الحلقة الرابعة: نماذج من محاولات محو الذاكرة ومصادرة التاريخ اتبعت الأجهزة المختصة عددا من الأساليب المعقدة لمحو ذاكرة الحركة الإسلامية المغربية، وتغيير مسارها القويم منذ مرحلة النشأة والتأسيس، ثم بعد عملية محاولة الاستئصال سنة 1975. وقد ساعدني على رصدها وإفشالها أمران، أولهما معرفتي الدقيقة بخبراء هذه العمليات وطريقة تفكيرهم، أثناء ممارساتي السياسية الحزبية والنقابية، وبعد ظهور أمر الحركة الإسلامية ومحاولة كثير منهم التقرب إليَّ واستقطابي وتضليلي عن هدفي الإسلامي الأصيل الذي نهضت من أجله؛ والأمر الثاني بقاء تنظيم العمق خفيا على صبية مرحلة التأسيس مما يسر الرصد والمتابعة وإحباط مناورات الدس والتخريب. وليست الترهات الصبيانية التي تنشرها الاستخبارات عن تاريخ وهمي لنا باسم شرذمة بيادق الخطيب وفي صحيفتهم إلا حلقة من حلقات تحقن بها عقول السذج في الساحة. إن ما تنشره هذه الزمرة حاليا لا تُعْرَف خلفيتُه واضحةً إلا بمعرفة كاتبِه والمشرفِ على نشره. والكاتب من المستلحقين المستنبتين، عرفت قريبا له كلف بملاحقتي عن طريق الهاتف الذي كان يقصفني به من فرنسا وسويسرا ويطلب من خلاله لقائي من أجل مساعدته على وضع سيناريو فيلم سينمائي زعم أنه يعد لإنتاجه عن حياة الأمير عبد الكريم الخطابي، وكأنما نسي أو جهل أن مؤامرة اختطاف المهدي بن بركة لا يمكن أن تعاد إلا بطريقة هزلية كاريكاتيرية. أما الكاتب نفسه فقد عودوه على الخدمة طمعا ورغبا وحولوه إلى مكبر صوت لما لا يستطيعون الجهر به من الزور ومنكر القول وتلفيق الأخبار، واستغلوا فيه عجزه عن التحرر من ربقة الحاجة إليهم، على صغر سنه وخائر همته، وجهله المطبق بما يسخرونه له من إشاعة أكاذيب عن فترة لم يكن مولودا فيها، فترة ما زال رجالها أحياء ولا يمكنه الكذب عليهم فيها. أما المشرف على تحرير الصحيفة حينئذ فقد كان غلاما في حركتنا قبل ضربها سنة 1975، عاملناه بالحسنى والإحسان، وعندما شكا إلي مستفتيا، وهو في المرحلة الثانوية، أن أباه لص يطعم أسرته حراما، نصحته بستر أبيه ووعظه سرا ومساعدته على الكسب، وخصصت له الحركة مساعدة ثلاثين درهما أسبوعيا كان الشيخ كمال يسلمها له، ثم لما حصل على الثانوية العامة أرسلته الحركة إلى مدينة فاس بنفقة كنت أرسلها من السعودية لمسكنه وطعامه وملبسه ودراسته ؛ لكن بدأت الشيطنة تتضخم لديه وتظهر في معاملاته لإخوانه نصبا وابتزازا لأموالهم، وفتاوى مغرضة لهم بغير علم. أما الفتوى فعندما أفتى لشاب أعزب بجواز خلوته سفرا ومقاما بفتاة متزوجة بغيره، إذا ما سقاها فنجان لبن يحلبه من أمه ويأتيها به. وأما النصب والابتزاز والسرقة، فعندما اتصل بي أثناء هجرتي في السعودية، وطلب مني تغطية ثمن آلة " رونيو" لطبع نشرات دعوية، فأرسلت له صكا مصرفيا بقيمة مليون ونصف سنتيم، تسلمه وصرفه، لكنني عندما اتصلت بالإخوة في الدارالبيضاء أخبروني بأن الشخص المذكور يجمع اكتتابا لمعالجة بعض الشباب في فاس من سرطان أصيب به، وأن غالبيتهم ساهموا في الاكتتاب، حينئذ اتصلت بأحد الشباب