سبتة ترفض مقترحا لحزب "فوكس" يستهدف المهاجرين والقاصرين    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية يتأهل إلى مرحلة البلاي أوف من البطولة الوطنية    فتح تحقيق في محاولة تصفية مدير مستشفى سانية الرمل تطوان    الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل سيدخل حيز التنفيذ فجر الأربعاء    الأمن يحبط عملية بيع حيوانات وزواحف من بينها 13 أفعى من نوع كوبرا في الناظور ومراكش    العلمانية والإسلام.. هل ضرب وزير الأوقاف التوازن الذي لطالما كان ميزة استثنائية للمغرب    عصبة الأبطال.. الجيش الملكي يهزم الرجاء بعقر داره في افتتاح مباريات دور المجموعات    الملك محمد السادس يوجه رسالة إلى رئيس اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف    إسرائيل توافق على وقف إطلاق النار في لبنان بدءا من يوم غدٍ الأربعاء    المغرب يستعد لإطلاق عملة رقمية وطنية لتعزيز الابتكار المالي وضمان الاستقرار الاقتصادي    لجنة الحماية الاجتماعية تجتمع بالرباط        تنفيذا للتعليمات الملكية السامية.. وفد من القوات المسلحة الملكية يزور حاملة الطائرات الأمريكية بساحل الحسيمة    بنسعيد: "تيك توك" توافق على فتح حوار بخصوص المحتوى مع المغرب        هيئة حقوقية تنادي بحماية النساء البائعات في الفضاءات العامة    وفاة أكبر رجل معمر في العالم عن 112 عاما    "نعطيو الكلمة للطفل" شعار احتفالية بوزان باليوم العالمي للطفل    الجنائية الدولية :نعم ثم نعم … ولكن! 1 القرار تتويج تاريخي ل15 سنة من الترافع القانوني الفلسطيني    لحظة ملكية دافئة في شوارع باريس    سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    دين الخزينة يبلغ 1.071,5 مليار درهم بارتفاع 7,2 في المائة    معاملات "الفوسفاط" 69 مليار درهم    المغرب جزء منها.. زعيم المعارضة بإسرائيل يعرض خطته لإنهاء الحرب في غزة ولبنان    الجزائر و "الريف المغربي" خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية        الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    ملتقى النقل السياحي بمراكش نحو رؤية جديدة لتعزيز التنمية المستدامة والابتكار    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التغيير: عند ذوي المروءة من الرجال

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الحلقة السابعة - التغيير: عند ذوي المروءة من الرجال
عندما استدرج النظام بعض الأغرار من صبية مرحلة التأسيس إلى المشاركة في حملة الافتراءات والأكاذيب الملفقة ضدي كان يعرف ما يهدف إليه من محاولة تصفية مواطنٍ غير مرغوب فيه، وكان هؤلاء الشباب المغرر بهم يجهلون نتائج ما يقولون وما يعملون، ولا يعرفون حقيقة الشخص الذي تألبوا ضده. إلا أنني لا أنفي مسؤوليتي عن جهلهم هذا لأنني في مرحلة التأسيس لم أعمل على أن يعرفوني معرفة كافية بسبب اعتباري الحديث عن النفس من قبيل الرياء. وما زلت أذكر إذ زارني أحد الدعاة المشارقة فأخذته لزيارة إحدى الجلسات في بورنازيل وكان الجمع كثيرا والغرفة ضيقة فأفسح الشباب لنا مجلسين في الصدارة جلس الضيف في أحدهما وفضلت أن أجلس حيث انتهى بي المجلس، وأثناء العودة لاحظ الضيف أنني أخطأت في اختيار مجلسي لأن القيادة ينبغي أن تكون لها مكانتها واحترامها وتوقيرها، وأن التواضع لا يكون بغمطها حقها في الاحترام بين الإخوان، بل قد يفسد التواضع المبالغ فيه أحيانا نفوسا ضعيفة غير مكتملة التربية فتتجرأ على ما لا يليق قولا أو عملا.
