مع متم سنة 2012 تكون قد مرت 100 سنة على حدث التوقيع على معاهدة الحماية، التي أصبح المغرب بموجبها تحت الاستعمار الفرنسي والإسباني. واليوم، حينما نستحضر بعض محطات هذه السنوات المائة، نراهن على إنعاش الذاكرة المغربية والتذكير بما قام به العلماء والسياسيون من مهام لاستعادة الاستقلال والحرية. نعترف ب«أن أكبر الحروب ليست هي حرب الحديد والنار، ولكنها حرب الذاكرة». لذلك هذه سلسلة عن تاريخنا المغربي الحديث. تاريخ اخترنا أن نصيغه بلغة الحاضر لكي نستشرف من خلاله المستقبل. أربع حلقات نعرض فيها لفترة حكم المولى عبد الحفيظ والتوقيع على عهد الحماية، ونبسط للخلفيات التي دفعت الفرنسيين لاختيار محمد بن يوسف سلطانا على المغرب، وكيف اندلعت الثورات المسلحة قبل وبعد نفي السلطان الشرعي. وحكاية الظهير البربري ووثيقة المطالبة بالاستقلال، قبل أن نختم باللحظات العصيبة التي عاشها محمد الخامس رفقة أسرته في المنفى، والدور الذي لعبه الحسن الثاني، وهو وقتها ولي للعهد في استعادة استقلال البلاد. ارتبطت الحماية الفرنسية أكثر باسم الجنرال ليوطي. لقد عينته فرنسا أول مقيم عام بالمغرب، واستمر في أداء مهامه حتى سنة 1925 حيث عمل بكل الوسائل على توطيد دعائم الحماية الفرنسية بالمغرب، بإحداث إدارة مركزية وجهوية ومحلية استعمارية تتحكم في كافة السلطات، مع الاستعانة بالقياد والباشوات. في الوقت الذي ترك للسلطان سلطات محدودة تمثلت في دوره الديني وتوقيع الظهائر. غير أن استقالة ليوطي، ستحول نظام الحماية إلى إدارة مباشرة توسعت بموجبها سلطات المقيم العام. لم يقف المغاربة مكتوفي الأيدي بعد الذي حدث، واندلعت المقاومة المسلحة في كل جهات المغرب. ففي الجنوب، برز المقاوم أحمد الهيبة ابن ماء العينين، الذي بايعه أهل سوس على الجهاد، حيث انطلق من تيزنيت في ماي من سنة 1912، شهرين على توقيع عهد الحماية، ثم دخل إلى مراكش في ال18 من غشت حيث سيتواجه مع الفرنسيين بقيادة الكولونيل «مانجان» في معركة سيدي بوعثمان الشهيرة حيث انهزم في6 شتنبر1912. ولم تقتصر أسباب الهزيمة على ضعف مجاهدي ماء العينين فقط، كما كتب المؤرخون، ولكن الموالين للفرنسيين من قواد الحوز أضرموا النار في معسكر «مربيه ربه»، فعلم أن العدو أمامه والخيانة والغدر وراءه، خصوصا بعد أن استطاع الكلاوي اختراق حاشية الشيخ أحمد الهيبة، والاتصال مباشرة مع أقرب شخص له وهو حاجبه . ودأب الكلاوي على تقديم الرشوة له حتى تمكن من الحصول على أسرار خطط الهيبة وأعطاها هو بدوره للفرنسيين. وحينما دخل الفرنسيون إلى مراكش، عينوا المدني الكلاوي باشا عليها، جزاء له على ما قدمه للفرنسيين من دعم في مواجهة ماء العينين. وفي الأطلس المتوسط، استعان المقيم العام «ليوطي» بالقياد وخاصة الكلاوي والكندافي والمتوكي، وتمكن من إخضاع الجنوب الغربي سنة1913، ثم تازة في ماي سنة 1914 بعد استسلام المقاوم الحجامي، حيث ستنتقل جيوش الاحتلال بقيادة الكولونيل «مانجان» إلى الأطلس المتوسط، لتواجه في تادلة مقاومة موحى أوسعيد، وموحى أوحمو الزياني. وفي الأطلس الكبير، كانت المواجهة بين القوات الفرنسية وقبائل آيت عطا بقيادة المقاوم عسو أوبسلام في معركة بوغافر شديدة، قبل أن تنتهي المقاومة في25 مارس1933 حيث تمكنت فرنسا سنة 1934 من احتلال كل التراب المغربي بالقضاء على المقاومة المسلحة. وقبل ذلك، وفي الريف، كانت مقاومة محمد امزيان قد فتحت باب الجهاد ضد المستعمر، قبل أن تنتهي باستشهاده في ماي من سنة 1912 ، قبل أن تظهر