الفاسيين القياديين وسألته عن مقدار نفقة علاج الأخ المريض لأساهم في تغطيتها، لكنني فوجئت بما ذكر لي من أن الأمر مجرد خدعة من الشخص المذكور لجمع ثمن شراء " آلة رونيو ". وكانت الحصيلة ابتزازي في هجرتي والنصب على أعضاء الحركة في عدد من المدن لجمع ملايين السنتيمات والاستئثار بها، وكانت عاقبة أمره أن طرد من الحركة. وفي سنة أخرى بعد ذلك وكنت قد زودت لجنة شبابية برصيد مالي بسيط لتنقلهم ودعوتهم وبآلة كاتبة وآلة رونيو، فوجئت اللجنة بأحد الشباب الذي باعوا أنفسهم للأجهزة يزورهم مدعيا بأنه كان في مكة لزيارة الشيخ مطيع ثم قدم لهم تمرا وماء زعم أنهما هدية لهم من الحرم الشريف وبئر زمزم، وهو لم يزره مطلقا، وأنه يحمل مني إليهم رسالة مفادها أن واجبا عليهم أن يسلموه الآلة الكاتبة وآلة الرونيو ورصيدهم المالي وتقريرا عن أعمالهم وأسماء من معهم، فصدقه الشباب ولبوا رغبته فسلم كل ذلك إلى ضابط الشرطة الخلطي، ثم بعد أن أخبروني الخبر عرفوا أنهم وقعوا في مصيدته، لأنه خدعهم بالله . لا عجب إذن مما يقوم به هؤلاء، فحين يتصدى للدعوة النصابون واللصوص تجد الأجهزة وفرة ممن يقوم لها بأدوار التخريب والتجسس في مقابل رفعهم إلى حضيض البرلمان المزور والحكومة المأجورة، ومن يجرؤ على التشهير بوالده ووصمه بالسرقة من أجل دراهم معدودة أو يخدع إخوانه لا يتورع عن التشهير بالحركة التي أحسنت إليه، وتشويه سمعتها وتزوير تاريخها إذا كان ذلك يوفر له مالا وترقية. إن هذه الحملات الهادفة إلى مصادرة تاريخ الحركة الإسلامية المغربية مع ما تنشره حاليا بعض صحفهم ليست بالجديدة علينا، فلقد تقدمتها محاولات لا تكاد تحصى منذ سنة 1975 وقبلها. بعد 1975 كانت محاولة بَتْرِ القيادة المؤسسة ووَصْمِها بما لا علاقةَ لها به، ونِسْبَتِها لغير العمل الإسلامي. لولا أن قيض الله تعالى خروجي إلى المشرق العربي، وما قام به إخوة لنا في الكويت من نصرة فضحت المؤامرة وبينت الوجه الإسلامي للقضية إعلاميا وحركيا، خاصة في مجلتي المجتمع والبلاغ، والمنظمات الطلابية الإسلامية العالمية. فبادرت الأجهزة المغربية إلى إرسال سوري متمغرب هو عمر بهاء الدين الأميري، كلفته بإيقاف الحملة الصحفية المناصرة لنا ومحاولة تشويه سمعتي لدى الإخوة الإسلاميين في الكويت، والافتراء على القيادات الداخلية لحركتنا بما زودته به الأجهزة، وكان من أمر زيارته للكويت ما أثار استغرابي وعجبي ولم أروه من قبل إلا للخاصة. ذلك أنني غفوت بعد صلاة صبح أحد أوائل أيام مقامي في الكويت فرأيت الأميري في المنام وقد دخل علي في يده خنجر يريد أن يطعنني به، وليس لدي سلاح أدافع به عن نفسي، فلم يكن مني إلا أن استغثت باسم الجلالة صائحا بأعلى صوتي " الله " ثم استيقظت مذعورا. والعجيب في الأمر أن أحد الإخوة الإسلاميين القياديين فاجأني بالزيارة في ظهر اليوم نفسه مخبرا بوصول الأميري إلى الكويت، وأنه التقى بعد ساعات من وصوله ببعض الإخوة الإسلاميين ذوي النفوذ في البلد، وعاتبهم على مساعدتهم وإيوائهم لي، وزعم لهم أنني رجل شيوعي وأن