بعد هذه الملاحظة من ذلك الضيف الكريم أخذت بين الفينة والأخرى أسائل نفسي عن مدى الصواب والخطأ فيما قال وفيما فعلت بحرصي على التواضع وإنكاري ذاتي أثناء التأسيس، ونفوري من "التمشيخ"، وإيماني بأن فن القيادة يقتضي أن يتحمل أعضاء أي مشروع مسؤولية إنجازه بالسوية، وأن يتدرب جميع الأعضاء على العمل المشترك ليشعروا بقيمة ما ينجزون، ويواصلوا السير نحو الهدف المرصود جيلا بعد جيل، وتذكرت حوارا جرى بيني وبين الأخ عبد السلام ياسين رحمه الله وهو حينئذ من مريدي عباس البوتشيشي في ليلة من ليالي السابع والعشرين من رمضان ولم يكن يعرف عن تأسيس الحركة الإسلامية شيئا، إذ زارني بعد صلاة المغرب مع بعض مريدي الطريقة ودعاني لمرافقتهم وإحياء الليلة معهم فاشترطت عليه أن تكون التراويح صلاة كما هي السنة النبوية، وقَبِلَ الشرط فرافقتهم، وفي الطريق مر بأحد معارفه وسأله:"أين الإخوة؟" فذكر له مكانا في حي الوازيس، فحولوا وجهتهم نحو "فيلا" في نفس الحي أدخلوني معهم إليها، فإذا غرفها وصحنها وفناؤها في حالة اكتظاظ شديد بمريدي الطريقة، وهم يتغنون واقفين في حالة حادة من الجذب، بأمداح وأناشيد وأصوات عالية وصياح حاد، ودواخين البخور تكاد تخنق الأنفاس، ولما لاحظ عبد السلام استغرابي ونفوري قال:" هل ترى هؤلاء وقد استغرقوا في الجذب؟، إنهم الآن كالعجين بين يديك تفعل بهم ما تشاء"، فرددت عليه بوضوح:" اسمع يا أخي سي عبد السلام، أنا لا أبحث عن العجين لأفعل بها ما أشاء، أنا أبحث عن الرجال لنبني سويا منائر للدين في هذا البلد"، ثم استأذنت وغادرت الفيلا إلى أحد المساجد. لقد كان كل منا يمثل مدرسة في التفكير والعمل، وإذ تأثر هو بمدرسة عتيقة في التربية تلتقي مع التصوف في بعض جزئياتها وتعتبر المرء ما لم يتصوف نفسية غير مُخلَّقة يشكله الشيخ كما يشاء، فقد كنت أومن بأن الإنسان كائن له شخصيته الاعتبارية والإنسانية المستقلة وحقه في التفكير والقبول والرفض. كان هو يحاول أن يبني مشيخته الصوفية، وكنت أحاول أن أبني الحركة الإسلامية قائمة بالله ثم بنفسها، لا تتأثر بغياب الرجال أو موتهم أو نكوصهم.
وفي الوقت الذي كان فيه بعض من تربى في الحركة يجهد نفسه ليبني له موقع زعامة داخلها، كنت أتجاوز عن هذه الترهات الصبيانية وأعدها نزوات تمر كسحابات الصيف، فنشأ في الحركة من يسارع إلى التنكر لي عقب هجرتي، والجراءة على أن يذكرني بالسوء جهلا وتطاولا وتأويلا بغباء أو حقد دفين.
من ذلك أن الرميد عندما استوزر للعدل والحريات في حكومة حزبه وصرح في مؤتمر صحفي بأنه على استعداد للتدخل عند الملك لصالحي إذا ما أعنتُه على ذلك، كان يجهلني جهلا مطلقا، ويحاول أن يتاجر بي، وهو يعلم أنه وقومه لم يتركوا لأنفسهم بوشاياتهم وافتراءاتهم مجالا لإصلاح ذات البين لدى النظام وقد أوغروا قلبه وضخموا لديه خطرا وهميا يتهدده.
وعندما سئل في حواره الذي سبق ذكره في الحلقة السابقة عن منهجي في التغيير برأني من التوجه الثوري وافترى عليَّ التوجه الانقلابي العسكري. وعندما حصر مع محاوره مناهج التغيير في الثورية والانقلابية برهنا عن جهلهما بحقيقة التغيير فقها وفلسفة وسياسية واقتصادا واجتماعا، وجهلهما بمنهجه في التاريخ والأمم والعقائد تراضيا أو تدرجا أو قسرا، وبأهدافه ربانية أو دنيوية أو طموحا فرديا للتسلط مالا أو جاها أو ملكا أو شهوات نفس، وبظروف طلبه وحوافزه ضرورات معيشية داخلية أو ولاء لله ورسوله، أو ولاء لجهات أجنبية لها أطماع في البلاد والعباد.
وأهم من ذلك أنهما يجهلان جهلا مطلقا أن من يتحدثان عنه على دراية وخبرة بشتى مفاهيم التغيير وتجاربه قبل أن يتجه إلى الدعوة الإسلامية عارفا سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، واكتسب بفضل الله ثم بذلك مناعة ضد الاستغفال، ولذلك تألب عليه دعاة الشر ينهشون لحمه، ويعرقون عظمه ويحاولون إقصاءه جسدا وروحا وعلما وفكرا وسياسة.