بعد ذلك مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي منذ غشت 1920، وهو الذي وحد القبائل الريفية، ونظم الجيش، وقهر القوات الإسبانية بقيادة الجنرال «سيلفستري» في معركة أنوال الشهيرة. الظهير البربري وميلاد الحركة الوطنية لا يخفي الكثيرون من دارسي تاريخ المغرب الحديث أن الظهير البربري، الذي راهنت عليه فرنسا لتفرقة المغاربة بين بربر وعرب، كان بمثابة شهادة ميلاد الحركة الوطنية التي وجدت في المساجد الفضاء المناسب للاحتجاج حيث كانت الصيغة الشهيرة: «اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير، لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر». لم يتردد الكولونيل “مارتي” وهو يستعرض فلسفة الظهير البربري الذي اختارته فرنسا للتفريق بين مكونات المجتمع المغربي، في القول في كتابه “مغرب الغد” “إن المدارس البربرية يجب أن تكون خلايا للسياسة الفرنسية، وأدوات للدعاية، بدلا من أن تكون مراكز تربوية بالمعنى الصحيح”. ولذلك دعا إلى أن يكون المعلمون فيها وكلاء لضباط القيادة ومتعاونين معهم، ودعا أيضا إلى أن تكون المدرسة البربرية فرنسية بتعليمها وحياتها، بربرية بتلاميذها وبيئتها”. إنها الخلفية التي دفعت فرنسا لتنزيل ظهير، أو مرسوم، هو بمثابة قانون صدر في 16 ماي من سنة 1930، ووقعه السلطان محمد الخامس. وملخص هذا الظهير أنه «المنظم لسير العدالة في المناطق ذات الأعراف البربرية والتي لا توجد بها محاكم شرعية»، إذ نص على جعل إدارة المنطقة البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة «حكومة المخزن» والسلطان المغربي. مع إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة المحلية للبربر، وإحلال قانون العقوبات الفرنسي، محل قانون العقوبات «الشريفي» المستند إلى الشريعة الإسلامية. ومن ثم، قام هذا القانون بنوعين من العزل تجاه المناطق البربرية، أولهما عزل الإدارة السلطانية عنهم، وعزل الشريعة الإسلامية عن التقاضي بينهم، على اعتبار أن العادات والأعراف البربرية كانت سابقة على الإسلام. وكان البربر، وقتئذ، يشكلون حوالي 45 في المائة من سكان المغرب، وينتشرون في بلاد الريف وجبال الأطلس. سيحمل محضر إحداث الظهير البربري خلفيات هذه الخطوة التي أقدمت عليها سلطات الاستعمار، حيث سيذكر محضر اللجنة المكلفة التي أعدت المشروع أن الفرنسيين رأوا أنه لا ضرر من كسر وحدة التنظيم القضائي بالمنطقة الفرنسية عندما يكون الأمر متعلقا بتقوية العنصر البربري، وذلك لتحقيق «توازن» مع العنصر العربي، وتحقيق فوائد من الناحية السياسية للاستعمار. لأنه يضع البربر في مواجهة السلطان المغربي والشريعة الإسلامية والعرب، ويحقق التصاقا بين البربر والاستعمار. نزل الظهير البربري، ثم فتحت المدارس في المناطق البربرية لتشجيع النزعة الانعزالية، إذ منع الحديث فيها باللغة العربية، ودرس فيها التاريخ على أن العرب «غزاة»، وأن البربر هم أصحاب البلاد الأصليون، وأنهم قريبون من الحضارة الأوربية التي تنتمي إلى الحضارة اليونانية. لقد اعتبرت فرنسا وجود العنصر البربري مفيدا كعنصر موازن للعرب يمكن استعماله ضد حكومة المخزن. إضافة إلى أن قوام السياسة البربرية وهذا الظهير الجديد، هو العزل الاصطناعي للبربر عن العرب، والمثابرة في تقريبهم من المستعمر من خلال التقاليد. لقد صدر الظهير البربري بتزامن مع تنامي النشاطات التبشيرية في الأوساط البربرية. وقد كتب الجنرال «بريمون» في كتابه «الإسلام والمسائل الإسلامية من وجهة النظر