ابني محمدا ( عمره حينئذ كان خمس عشرة سنة، وما زالت لحد الآن وقد تجاوز الأربعين آثار السياط على ظهره بادية، وجزء من جلدة رأسه مسلوخا، وآلام الركبة والورك لديه إلى الآن شهادة على ما عانى من تعذيب في المعتقل ) قد صرح للشرطة التي كانت تستنطقه في المعتقل بأنه لا يصلى إلا بأوامر من والده، ولا تربطه رابطة بالحركة الإسلامية، وأن الأمن اكتشف في حسابي المصرفي تحويلا ماليا من الجزائر، ثم طلب منهم أن يعقدوا له اجتماعين أولهما ثنائي فقط بينه وبين عبد الكريم، والثاني يحضرونه بجانب عبد الكريم. ولما طلب مني الأخ الزائر تحديد موعد الاجتماعين قلت له: - أما اللقاء الثنائي فلا داعي له، لأنني ليس لدي سر أريد قوله له أو الاستفراد به لأجله، وأما اللقاء العام بحضوركم فنعم. وفي مساء نفس اليوم كان اجتماعنا ببيت الأخ الدكتور عصام الشربيني المستشار بوزارة الصحة الكويتية، وبعد التحية وتبادل كلمات المجاملة المألوفة بين الناس، بادرني الأميري بقوله: - يا أخ عبد الكريم، أنا كما تعلم لا ناقة لي ولا جمل في الأمر، ولكنك أعرف بقومك، وهم يشيعون عنك ما يشيعون، وقد جئت باتفاق مع الدكتور الخطيب والأستاذ محمد الشرقاوي (صهر للملك ووزير الدفاع السابق) لزيارتك ومباحثتك في الموضوع وكيفية معالجته. أجبته قائلا: - قبل أن أرد على قولك أود أن أخبرك بأن الإخوة أخبروني بما جئت له وما جئت به من مزاعم، ثم أن أُذَكِّرَك ببعض المواقف السابقة لتكون تذكرة وعبرة وتمهيدا: أَتَذْكُرُ يوم شكوتَ إليَّ أن تربية أبنائك تأثرت بأخلاق المغاربة فقلت لك إنك لم تعش بين المغاربة ولم تلتق بهم بعد وإنما التقيت بالنخبة السلطوية الفاسدة...؟ الآن أقول لك إنك ستعرف لأول مرة مغربيا على حقيقته وإن كنت لا أعتز إلا بإسلامي الذي رفعني مع قومي بعد وضاعة. ثم أَتَذْكُرُ أنك اتصلتَ هاتفيا ببيتي مرة لتدعوني باسم الديوان الملكي إلى حضور المسيرة الخضراء في أكادير وأجابك ابني أحمد وعمره حينئذ ثماني سنوات، بأن أباه في مكتبه، فطلبت منه مناداة أمه لتترك لديها توصية، فقال لك : إن أمي لا تتحدث للأجانب وعليك الاتصال بمكتب والدي؟ فهل هذا تصرف صبي نشأ في أسرة شيوعية؟ ثم هل تذكر كم مرةً سعيت لربط الصلة بيني وبين كبار المسؤولين في المغرب مثل الأستاذ أحمد بن سودة، والأستاذ محمد الشرقاوي الذي أخذتني إلى قصريه في الرباط وفي الصخيرات، وحدو الشيكر وزير الداخلية المغربي...الخ؟ فهل كان ربطك لهذه الصلات وتنسيقك لهذه الاتصالات يتم لو كان لرجل شيوعي؟ أما التحويل المصرفي الذي زعمت أنه وصلني من الجزائر فأنا أتحدى أيا كان أن يأتينا بصورة من الصك الخاص به وأنا على استعداد للتوقيع عليه إن ثبتت صحته ونشر صورة له في الصحف، وتبقى قضية بهتانك لابني محمد، واغتيابك له في محنته، وقد تجاوزت من عمرك الثانية والستين، وطالما افتخرت في مجالسك العامة والخاصة بأنك من جيل تلامذة الإمام المرشد حسن البنا رحمه الله تعالى، فهل يحق لي أن أسألك: هل نزلت بهذا التصرف إلى مستوى غلام معتقل في الخامسة عشرة من عمره أم أن ابني هو الذي ارتفع إلى مستوى سنك وسابقتك في التلمذة على الإمام حسن البنا رضي الله عنه؟ لم أكد أنهي كلامي حتى ظهرت على الرجل بوادر الإرهاق والهبوط فبادر الدكتور الشربيني بإسعافه بحقنة في العضل منعشة، وبعد أن سري عليه اقترح أحد الإخوة الحضور تأجيل الجلسة إلى الغد على مائدة الغذاء عند أحد الفضلاء فتم ذلك. وفي الغد اعتذر الأميري بأن ما نقله إلى الكويت مجرد أقوال لغيره، وحاكي الكفر ليس بكافر، ووعد بأن سوف يحل هذه المشكلة عند عودته إلى المغرب مع أصحاب القرار كما سماهم، ثم عرض استعداده للوساطة لدى الأجهزة الأمنية كي لا تخرج أسرتي من بيتها فاعترضت على الوساطة وطلبت منه الكف عنها. بعد حوالي أسبوع مما وقع تلقيت دعوة من الندوة العالمية للشباب الإسلامي لزيارتها، فسافرت إلى الرياض ونزلت ليلتي الأولى بفندق اليمامة فكان من غرائب التقديرات الإلهية ما يلي: استيقظت منزعجا في أول صباح لي مرة أخرى على الرؤية التي رأيتها في الكويت للأميري ممسكا بخنجره ، فاستعذت بالله تعالى من شره وشرها، وبعد الشروق قصدت مطعم الفندق للإفطار فوجدته به على المائدة أيضا. بعد ذلك بأيام سافرت إلى مكةالمكرمة ففوجئت بمكالمة من الأميري ولا أدري من دله على مكان إقامتي، وأمطرني خلالها بوابل من عبارات الاحتجاج والغضب لما دعاه تحريضا مني لصديقي الشيخ حمد الصليفيح الأمين العام للجنة العليا للتوعية الإسلامية في السعودية عليه، حاولت أن أبين له أنني لا علم لي بما يتحدث عنه فلم يصدق، فختمت حديثي معه بالعبارة التالية: - اسمع أيها الرجل، الموضوع الذي تتحدث عنه لا أعلمه مطلقا، وخصومتك مع الشيخ حمد الصليفيح خصومة بين ندين متكافئين ، أنت عزيز بمكانتك عند السلطة المغربية التي أرسلتك وترعاك، وهو عزيز بين أهله وقومه، أما أنا فمجرد مهاجر في سبيل الله ضعيف مستضعف لا قبل لي بما تقول، فأرجو أن لا تحرجني بهذه المواضيع. اتصلت بالشيخ حمد عقب ذلك وسألته عن الأمر وخلفياته فذكر لي أن الأميري قام في الرياض بجولات لدى الأمراء والمسؤولين الأمنيين في السعودية يحذرهم من خطورة قبول إيواء شخص شيوعي مثلي، وأن الشيخ حمد تصدى له وأفشل لدى المسؤولين مسعاه، وبين لهم تهافت ما ينقله وافتراء ما يدعي، وهو لذلك في أشد حالات الغضب والغيظ. أما الأصل الذي حاول الأميري أن يسقط به علي تهمة الشيوعية فيعود إلى نِشأة الحركة الوطنية المغربية المناوئة للاستعمار الفرنسي، وكانت في مبتدئها سلفية التوجه إسلامية العقيدة، فانضم إليها وتربى في أحضانها الشباب وكنت منهم، ثم لما خاضت معركة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي سنة 1953 كنت بفضل الله تعالى من رعيلها الأول، ثم لما حصل المغرب على استقلاله انشق حزب الاستقلال الذي قاد الحركة الوطنية إلى جناحين ( حزب الاستقلال الأم ، وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، فكان حزب الاستقلال مؤيدا للنظام بتوجه نخبوي علماني يحتفظ ببقايا من رجال الحركة السلفية المؤسسة ومنهم الشيخ علال الفاسي والشيخ محمد