وأذكر في هذا المجال دراستين كتبتهما للحركة تأسيسا للرشد السياسي والحركي فيها، أولاهما بعنوان" العقيدة وسلاح التنظيم" والثانية "التحالف شرعا وسياسة وضرورة مرحلية" فسُرِّبتا للأجهزة الأمنية التي استفادت منهما أكثر مما استفاد أبناؤنا.
ومن قبل كانت محاولات فاشلة لإقحامي في مغامرات تغييرية بالعنف وقد أقام ثوريو الاتحاد الوطني في سوريا معسكرات لتدريب بعض شبابه على حمل السلاح ، وأرسل إلىَّ سي محمد البصري الملقب بالفقيه، مناضلا من مناضليه هو سي أحمد بلحاج الدكالي من بلجيكا، وكانت خلاصة رسالته أن عرض علي القيام بتجنيد بعض المناضلين للالتحاق بمعسكر التدريب في سوريا، وأن حذرني من شخص في الحزب يدعى"مصطفى القرشاوي" لكونه كما ادعى مخبرا للكوميسير "بوعلي"، فكان موقفي من الرسالة أن صرفته بأدب وحسن قول.
ثم ما لبث الأستاذ أحمد بلقاضي المحامي أن زارني وطلب مني الانضمام إلى خلية مسلحة ضد النظام، فكان أن انتقدت العمل وبينت له أن لديه خللا في التفكير وخللا في التحليل. فغضب وأرغى وأزبد ثم انصرف.
وبعد حين زارني في مكتبي الأستاذ توفيق المحامي، وكان شابا خفيف الظل ثوريا وقد رجع حديثا من معسكر للتدريب على السلاح في سوريا، وبعد أن بينت له أن الحديث في المكتب غير مأمون العواقب، وزيارتي في البيت كذلك، أصر على أن أزوره في بيته صباح يوم الأحد يوم عطلته، ولما زرته أخبرني بأن الفقيه البصري يسلم عليَّ ويطلب مني التعاون في تجنيد الشباب للثورة والمشاركة في معسكرات سوريا، فأبديت له عدم اقتناعي بما يخططون له. ثم بعد فترة قصيرة زارني مصطفى القرشاوي في مكتبي ليسأل عن سبب رفضي المشاركة في مشروعهم الثوري الذي يقترحه الفقيه البصري، فأجبته بثلاث نقط كنت أنتظر منه تبليغها للكوميسير بوعلي إن كان ما ذكره عنه البصري حقا، أولاهن أنني خفت على نفسي وأسرتي من هذه المغامرة، والثانية أن هذا الاتجاه لم يقنعني سياسيا ولا وطنيا، والثالثة أنني طلقت السياسة ولاء ومعارضة، فأظهر الغضب وهونت عليه الأمر بما هو أشد إذ قلت له: "العجيب في أمركم أن صاحب مشروعكم للثورة هو من أرسل إلي يحذرني منك شخصيا ويتهمك بالعمل لصالح الكوميسير بوعلي، فازداد غضبه وسأل عن الذي بلغني ذلك فلم أجبه، ثم عاد ليسأل عن السبب الحقيقي لرفضي التعاون معهم فأجبت:" الخوف..إنه الخوف وقولوا ما تشاؤون عني"، ثم بعد حين زارني مرة أخرى وسأل عن من بلغني رسالة البصري فامتنعت عن ذكر اسمه، فقال: لقد عرفته إنه أحمد بلحاج الدكالي، وكان قد عاد إلى بلجيكا، فلم أثبت ولم أنكر.
وقبل ذلك في نهاية سنة 1965، وقد أضحى الحزب مرتعا للتناقضات الأيديولوجية والسلوكية وتعذر الصبر على حاله واستحالت عليَّ معايشة صراعاته الداخلية زرت محمد البصري في بيته قبيل خروجه من المغرب بأيام وخاطبته مبتسما:" جئتك بهدية للحزب ثمينه تخلصه من بعض تناقضاته" ولما تساءل متعجبا عن الهدية قلت له:" هي أنني قررت الانسحاب من الحزب بهدوء محتفظا بما يجب على المؤمن الاحتفاظ به من حسن أخلاق وسلامة قلب وأمانة".