الفرنسية» الصادر سنة 1932 أنه «يجب محو إسلام البربر وفرنستهم». أما الأب «جيرو» فقد أكد في كتابه «العدالة الشريفة: عملها، تنظيمها المستقبلي» الصادر في 1930 على أنه «يجب توجيه غزو معنوي للبربر. الغزاة سيكونون من الإرساليات التبشيرية.. لنكلم هؤلاء الناس حول المسيح». وحسب تقارير كنيسة فرنسية، فإن فكرة «الظهير البربري» وتنصير البربر، كانا إستراتيجية لا محيد عنها بالنسبة إلى فرنسا. أما بالنسبة إلى المغاربة، فقد أضحت مواجهة تنزيل هذا الظهير، قضية حياة أو موت. لقد كتب دانييل ريفيه الأستاذ، آنذاك، بجامعة السوربون في كتابه «المغرب أمام امتحان الاستعمار» إن المغاربة تمسكوا بما لم يستطع الاستعمار أن ينتزعه منهم». حيث اصطدم هذا المرسوم مع جيل بأكمله، ونهض هذا الجيل لمواجهته، واستغل هذه المواجهة لإيقاظ النزعة التحررية. لقد اختارت الحركة الوطنية أن توظف المجال الديني في معركتها ضد ما حمله الظهير البربري من إجراءات. وهذا ما وفر للقضية الوطنية حشدا جماهيريا كبيرا بعد أن انطلقت من المسجد الكبير في «سلا» حركة احتجاج ستشمل مدنا عديدة وبعد الدعاء الشهير الذي كان يردده المصلون بعد كل صلاة «اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر»، لتشتعل المظاهرات، وينضم التجار والصناع إلى المتعلمين. لم يجد المستعمر غير أن يواجه الحركة الوطنية، الآخذة في التكون، بالقمع واعتقال المحرضين. لكن المظاهرات تأججت بشكل أكبر، واستمرت في بعض المدن كسلا وتطوان وطنجة، عدة أيام متواصلة، حيث تكونت أول جماعة للكفاح الوطني، وأخذ أعضاؤها أسماء حركية على أسماء العشرة المبشرين بالجنة، وأطلقت هذه الجماعة على نفسها اسم «الطائفة»، قبل أن تكتب في غشت من سنة 1930 عريضة لتقدمها إلى السلطان محمد الخامس تضمنت ثلاثة بنود أساسية وهي: إلغاء التشريعات المتعلقة بالظهير البربري، وتوحيد التشريع والإدارة في البلاد، وتركيز السلطات في يد الملك والحكومة. ستضطلع «كتلة العمل الوطني»، وهي أول تنظيم سياسي مغربي تأسس في عهد الحماية، بمهام جسيمة، إذ أصدرت جريدة، ثم مجلة إحداهما في المغرب باسم «الشعب»، والأخرى في باريس باسم «المغرب». وكان لهذين المنشورين أثر كبير في إيقاظ الروح الوطنية، حيث بدأت قضية القومية العربية والانتماء الإسلامي تنتشر بقوة في المجتمع المغربي، وألقيت محاضرات عن بلاء البربر وخدمتهم للإسلام، واهتمت الحركة بنشر التعليم لحماية الثقافة والوعي، ودخل الشعب في موجات من التظاهر والإضرابات. وشكل نداء العلامة شكيب أرسلان نقطة تحول كبيرة في مواجهة المستعمر وظهيره البربري حينما دعا إلى مقاطعة البضائع الفرنسية بناء على «أن المقاطعة هي السلاح الذي يخشاه الأوربيون. فهم الذين يضعون النقود فوق الله». فبدأت حركة مقاطعة واسعة للبضائع الفرنسية شاركت فيها ربات البيوت، وامتنع الناس عن تدخين السجائر، واستخدام السكر الفرنسي، ورفضوا لبس المنسوجات الفرنسية. وعلى مستوى العالم الإسلامي، أظهر المسلمون تضامنا مع مسلمي المغرب ضد «الظهير البربري»، واعتبروا هذا المرسوم «سياسة صليبية»، حيث شارك «الأزهر» في حملة الاعتراض، وكونت «جمعية الهداية الإسلامية» لجنة مهمتها الحفاظ على إسلام البربر، وقامت «جمعية الشبان المسلمين» بدور في إثارة الاهتمام بالقضية. كما زار الأمير «شكيب أرسلان المغرب»، لكن الفرنسيين أخرجوه من طنجة. لم تتغير فصول الظهير البربري ولا مقتضياته إلا في منتصف الخمسينيات حينما قام محمد الخامس بإلغائه، خصوصا وأن الحركة الوطنية