام الذين نتحرق شوقا لرؤية أمثالهم تشريفا للمغرب ورفعا لمكانته في كل العصور، أما أن يرضى العلماء بموقعهم كموظفين يحاولون العض بالنواجذ على مناصبهم ويتمسكون بها بكل ما أوتوا من قوة، فهذا يسيء إليهم ولا يرضي المغرب والمغاربة، لذلك لا نستغرب حين نراهم لا يتحركون إلا إن أذن لهم، مثل معارضتهم للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية وتوقيعهم لعريضة منددة بموقف الشيخ عبد السلام ياسين الذي سطره في "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، وانتفاضتهم الشهيرة بعد فتوى الشيخ القرضاوي حول الربا التي لم يقدموا فيها رأيا علميا وموقفا مسؤولا، أما بيانهم الأخير حول ما انخرط فيه المغرب من إصلاحات فيدل على أنهم – غفر الله لهم – خارج التغطية.