كان هذا آخر لقاء لي في المغرب مع البصري، فلم أره إلا في زياراته لطرابلس ليبيا حيث كان يحرص على اللقاء بي في الفندق الذي يقيم به أو في بيتي عندما أستضيفه. ولم يسبق أن التقيت بغيره من الحزب بعد انسحابي منه إلا مرة واحدة عندما زارني الأخ "إقبال" وهو أحد شباب الحزب الطيبين، كان تاجرا في السوق المركزي بشارع محمد الخامس، وأبلغني أن عبد الرحيم بوعبيد سيزور مكتب الدار البيضاء ويود الاجتماع بي لأمر هام، وبعد أن حدد موعد اللقاء زرت المكتب فوجدت بوعبيد في انتظاري، وكان لقاؤنا وديا، سألني في أوله عن الأخ الأستاذ عمر القاسمي أحد الشباب المنفيين في الجزائر هل أعرفه فأجبت:"نعم" وسأل:"هل كان من مناضلي الحزب" فأجبت "نعم" وسألته عن سبب السؤال عنه فقال: إنه يرجو أن نرعى بنتا له مع أمها تركهما في المغرب بعد هجرته، فشكرت له هذا الموقف الإنساني وعلقت:" نِعْم ما تفعلون إن رعيتم البنية وأمها"، ويبدو أن بوعبيد كان ينتظر مني أن أطرح ما قد أكون شاكيا منه في الحزب، ولكني لم أفتح الباب لذلك مطلقا، فاضطر للسؤال:" ما رأيك في سير الحزب وعلاقات أعضائه ببعضهم؟" فقلت:" لا أثقل عليك بالحديث عن ذلك، فلك من هموم الحزب الجانب الأوفر، ويكفي أنني بلغت الأخ محمد البصري بذلك قبل خروجه من المغرب" فامتعض شيئا ما، وودعته شاكرا حسن الاستقبال.
وقبل ذلك في فترة تأسيس أول نقابة انفصلت عن الاتحاد المغربي للشغل من أجل تصحيح المسار النقابي في المغرب، وقادت هذا المشروع بكل حنكة لجنة للتنسيق الوطني مكونة من ثلاثة أشخاص هم عمر بنجلون وعابد الجابري وعبد الكريم مطيع، وأسفرت جهودها عن نجاح باهر جنت الشغيلة المغربية ثماره بعد أن توج المشروع بقيام الاتحادية الديمقراطية للشغل قبل أن تصطبغ بأي إيديولوجية تفرق بين المنتمين إليها.
وكان أول نجاح حققته هذه الحركة التصحيحية أن حصدت النقابة الوليدة( النقابة الوطنية للتعليم) أغلب مقاعد اللجان الثنائية للترقية والتأديب، وما زلت أذكر يوم فرز الأصوات الخاصة بلجنة المفتشين، وكنت مرشحا لها باسم النقابة الوطنية للتعليم، وكان محمد شفيق (الملحق بالديوان الملكي) مرشحا باسم الاتحاد المغربي للشغل، ولم يحصل إلا على صوته منفردا، فاستشاط غضبا وقام بتوتر ليغادر قاعة الفرز، ولكن رئيس اللجنة خاطبه منبها: وقِّع على محضر الفرز أولا ثم انصرف إذا شئت، فوقَّع بتوتر ثم انصرف مغضبا.
وكان رد فعل قادة الاتحاد المغربي للشغل أن فقدوا صوابهم وكونوا عصابة اعتدت على الأخوين الضمضومي والعربي الجابري في بيتيهما، أما ليلة الهجوم على بيتي فقد نما إليَّ الخبرُ فاتخذت الاحتياطات اللازمة، ولما طرقوا الباب على الساعة الثالثة قبيل آخر الليل ولم يجبهم أحد ووجدوا الباب موصدا بإحكام، أخذوا يحاولون كسره بالحجارة دون جدوى، وأصبَحَتْ بذلك نوافذ البيت وعتبات بابه الخارجية كأنها مقالع للحجارة. ولولا أنني بذلت جهدا كبيرا مع الأخ محمد البصري لتهدئة الشباب ومنعهم من ردود الفعل العشوائية لكانت كارثة.
لقد عرفت اثنين ممن قاد هذه العصابة - غفر الله لهما- أحدهما معلم توفاه الله تعالى بعد الحادثة بشهور، والثاني معلم متقاعد مازال حيا يقوم حاليا بمهمة "سانديك" لبعض العمارات بالدار البيضاء، ولم يسبق أن فكرت في مجرد عتابهما، أو عتاب من أمرهما بذلك وكنت أعرفه أيضا.