استطاعت إفشال أهدافه الكبرى، وإن بقيت بعض رواسبه حاضرة في بعض مظاهر الازدواجية الثقافية واللغوية بين النخبة المثقفة في المغرب. ويعتقد عدد من الباحثين أن «الفرانكوفونية»، وهي الرابطة التي تجمع الشعوب الناطقة بالفرنسية، ليست إلا تطويرا فرنسيا للظهير البربري. زد على ذلك أن الإستراتيجية الفرنسية ظلت تشجع الفصل بين العرب والبربر، إذ أنشأت فرنسا «الأكاديمية البربرية» سنة 1963، والتي اضطلعت بكتابة الإنجيل بالأبجدية الأمازيغية. كما أن باريس كانت تشجع الهجرة البربرية إليها دون الهجرة العربية من شمال إفريقيا. اندلعت الأحداث، وأصبح اللطيف يقرأ في كل المساجد، ووقعت فرنسا، من حيث لا تدري، على شهادة ميلاد الحركة الوطنية التي لن تنزل يدها إلا بخروج المستعمر. وثيقة المطالبة بالاستقلال ستختار الحركة الوطنية وهي تهيكل نفسها أن تلعب ورقة أكبر من مجرد المطالبة ببعض الإصلاحات لتوقع وثيقة تقول بحتمية الاستقلال. إنها الوثيقة التي كانت بتوافق بين العرش والشعب، وشاركت في توقيعها كل شرائح المجتمع. شكلت سنة 1944 بداية العد العكسي لرحيل المستعمر الفرنسي عن المغرب. إنها السنة التي سيوقع خلالها عدد من الوطنيين وثيقة المطالبة بالاستقلال. فلم تعد مطالبهم مجرد إصلاحات في تدبير الحماية الفرنسية لعدد من الملفات، كما كان عليه الأمر عشر سنوات من قبل، والالتزام بما نصت عليه وثيقة الحماية نفسها، ولكن الأمر أضحى أكبر من ذلك بكثير. إنه مطلب الاستقلال الذي فاجأ الفرنسيين ودفعهم لارتكاب جملة من الأخطاء كانت سببا مباشرا في حصول المغرب على استقلاله بعودة السلطان الشرعي محمد الخامس إلى بلاده. ففي 11 يناير من سنة 1944، سيوقع عدد من الوطنيين الوثيقة التي أغضبت فرنسا وأخرجتها عن جادة صوابها. وستسلم إلى سلطات الحماية الفرنسية، كما سلمت نسخ منها إلى المقيم العام «كابرييل بيو»، وإلى القنصلين العامين لبريطانيا العظمى والولاياتالمتحدة، وإلى الجنرال ديغول، وسفير الاتحاد السوفياتي بالجزائر. ما يعني أن القضية المغربية أخذت صبغتها الدولية التي ستحرك ملفا انتهى إلى الاستقلال. غضبت فرنسا أكثر ليس مما تضمنته الوثيقة من مطالب يلخصها ضرورة الحصول على استقلال البلاد، ولكن لأنها أدركت أن الخطوة لم تكن بهذه القوة لو لم تأخذ موافقة السلطان محمد بن يوسف. لذلك سيعتبرها الكثيرون وثيقة الملك والشعب، على صيغة ثورة الملك والشعب لأنها شكلت محطة مهمة في تاريخ المقاومة المغربية، وخلاصة لجميع أشكال المقاومة التي خبرها المغاربة الذين لم يقفوا مكتوفي الأيدي منذ معاهدة فاس يوم30 مارس1912 من أجل اقتلاع جذور الاستعمار، سواء في المنطقة التي كانت تخضع للاحتلال الفرنسي، أو في المناطق التي كانت تحت السلطة الإسبانية بشمال وجنوب المملكة. سيجد محمد بن يوسف في مؤتمر أنفا المنعقد في يناير1943 المناسبة السانحة لطرح قضية استقلال المغرب وإنهاء عهد الحماية لأول مرة كمطلب مغربي، مؤكدا أن مشروعية المغرب في المطالبة بالاستقلال أمر معقول، ومذكرا المجتمعين في المؤتمر بوقوف المغرب إلى جانب أوروبا في معركتها التحريرية. كان الخطاب موجها إلى رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية «فرنكلين روزفيلت»، وإلى رئيس وزراء بريطانيا، «وينستون تشرشل»، وكان المطلب هو قضية استقلال المغرب تمشيا مع مبادئ ميثاق الأطلسي. وقبل ذلك، كان السلطان قد رفض جملة من المطالب التي نادت بها سلطات الحماية، ومنها على الخصوص تلك الإصلاحات الفرنسية المزعومة والهادفة