ينكر الأمازيغ الجدد الذين يريدون الخروج عن صف الوحدة المغربية (الدعاة الأمازيغ الانفصاليون) أن يكون الظهير البربري الذي أحدثه المحتل الفرنسي أسلوبا من أساليب إضعاف صف المقاومة الوطنية المغربية التي لم يكن يميز فيها بين عربي وأمازيغي، فالكل كان يجاهد المحتل لنيل الحرية من أجل تحقيق العبادة، ولمحاربة مخططاته التي كانت ترمي لجعل المغاربة خاضعين لسياسة وثقافة الفرنسيين، وتحريف سلوكهم وعقيدتهم الإسلامية.. ولقد اشتهرت خطتهم في شرخ وحدة المغاربة عربا وبربرا بخطة "فرق تسد"، وكانت أهم السياسات المعتمدة لتحقيق ذلك ما اصطلح عليه بسياسة فرنسا البربرية في المغرب، والتي توجت بإصدار الظهير البربري (17 من ذي الحجة 1340ه/16 من مايو 1930م) الذي ينص على جعل إدارة المنطقة البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة "حكومة المخزن" والسلطان المغربي، كما يدعو إلى إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة المحلية للبربر، وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات "الشريفي" المستند إلى الشريعة الإسلامية.. لقد دعا الظهير البربري إلى تحكيم قانون العقوبات الفرنسي في القبائل البربرية التي تتحاكم بالعرف والعوائد، وهي قبائل مسلمة كانت تعتبر التشريعات الإسلامية هي أساس الحكم، وإن انحرفت في العديد من القضايا التي احتكمت فيها إلى التقاليد والأعراف المخالفة للشرع، لكن ذلك ليس مسوغا للقول، كما يعبر عنه البرابرة الجدد، بأن إنشاء تلك المحاكم كان ضروريا حتى تكتمل الخريطة القضائية في المغرب، ولا ضرر إذا كان ذلك على حساب الشريعة الإسلامية وطريقا لتنصير الأمازيغ على حد تعبير البرابرة الجدد دائما.. يقول أحد هؤلاء الأمازيغ الجدد وهو المسمى محمد بودهان مادحا الظهير البربري: "..فإنه بذلك كان متقدما، وبمسافات طويلة، حتى على فرنسا التي أصدرت هذا القانون، متقدما عليها ليس بالنسبة لذلك العصر، بل حتى بالنسبة للعصر الراهن حيث لا زالت فرنسا متمسكة بنوع من التسيير المركزي ذي طابع مخزني حقيقي..".. وتفنيدا لتلك المزاعم نسوق تصريحا ل"المسيو سوردون" في محاضرة ألقاها على طلبته من الضباط الفرنسيين المرشحين للحكم في القبائل البربرية: "إذا كانت العادات العرفية لا مناص لها من الاضمحلال أمام شرع مُدَوَّن، فلماذا لا تضمحل أمام شرعنا نحن الفرنسيين؟ ألا يمكن أن يتخذ "البرابرة" في يوم من الأيام نفس الشرائع الفرنسية؟" (الحركة الوطنية والظهير البربري للأستاذ الحسن بو عياد). وجاء على لسان المستشرق "جودفروي دومومبين": "إنه من الخطر بالفعل أن نسمح بتكون كتلة متراصة من السكان الأصليين تكون اللغة والمؤسسات فيها موحدة، علينا أن نتبنى لحسابنا المقولة المتبعة سابقاً من طرف المخزن "المغربي": "فَرِّقْ تَسُدْ"، إن وجود العنصر البربري لهو قوة نافعة مضادة للعنصر العربي يمكننا استغلاله أمام المخزن" (كتاب "الفرنكفونية ضد اللغة الفرنسية"). ويقول "جودفروي" أيضا في كتابه "المهمة الفرنسية فيما يخص التعليم في المغرب" الصادر عام (1928م): "إن الفرنسية -وليست البربرية- هي التي يجب أن تحل مكان العربية كلغة مشتركة وكلغة حضارة"، ثم يقول: "وجود العنصر البربري مفيد كعنصر موازن للعرب يمكننا استعماله ضد حكومة المخزن"، ويقول كذلك: "إن قوام السياسة البربرية هو العزل الاصطناعي للبربر عن العرب، والمثابرة في تقريبهم منا من خلال التقاليد"، وهذا أيضا ما قرره الكولونيل "مارتي" في كتابه "مغرب الغد" الصادر في تلك الفترة "أن المدارس البربرية يجب أن تكون خلايا للسياسة الفرنسية، وأدوات للدعاية، بدلا من أن تكون مراكز تربوية بالمعنى الصحيح". ولذلك دعا أن يكون المعلمون فيها وكلاء لضباط القيادة ومتعاونين معهم، ودعا أن تكون المدرسة البربرية فرنسية بتعليمها وحياتها، بربرية بتلاميذها وبيئتها. وقبل أن نتحدث عن الظهير البربري لننظر إلى خصائص السياسة البربرية التي انتهجتها فرنسا في كل من المغرب والجزائر حتى تستطيع إضعاف التآلف الاجتماعي والوحدة الدينية التي تجمع العرب والبربر على أرض المغرب: يقول العلامة محمد مكي الناصري في مقدمة كتابه "فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى" (ص:15-16-17) تحت عنوان خصائص السياسة البربرية: ("السياسة البربرية" ليست بسياسة جديدة، كما يظنها كثير من إخواننا المسلمين، بل هي سياسة قديمة، أصبحت من تقاليد