هذه عينات فقط من المشاريع التغييرية التي اشتركت فيها أو عُرضت عليَّ فرفضتها بوعي، عقب حصول المغرب على الاستقلال، بعضها كان في حزب الاستقلال وبعضها في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والنشاط النقابي، أذكرها لتكون تذكرة وعبرة وتعليما للمخالف والمؤالف من العقلاء أولي الحجا والحلم والنهى، إذا تحرروا من نوازع الهوى وعبادة المنصب والجاه والسلطة وأمراض القلوب والنوايا، وكلها ساهمت فيها أو عارضتها بأخلاق المسلم الذي يبحث عن التغيير المؤدي إلى الإصلاح الشرعي كما بشر به داخل الحزبين علماؤهما المؤسسون الشيوخ علال الفاسي والمختار السوسي وعبد العزيز بن إدريس ومحمد العربي العلوي ومقام الوالد الفقيه الحمداوي رحمهم الله تعالى جميعا، وعندما فاصلت الحزبين وابتعدت عن العمل النقابي لم أتآمر على أي فريق أو أخنه أو أفشي سره أو أشهر به، تمسكا مني بأخلاق المؤمنين ومروءة الرجال، ولا يعرف الرجال إلا الرجال، ثم انطلقت لما أومن به خدمة لعقيدتي وديني وأمتى مع نخبة من أصحاب العقول النيرة والأحلام الراشدة، ممن قاموا بدورهم في الجهاد ومقاومة الاستعمار الفرنسي خير قيام، قدوتي في التعامل مع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما رواه عنه ابن أبي الدنيا في كتاب" أدب الدنيا والدين" من أنه رضي الله عنه كان أفضلَ من أن يَخدع، وأعقلَ من أن يُخْدع، وأنه قال: (لست بالخب ولا يخدعني الخب).
أما في فترة الاستعمار الفرنسي وقد نودي: (ياخيل الله اركبي)، وكل المغاربة هبوا لتغيير ما بِهِمْ والدفاع عن دينهم ووطنهم، جهادا حقا هو ذروة سنام الدعوة الإسلامية، فلم يعرف أحد عني في دفع الصائل الفرنسي- والفضل لله تعالى أولا وأخيرا – جبنا أو خيانة أو تقاعسا، وذلك ما جبل عليه رجال الحركة الوطنية المؤسسون الذين خطوا الطريق، وأعطوا القدوة من أنفسهم شجاعة وفدائية وسجنا وهجرة واستشهادا، ولم يغب عن ناظري قط منظر الشهداء في شوارع الدار البيضاء تنزف أجسادهم دما، ولا منظر المرأة المسلمة تحمل ساطورا وترمي به جنود الاحتلال، ولا التي قتل الفرنسيون زوجها واختطفوا ولدها وهي تبكيهما وتقول:"ما نسامحكش آ الشجاعة ما خليتي لي زوج ولا قريب ولا ولد ولا ربيب".
ولا زلت أذكر عند اندلاع الحرب العالمية الثانية ولم أكن قد تجاوزت الثامنة من عمري كيف أخذني أحد طلبة القرآن في مدينة ابن أحمد ليلا ثم طاف بي يحملني عل كتفيه من شارع إلى شارع لأكتب علي جدرانه عبارة:"تسقط فرنسا...يسقط الخمر وشاربه".
وفي صباح اليوم الثاني طرق بيتنا شيخ الحي مرتعشا وطلب من أبي أن يأخذنى في صباح اليوم التالي إلى مكتب الحاكم العسكري للمنطقة، فتوجستُ خيفة من الأمر لأن أبي لا يعرف شيئا عن علاقتي بالأمر، إلا أنه فرح وبدت عليه ملامح الاستبشار، ولما أنكرت التهمة علق مبتسما:" لقد صرت رجلا، يا ليتك فعلتها".
وفي صباح اليوم التالي ألبستني الوالدة رحمها الله تعالى أحسن ثيابي وأرسلتني وحيدا إلى مكتب الحاكم العسكري، فوجدت عشرات الشباب مجتمعين أمام مكتب الحاكم، ولما رأوني أخذوا يضحكون ويتندرون بسني، ثم يحملني بعضهم بين يديه ويسألني ضاحكا بماذا تجيب الحاكم إن سألك عن الكتابة؟ فأجيب جادا: "أقول: الكتابة في الجدران عالية ولا أستطيع الوصول إليها فكيف أكتبها" فينفجرون ضاحكين. إلا أن الفرحة لم تتم ولم يحقق أحد من الشباب بطولة، إذ سرعان ما أطل الحاكم الفرنسي من نافذة مكتبه وخاطبنا جميعا باللهجة الدارجة قائلا: "إذا سألتكم عن الذي شتم فرنسا كتابة على الجدران، فسوف تنكرون جميعا...عليكم أن تعلموا أن فرنسا ما جاءت إلا لتعليمكم وتمدينكم، والدليل على ذلك أنني سامحتكم، فارجعوا إلى بيوتكم ولا تعودوا لهذه الأعمال".