المختار السوسي والشيخ الشهيد عبد العزيز بن ادريس رحمهم الله تعالى، وكان الاتحاد الوطني معارضا للنظام بتوجه شعبي، ويحتفظ كذلك ببقايا أخرى من شيوخ الحركة السلفية المؤسسة على رأسهم شيخ الإسلام محمد العربي العلوي والشيخ محمد الحمداوي والدكتور المهدي بن عبود وبعض الشبان السلفيين من مرحلة المقاومة على رأسهم عبد ربه ( عبد الكريم مطيع )، ثم ما لبث أن هيمن على هذا الحزب تيار الاشتراكية بقيادة المهدي بن بركة، وفشلت نخبته الإسلامية في أسلمته فابتعدت عنه، واتجهت للدعوة الإسلامية المباشرة خارج نطاق الحزبية. وكانت لي جلسات مشاورة ومداولة حول ما ينبغي عمله للإسلام والمسلمين، مع مجموعة الشيوخ المنسحبين من الاتحاد الوطني( ومنهم الدكتور المهدي بن عبود والشيخ محمد الحمداوي رحمهما الله تعالى)، ثم جلسات أخرى لتبادل الرأي حول الموضوع نفسه مع الشيخ علال الفاسي والشيخ محمد المختار السوسي رحمهما الله من حزب الاستقلال؛ ومن هنا كان المفصل الحاسم الذي انطلقت منه في عملية التأسيس بعد أن استوعبت الحال وقدرت الخطوات وجمعت آراء الرجال. هذه هي المرحلة الغامضة والمنطقة الغائمة في تاريخ تطور الحركة الإسلامية المغربية ونشأتها، وقد حاول الأميري استغلالها وتوظيفها بتوجيه من الأجهزة الأمنية المغربية، وهو ما يفعله حاليا بعض المستكتبين من صبية الصحافة وشحاذي نكهة المرجعية الإسلامية الذين يجهلون جهلا مطلقا مبتدأ الأمر ومنتهاه. وخلال مقامي في مكةالمكرمة ما بين 1976 و1979 تردد عليَّ مرارا الدكتور توفيق الشاوي، وكان مستشارا لشركة أرامكو ثم لأول برلمان مغربي ثم لبعض الأمراء في السعودية، وفي كل مرة كان يعرض وظيفة لتملأ وقتي وتسليني كما يدعي، عرض عليَّ مرةً الانتقالَ إلى السودان لأكون مستشارا للنميري في مجال تطوير الأربطة القرآنية فاعتذرت بكل أدب، وعرض عليَّ ثانيةً العملَ بوزارة التعليم في الرياض مستشارا تربويا فصرفته بكل احترام، وكانت الثالثة عندما اتصل بي هاتفيا من جدة ودار بيننا الحوار التالي: قال: ما رأيك في أن تعينك السعودية أستاذا زائرا تتنقل بين عدة أقطار عربية لإلقاء بعض المحاضرات، ويكون لك بجانب راتبك تعويض مجز عن السفر والتنقل؟ لكن بشرط أن تنسى المغرب لبضع سنوات ثم نأتيك بأهلك وأبنائك إلى السعودية بعد ذلك؟ أجبته: أشكر لك اهتمامك وحسن محاولتك المساعدة، ولكنني لست في حاجة إلى هذا، فلدي ما يشغلني ويملأ وقتي، دعوتي وبلدي، لا يمكن أن أنسى دعوتي أو أتخلى عن وطني، وجزاك الله خيرا في كل الأحوال، أما أهلى وأبنائي فلهم الله تعالى هو مولاهم. قال: يا أخي ليكن في علمك أن السعوديين متضايقون من وجودك في مكة. قلت: الأمر بسيط ، أغادر إلى أوربا في أقرب فرصة، فليس لدي هنا ما يربطني سوى الحج والعمرة وقد أديتهما مرارا. قال: أرى أن هذا سيجعلني أنفض يدي من قضيتك. قلت: ومن طلب منك أن تضع يدك في قضيتي أول مرة؟ انفض يدك عاجلا من الأمر، وشكر الله لك عمل الفضولي الذي تقوم به. قَطَعَ المكالمة، وتوجهتُ مباشرة إلى شركة الخطوط الجوية وحجزت تذكرة للسفر إلى روما بعد يومين. وفي مساء اليوم نفسه اتصل بي الأخ الدكتور عبد الحميد أبو سليمان الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي ودعاني للقدوم عنده في الرياض فاعتذرت دون ذكر السبب، ولكنه ألح في الأمر فأخبرته بعزمي على السفر مودعا، فقدم عندي مستفسرا ؛ وكان تعليقه على موقف الدكتور توفيق قوله: - الدكتور توفيق الشاوي ليس سعوديا ولا يتكلم باسم المملكة، فاعتبر كل كلامه لغوا، المملكة العربية أرض لك ولكل المسلمين، ولن ترى فيها ما يزعجك، وأنت في ضيافتها على الرحب والسعة. ثم أخذ جواز سفرى وكانت تأشيرتي فيه لعمرة، فسعي لتحويلها إلى إقامة. هذا بعض ما كان في الهجرة، أما في المغرب فلما بدت لهم ملامح الفشل سعوا إلى بتر جمهور الدعاة عن القيادة والاستحواذ عليه، وفي هذا الاتجاه عَمَدَتْ بأوامر أمنية مجموعةٌ من صبية مرحلة التأسيس - على رأسهم ثلاثة غلمان من أسر فقيرة في حوالي العشرين من أعمارهم ، إلى الزعم بأن قيادة الحركة تريد ضبط الأعضاء، وأن على الجميع القيام بإحصاء دقيق يشمل كل الخلايا وأسماء أعضائها وعناوينهم ومستوياتهم الدراسية وحالتهم المدنية، ثم سلموا ما استطاعوا جمعه من قوائم لجهاز حماية التراب الوطني "DST " يدا بيد إلى الحسين جميل ومحمد الروداني( عنان). كما أن من محاولات محو الذاكرة وإفساد التوجه العقدي للحركة أيضا ما قام به أحد المشعوذين المرتبطين بالأجهزة من ترويج إشاعات كاذبة عن كرامات نسبها إليَّ ، ورجالٍ من الجن يسخرهم، أرسلهم إلى مكة والكويت فرأوني والتقوا بي حسب زعمه. وتبعه في نفس النهج شاب آخر من فصيلة المتعاونين خطب فتاة واتفق معها على ابتزاز بعض المغفلين من المتعاطفين بادعائها الإغماء والتحدث عن أخيهم المهاجر وأخباره وكراماته، ثم لما فسخت خطوبتها اعترفت بأن أمرها مجرد خداع متفق عليه بينها وبين خطيبها السابق، وكان واجبا علي أن أتصدى لهذه الترهات حال ورود أخبارها إلي، وأن استأصلها حفاظا على سلامة العقيدة وصفاء النهج واستقامة خط الدعوة. ثم بعد ذلك قامت قيامة " أُغَيْلِمَةٍ " أمسكت الأجهزة بتلابيبهم من أجل تهديم ما توهموا قابليته للهدم من صرح الحركة وأركانها، فصالوا وجالوا وافتروا وبهتوا، مؤملين أن يكونوا وارثيها ومرتضعي ألبان المتاجرة فيها. لكن ظنهم خاب، لأن للدولة منهجا خاصا، تعامل به العملاء من الطبقات السفلى وغير المرتبين في سلم نخب السلطة. لذلك استخدمت أولا أبناء الطبقة الدنيا للهدم والنباح والهراش والمشاكسة الشرسة، ثم صرفتهم بمكاسب مادية تناسب وضاعة منزلتهم الاجتماعية مدرسين في بعض المراكز الإسلامية بأوربا، أو موظفين في بعض المرافق الأمنية، أو متعاونين أمنيا تحت غطاء مشاريع تجارية بسيطة. ثم فسحت بعد ذلك مجال القيادة لبعض المستلحقين المستنبتين في الساحة، من أبناء النخبة الموالية لها تاريخيا وماليا واستخباراتيا وسلوكيا. ممن حاول زعيمهم المدعو ( عبد الإله بنكيران )الاندساس في الحركة عقب هجرتي، وكان يتعامل مباشرة مع ضابط الأمن " الخلطي " وكلما حزبه أمر