الاستعمار(1) الفرنسي في شمال إفريقية، وقد نشأت هذه السياسة في تاريخ الاستعمار، منذ اعتداء فرنسا على جارتنا الجزائر (13 يونيو 1830) ومنذ اليوم الذي بسطت فيه سلطانها على "القبايل" الجزائرية "Kabyles"، وهي سياسة ترمي إلى مقاومة الإسلام بصفة كونه قانونا، ومقاومته بصفة كونه عقيدة، ومقاومته بصفة كونه حارسا للثقافة العربية، ومبشرا بها بين الناس، ومقاومته بصفة كونه دستورا أساسيا للأمة المغربية، كيَّف عقليتها تكييفا خاصا، ونظّم مجتمعها تنظيما يحميها من الفناء والاندماج. وفرنسا عندما وضعت يدها على شمال إفريقية، فكرت في أن تضم إليها هذه الأمة المغربية المسلمة، الممتدة في تونسوالجزائر ومراكش، ضمّا نهائيا، وأجمع ساستها ومستعمروها ومبشروها وعلماؤها الاستعماريون على أن هذه البلاد لا يمكن الاطمئنان عليها إلا بعد إبادة الإسلام منها، بدعوى أن الإسلام دين يبث في معتنقيه عاطفة المقاومة للأجانب، ويحول دون اندماجهم في أهل الملل الأخرى، وفوق ذلك يربط معتنقيه على تباعد أوطانهم برباط روحي عظيم، فيخلق فيهم وحدة في الشعور والفكرة والمثل الأعلى. ويساعد على توجيههم حيثما كانوا في اتجاه واحد. ورأت أن الشمال الإفريقي الذي كان خاضعا للرومان لم يزل في ثورات مستمرة، إلى أن تحرر من النير الروماني الغريب، بفضل عاطفته الوطنية الاستقلالية وحدها، فماذا يكون تأثير هذه العاطفة، في تهديم النفوذ الفرنسي اليوم، وقد انضاف إليها عامل جديد هو "الإسلام" الذي يقوي هذه العاطفة، ويغذي المسلمين، بالثورة على الأجانب، وتهديم نفوذ الدخلاء؟ فالسياسة البربرية في نظر الاستعمار الفرنسي هي خير علاج يعالج به الموقف، وأحسن سلاح تحارب به الأخطار المقبلة، لأن هذه السياسة تعمل على إحياء الأعراف البربرية القديمة قبل الإسلام وإدماجها في القانون الفرنسي، وتكوين خليط منهما تفرضه على المغاربة، حتى يتحاكموا إليه، بدلا عن القانون الإسلامي، وهذه السياسة تدّعي أن البربر لم يبلغ الإسلام إلى قلوبهم وأنهم ما عرفوا الإسلام إلا معرفة سطحية. ثم أصبحت تدّعي اليوم أن البربر ما عرفوا الإسلام وما آمنوا به في يوم من الأيام، وأصبحت لا تتورع عن إثبات أن البربر كانوا وما زالوا مسيحيين(2)، وأن دعاة المسيحية الذين بثتهم فرنسا بين القبائل البربرية، إنما هم وعاظ يذكرون إخوانهم البربر بدينهم القديم، لا دعاة إلى دين جديد أو معتقدات غريبة. بل يتجاوز كتّاب فرنسا الاستعماريون هذه الدعوى إلى دعوى أبلغ وأشد، ذلك أنهم يعلنون في كتبهم أن البرابرة الذين فتحوا اسبانيا وغزوا فرنسا وفتحوا إيطاليا إنما كانوا برابرة مسيحيين، ويعلنون فوق ذلك كله أن طارق بن زياد القائد البربري المسلم الذي قاد جيوش العرب والبربر إلى الأندلس، والذي كان رمزا للوحدة الإسلامية بين العنصرين في ذلك العهد، إنما كان بربريا مسيحيا أو على الأقل بربريا غير مسلم!(3) وبهذا تريد فرنسا أن تدمج جمهرة البربر في الكتلة المسيحية الكاثوليكية. والسياسة البربرية فيما وراء ذلك، تعمل من جديد، على بربرة المغاربة الذين استعرِبوا لسانا ودما وروحا من جهة، وتعمل على فرنستهم من جهة أخرى، وتسعى كل السعي لمحو العربية، وإبادتها من الأوطان المغربية، حتى تبيد معها تلك الروابط الفكرية الوثيقة، التي تربط المغاربة بإخوانهم المشارقة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا). 1- الأولى التعبير بلفظ الاحتلال بدل الاستعمار. 2- الأولى تسميتهم بالنصارى كما ذكر الله تعالى، حتى لا ينسبوا إلى المسيح عليه السلام وهو منهم بريء. 3- هذه الدعوى نقرؤها كثيرا في كتب المبشرين (المنصرين) الفرنسيين ومجلاتهم التبشيرية وصحفهم الدينية في باريس والجزائروتونس ومراكش فلا نهتم بها، ولكن الشيء الغريب الذي يستلفت النظر، هو أن هذه الفكرة أصبحت فكرة يدافع عنها رجال العلم والقانون من الفرنسيين، وقد ظهر أخيرا كتاب اسمه "العدلية الشريفة أصولها، وظيفتها، نظامها المقبل" ألفه احد مشاهير القانونيين من الفرنسيين في شمال إفريقية. اسمه جيرو Guiraud كلفته فرنسا بإصلاح العدلية التونسية، ثم أدخلته أخيرا في لجنة إصلاح العدلية المغربية، وقد جعل أساس إصلاح القضاء المغربي، قائما على فكرة: أن المغاربة مسيحيون يجب أن لا يحكموا بالإسلام، وذكر كل هذه الدعاوى التي عرضناها، ودافع عنها من أول صفحة في الكتاب إلى آخر صفحة، وأهدى كتابه هذا إلى "أصدقائه المغاربة". فلينظر المسلمون هذه الغرائب؟..