وعندما نفي الوالد من ابن أحمد إلى الدار البيضاء جمعتني الكشفية التي أسسها حزب الاستقلال بثلاثة أطفال من سني، فقررنا تكوين خلية مقاومة للفرنسيين تمهيدا لبلوغنا سن الشباب فنكون قادرين على المقاومة، واتخذنا كراسة نراقب فيها مدى التزامنا بالمواعيد والأعمال، وحصالة نقود خشبية على عادة الأطفال نضع فيها "رباعية" كل أسبوع لشراء حاجات الجهاد عندما نكبر، وأخذنا نتدرب على المصارعة في غابة "لارميطاج" وكانت حينئذ بعيدة عن المساكن، إلا أن الوالد رحمه الله تعالى فتح حقيبتي المدرسية فوجد كراستنا وعرف مشروعنا، فطلب مني دعوة أصحابي إلى البيت لتناول "الكسكسو" ولما اجتمعنا صارحَنا رحمه الله تعالى بخطأ ما نهيئ له في هذه السن وأقنعنا بالتركيز على العلم والمثابرة عليه، "ففشل" مشروعنا الجهادي واقتسمنا رصيده المالي فرحين.
وعندما دقت ساعة الجهاد بنفي محمد الخامس رحمه الله تعالى، أخذ كل من في قلبه الغيرة على الوطن يتحفز للمقاومة، لم يشذ عن هذا الشعور ذكر أو أنثى، من مختلف الأعمار.
حينئذ كانت مكتبة الهلال بشارع مناستير بالدار البيضاء محجا لمجموعة من الشباب المثقف ثقافة عربية أصيلة وكان صاحبها "سي محمد الهلال" من منطقة عين بلال في الشاوية يحرص على استيراد الصحف والمجلات العربية والكتب الأدبية والفكرية من مصر ولبنان، وكنا نسارع إليه لنقتني حاجتنا مما يصله تباعا، ثم تتحول المكتبة بتجمعنا إلى شبه ناد مفتوح، وكان من جملة رواد هذه المكتبة مجموعة أصدقاء من طلبة الثانويات الحرة المعربة منهم عبد الله الحداوي وأخوه، والعربي السامي، ومصطفى بن موسى، ومحمد عدنان، والكلاوي، وابن خالتي عبد الواحد الهلالي، وهم من أسسوا "منظمة الهلال الأسود" تيمنا بمكتبة الهلال التي كانت تجمعهم ونضجت فيها فكرة الجهاد لديهم، وجدير بالذكر أن هذه المنظمة قد أبلت البلاء الحسن في مقاومة الفرنسيين، وقدمت خيرة شهداء الدار البيضاء.
في تلك الأثناء كان يزورني زميلي في الدراسة الثانوية الأخ البشير الفيكيكي، وحاولنا سويا تأسيس خلية للمقاومة، بل قمنا ببعض الجولات الدراسية للمدينة لمعرفة مدى قابلية بعض الأهداف للعمل المسلح، إلا أنني تقدمت لمباراة دخول مدرسة المعلمين والتحقت بها في مراكش أول شهر أكتوبر 1953م.
وفي مدرسة المعلمين التي كان تستضيفها إعدادية "سيدي محمد" في باب أغمات التقيت بطلبة من مختلف الأعمار كنت أصغرهم سنا، منهم الأخ الشاعر محمد واحي شفاه الله تعالى، والأخ الحسن وجاج (الدكتور السلفي حاليا) أمد الله في عمره، والأخ إدريس الشرايبى رحمه الله تعالى وهو عم رشدي الشرايبى مستشار الملك محمد السادس حاليا، واتفقت نخبة منهم على تنظيم جلسة أسبوعية ليلة كل جمعة للترفيه عن النفس والتسلي عن أتعاب الأسبوع، ودعوني لها فحضرت جلستين أو ثلاثا منها ثم ضاق وقتي عنها فاعتذرت عن مواصلة حضورها، وكان يحضرها بالإضافة إلى بعض الطلبة المعلمين الأخ عبد السلام ياسين، الذي كان مبرزا في لعب الكارطة بكل أساليبها وفي لعب الشطرنج، وفي نهاية كل جلسة كان يعزف للجماعة على الكمنجة، كما أشار إلى ذلك فيما بعد في برنامج مراجعات، وأذكر أنه مرة وضع رقعة الشطرنج أمامي وأخذ يشرح لي حركات بيادقها فضحكت وقلت له: عقلي منشغل هذه الأيام ببيادق من نوع آخر واعتذرت عن التعلم.
وفي مراكش سكنت مع بعض أقاربي من طلبة الكلية اليوسفية في المدرسة العباسية بالزاوية العباسية بباب "تاغزوت"، مما مهد لي الدراسة في نفس الكلية موازاة مع الدراسة في معهد المعلمين.