مع أصحابه طمأنهم مفتخرا بأن سيأتيهم بالتوجيه الرشيد منه. قام هذا الشخص بزيارتي في موسم الحج بمكةالمكرمة، وبعد أن عرفني باسمه ولقبه ومهنته، التمس مني استضافته في فترة الحج نظرا لما زعم من ضيق ذات يده، ثم لما هم بالعودة طلب أن أساعده بثمن تذكرة السفر الذي زعم أنه استدانه من بعض أصحابه فأعطيته ما طلب فرضا حسنا. وفي سنة 1980 بعد أن خرجت من السعودية إلى روما عاود الاتصال بي وطلب الإذن له بزيارتي فاعتذرت بأني لا أستطيع مساعدته في شراء تذكرة السفر، ولكنه ذكر أن "إخوة في الله ! " سوف يشترونها له، وبعد أن أذنت له زارني محملا بأنواع حلوى ولذيذ طعام زعم أنه إكرام منه لي في غربتي، وأنزلته في فندق وأنفقت عليه من ضائقتي، دون أن أحرجه بالإشارة إلى سخافة أساليبه التي يروم بها مرسلوه معرفة مقدرتي المالية واستنزافها في مرحلة حرجة أمر بها، إذ كنت قد أجبرت على مغادرة المشرق العربي، ولم أحصل بعد على حق الإقامة أو اللجوء السياسي في أي بلد، وما لديَّ من نفقة يتناقص يوما عن يوم، وليس عندي رافد مالي، كما لم أُلَمِّح له بأنني أعرف خلفية زيارتيه السابقة واللاحقة، وشبكة اتصالاته السرية وهو في ضيافتي، ثم زاد فأسرف عليَّ وطلب مني تغطية نفقة سفر له إلى فرنسا يستمر يومين أو ثلاثة فأعطيته ما طلب. ثم عند عودته من فرنسا قال لي:" أرجو أن تعطيني ما أشتري به هدايا لزوجتي ولأهلك وأبنائك، فلا يجوز أن أعود إليهم خاوي الوفاض"، فأعطيته ما أراد، ولما رجع إلى الدارالبيضاء اتصلت بأهلي فذكروا لي أنه قبل سفره إلى روما طلب من ابني مالا اشترى به لحما أتى به إلى بيتي راجيا أن يطبخه أهلي ويضيفوا له حلوى يأخذها إلي، فضحكت وتذكرت قول المتنبي في كافور ( جوعان يأكل من زادي ويمسكني)، حينئذ عرفت طينة الرجل ومعدنه، وتذكرت كلمة عابرة صدرت منه عندما كان عندي إذ وصف نفسه بالذكاء الذي يجعله يزوج البَخْرَاءَ من فاقد الشم. ثم بعد حين أرسل إليَّ يطلب ثمن التذكرة التي أتى بها إلى روما. هذه نماذجُ من محاولات محو الذاكرة، وأصنافٌ من المتشيطنة الذين سُخِّروا في الأمر، ومن الذين يقود بعضهم حاليا أحزاب" نكهة المرجعية الإسلامية " ، ممن اعتمدت عليهم الأجهزة في مهمة تخريب الحركة وتشويه سمعتها ومصادرة تاريخها، اكتفيت في هذه الحلقة بحالات منها مختزلة، لأن محاولة استقصاء طرائف شطحاتهم وتصرفاتهم يخرج بنا إلى التأليف الموسوعي التراثي على غرار ما كتب الجاحظ في حيوانه وبيانه وتبيينه، وابن عبد ربه في عقده الفريد، وهذا لا يستقيم مع النهج الذي أتبعه. وما كنت لأذكر هذه النماذج لولا إلحاح الإخوة على ذلك، رغبة منهم في التوثيق التاريخي وإثراء التجربة، وتذكير الجيل الصاعد بسبل المنحرفين والماكرين بدعوة الله تعالى والفاتنين صف أوليائه، لاسيما وهم مازالوا سادرين في غيهم، ولا تبدو عليهم مخايل التوبة والكف عن المتاجرة بالدين، وقد أخبرنا القرآن الكريم والسنة النبوية خبرهم وبينا صفاتهم وحذرا من ضلالاتهم (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) الأنعام 55