وفي المدرسة العباسية وجدت حريتي كاملة، غرفة مجانية وحدي لم أكن أحلم بها، و"خبزة" ترمى إلي من كوة الباب كل صباح كما هو نظام إطعام طلبة الكلية، ولم يزعجني فيها إلا البق الذي كان ينتشر في جنح الظلام فلا يترك في جسمي مكانا إلا لسعه. وفي هذه الغرفة أيضا كنت أكتب سرا مناشير صغيرة الحجم ثم أخرج ليلا لتوزيعها، إلا أنني لم أكن أكتم عن الطلبة من سكان المدرسة دعوتي لتحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي، وهو ما جعل طالبا يسكن نفس المدرسة يسمى" سي مبارك الرحماني" يتقرب إلي ويدعوني بين الفينة والفينة لغرفته، فنتحدث عن أوضاع البلاد ومحنة الاستعمار وطريق الخلاص منه، ثم بعد ذلك عرفني على طالب ضرير في الكلية اليوسفية يقرأ بطريقة برايل ويسكن معنا في نفس المدرسة يدعى محمد بن إبراهيم المصلوحي، وهناك في غرفته التقيت بالأخ عبد الجبار الوزير – الممثل حاليا- وكان شابا يافعا قويا ورياضيا ومرحا، يتحف مجلسنا بطرائفه ومستملحاته، حتى إذا غارت النجوم وركنت الأعين إلى النوم سهرنا للمذاكرة فيما ينفع الناس. وفي يوم من الأيام طلب مني الأخ محمد بن إبراهيم المصلوحي مرافقته إلى "سويقة" الزاوية العباسية، ثم وقف بي فيها عند دكان رجل تبدو عليه ملامح الطيبة والسكينة والهدوء الشديد، وقدمني له قائلا:"هذا هو الرجل الذي حدثتك عنه" فأظهر الترحيب، وقال: أنا أحسدك على ما ذكرك به الشيخ ابن إبراهيم" ولذلك أدعوكما للعشاء عندي غدا ببيتي في حي"أَسْوَلْ"، ولما أبديت بعض التحفظ، تدارك الأخ ابن إبراهيم بالموافقة وقال:" موعدنا إذن بعد صلاة العشاء إن شاء الله".
بعد صلاة العشاء في اليوم الثاني توجهت مع الأخ ابن إبراهيم إلى بيت الرجل الذي دعانا، وبعد تناول ما كتب الله لنا من طعام، وجلسنا على صينية الشاي، تحدث صاحب البيت بلهجة جادة وسألنا: هل حقا تريدان الجهاد وتحرير البلاد؟، فقال كل منا: نعم، وأضفت أنا متسائلا: تسأل هذا السؤال وأنا لا أعرف مجرد اسمك الكامل، فرد: نعم صدقت، لقد فاتني أن الأخ ابن براهيم لم يذكر لك اسمي الكامل...أنا أخوك في الله الحبيب الرحماني المحفوظي، ونحن بصدد تأسيس حركة مسلحة للمقاومة، فهل تدرك فضل المشاركة فيها؟ فقلت دون تردد: على الرحب والسعة، نحن كلنا فداء للدين والوطن، وردد الأخ ابن إبراهيم نفس الكلام. وحينئذ أحضر الأخ الحبيب مصحفا وقال: إذا كان الأمر كذلك فنظامنا أن نوثق ذلك بيمين على المصحف، فلم يتردد أحد منا وأدينا ما طلب منا حالا. ثم قام وأحضر علبة صغيرة جدا وفتحها فإذا بها أقراص بيضاء صغيرة تشبه أقراص الأسبرين، وأعطى كل واحد منا قرصا، وقال: "أنا أحتفظ كذلك في كل لحظة وفي كل مكان بقرص من هذه الأقراص، حتى إذا أحاط بي الفرنسيون لاعتقالي بادرت بتناوله وانتقلت إلى الرفيق الأعلى، إنها سم زعاف يقتل للحظته، فلا تهملوها فيتأذى بذلك غيركم". وقبل انصرافنا طُرق باب البيت طرقا خفيفا فإذا بالطارق الأخ مبارك الرحماني ومعه شخص آخر في حوالي الخمسين من عمره، عرفت فيما بعد أنه البطل حمان الفطواكي قائد المنظمة.
ودَّعْنا الرجال، وعُدْنا إلى المدرسة العباسية حيث السكن الجامعي، فلم يطرف لنا جفن، ونحن ندخل مرحلة جديدة من الحياة، مرحلة ليس لها في مواجهة الفرنسيين إلا قاتل أو مقتول. ثم بعد أن ألِفْنَا وَضْعَنا الجديد أطلقنا على حبة السم التي كانت لدى كل واحد منا لقب "العروس" وصار كل منا يسأل صاحبه ضاحكا: "كيف حال العروس؟ لعلك أهملتها أو نسيتها أو قصرت في حقها؟". لقد أخذنا حبتي السم تطمينا لقيادة المنظمة، وما كان أحد منا ينوي تناولها في أي ظرف من الظروف، لأننا نعلم أن الانتحار محرم شرعا، وعندما اعتقل بعض الأعضاء من المنظمة فيما بعد تخلصوا منها، وعندما اعتقل الأخ محمد بن إبراهيم المصلوحي نفسه رمى بها في الأرض، وصبر للتعذيب وآلام الاعتقال والاستنطاق إلى أن أعلن الاستقلال وخرج من السجن، وأكمل دراسته الجامعية بالرباط ثم توفي إلى رحمة الله بتسمم غذائي، فلا نامت أعين الجبناء كما قال خالد بن الوليد رضي الله عنه، أما الأخ الحبيب الرحماني المحفوظي وعبد ربه - الحمداوي، كما كنت معروفا به حينئذ - فلم نعتقل وكانت أرجلنا أسرع إلى الفرار والاختفاء، ثم جمع الله بيننا في عهد الاستقلال سنة 1965، أنا مسؤول في التعليم بالدار البيضاء وهو في وزارة الداخلية برتبة خليفة بدائرة أمزميز، أما الأخ مبارك الرحماني والقائد حمان الفطواكي فقد صبرا للتعذيب أثناء اعتقالهما إلى أن تم إعدامهما على يد السلطة الفرنسية، كما قد أخصص لذلك حلقات أخرى فيما بعد إن شاء الله تعالى، فعليهما رحمة الله ورضوانه، وجعلهما الحق تعالى:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} النساء 69.
هذه عينات من محاولات تغيير جهادية وسياسية ونقابية سواء كانت خطأ أو صوابا، ونماذج من رجال عرفتهم في صغري وكِبَري، آلفتهم وخالفتهم، ولم تكن محاضن أي حركة إسلامية قد ضمتهم أو ربتهم أو درستهم كتب ابن تيمية أو الغزالي أو سيد قطب رحمهم الله، ومع ذلك لم تنخرم المروءة بيننا، لقد كان القاسم المشترك بيننا جميعا هو مروءة الرجال على اختلاف الأهداف والمعتقدات، والمروءة لا تستنبت في الأرض الجرداء التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، ولا تعدي فيتعرض فاقدها للعدوى ممن يحملها طلبا لها، والناس معادن كما قال صلى الله عليه وسلم، والأرواح أجناد مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، ولو كانت المروءة تباع في دكان لاشتراها من افتقدها.
لقد كنت أنتظر من بعض خريجي حركتنا وهم يتغنون ويتفاصحون في المنابر بذكر بعض رموز الدعوة من الشهداء في غير المغرب أن يكونوا في مستوى هذه الرموز حقيقة لا متاجرة ورياء، وأن يكونوا على الأقل مثل من لم يتخرجوا من أي حركة إسلامية، من أبناء الشعب المغربي الذين جاهدوا الاستعمار الفرنسي بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، وأن يتعظوا بعلماء السوء الذين مالؤوا الفرنسيين تحت غطاء مصالح مرسلة وهمية ومقاصد شرعية منتحلة، فيكون لهم موقف أشرف، ينصرون فيه المظلوم ويواسون الجريح ويعودون المريض ويدافعون عن المستضعف مطاردا كان أو سجينا، ويسألون عن المهاجر هل طعم أو جاع، اكتسى أو عري، وجد مأوى أو ما زال مشردا، إلا أن كثيرا منهم خذلوا الجميع رجالا ونساء وأطفالا، وتاجروا بهم وتجسسوا عليهم وشمتوا بمن جاع منهم وشككوا فيمن وجد شجرة يستظل بها أو كسرة خبز يسد بها جوعته، وما زلت أذكر أحدهم كنت أظن به خيرا فاتصلت به هاتفيا وطلبت منه أن يحث بعض زملائه على أن يطالبوا برفع المنع عن جوازات أبناء المهاجرين من الرضع والصبية، فرجع إليَّ بجواب يندى له الجبين إذ قال:"يقولون لك: ليدافع عنهم من ورطهم"، وكأنما آيات الذكر الحكيم وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هي التي ورطت شهداء الأمة الإسلامية ومهاجريها ومعتقليها من أول البعثة النبوية بدءا بسيد الشهداء حمزة ورفاقه الطيبين في بدر وأحد رضي الله عنهم، إلى عصرنا هذا وإلى قيام الساعة، ولا داعي لذكر نماذج أخرى من هذا السقوط الأخلاقي فما لجرح بميت إيلام، وما ذُكِر كاف لأن يتعظ به من غُرِّر بهم من السابقين، ويعتبر به الجيل الجديد من الدعاة الذين عناهم الله تعالى بقوله:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} محمد 38، ولنعد إلى ما نحن بصدده...
وللحديث بقية...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.