إلى تكوين حكومة مختلطة، نصفها من المغاربة ونصفها من الفرنسيين، وإلى تنازل الملك لها عن سلطته التشريعية والتنفيذية، وإلى تمتيع الفرنسيين المقيمين بالمغرب بالحقوق السياسية، وعلى رأسها تمكينهم من نصف مقاعد المجالس البلدية والإقليمية والمركزية، رغم أنهم كانوا لا يزيدون على 350 ألف فرنسي، مقابل أكثر من 12 مليون مغربي وقتها. وفي سنة 1944، تم تكثيف الاتصالات بين القصر الملكي ورجال الحركة الوطنية للتنسيق وتحضير الوثيقة وإعدادها والإطلاع على مضمونها، إذ تم التداول بشأن الإضافات والتعديلات، ثم انتقاء الشخصيات التي ستتكلف بتقديمها، مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف الشرائح الاجتماعية، وتمثيل جميع مناطق المغرب. ومن أهم ما جاءت به الوثيقة، «المطالبة باستقلال المغرب تحت ظل ملك البلاد السلطان محمد بن يوسف، والسعي لدى الدول التي يهمها الأمر لضمان هذا المطلب، وانضمام المغرب للدول الموافقة على وثيقة الأطلسي، والمشاركة في مؤتمر الصلح». أما على المستوى الداخلي، فقد ركزت الوثيقة، على الخصوص، على «الرعاية الملكية لحركة الإصلاح، وإحداث نظام سياسي شوري تحفظ فيه حقوق وواجبات جميع مكونات الشعب المغربي». كما اعتبرت الوثيقة مكسبا وطنيا وتاريخيا وقانونيا نظرا للطريقة التي صيغت بها. بالإضافة إلى أنها حققت إجماعا وطنيا كبيرا، عززه المغاربة بعرائض التأييد لمضمونها مما حمل المستعمر على القيام بحملة اعتقالات واسعة في صفوف الحركة الوطنية للحد من أثر الوثيقة. وبعد أقل من شهر على تاريخ التوقيع على الوثيقة، وتحديدا في يوم 29 يناير1944 ، اندلعت مظاهرات عارمة بالرباط وسلاوفاس وغيرها من المدن. وتحديا لسياسة الاستعمار، قام محمد الخامس بزيارته المشهورة إلى مدينة طنجة يوم9 أبريل1947، حيث ألقى هناك خطابا تاريخيا أبرز فيه تمسك المغرب بمقوماته التاريخية والوطنية وبمقدساته الدينية. ثلاث سنوات بعد ذلك، ستكون أمام محمد بن يوسف فرصة التأكيد على ما حملته وثيقة المطالبة بالاستقلال. لقد استغل زيارته لفرنسا سنة 1950 ليجدد مطلب الاستقلال، ويؤكد على أن المغاربة لن يقبلوا عنه بديلا، رغم كل التطمينات التي أعطيت حول إصلاح الإدارة، وإعادة النظر في طرق تعامل المستعمر مع قضايا المغاربة. وهو نفس المطلب الذي ظل يردده كلما أتيحت له فرصة اللقاء بممثلين عن دول الغرب من بريطانيا وأمريكا. كان لا بد للمستعمر الفرنسي أن يرد بقوة على هذه الصيغة الجديدة التي تجاوزت مطلب الإصلاحات، إلى مطلب أكبر هو الاستقلال. لذلك أقدمت سلطات الحماية على خطوة نفي السلطان الشرعي وكل أسرته إلى جزيرة كورسيكا ثم إلى مدغشقر، ما أدى إلى انطلاق شرارة المقاومة بكل أصنافها. مقاومة انتهت بعودة الملك من منفاه وإعلان استقلال المغرب. لقد كان محمد الخامس يدرك أن الشعب المغربي، وفي مقدمته، طليعته الوطنية، قد اعتنق الفكرة القائلة إنه لا يمكن أن يتحقق أي إصلاح مجد مهما كان جزئيا، إلا بعد الاستقلال وقيام حكومة وطنية لا رقيب عليها إلا الشعب. وقد ترسخت هذه القناعة منذ المؤتمر الذي ضم كل الهيئات الوطنية والمستقلة لتحرير وثيقة الاستقلال التي تمحورت حول مبدأين أساسيين هما المطالبة بالاستقلال الشامل، ومطالبة الملك برعاية حركة الإصلاح الداخلي. سيكون محمد بن يوسف أمام اختبار ثان وهو في المنفى حينما تم تهديده، لقد اقترح عليه المتفاوضون، بمن فيهم طبيبه الخاص الدكتور «ديبوا روكبير»، الخيار بين أمرين. إما التنازل عن العرش والعودة إلى أرض الوطن للعيش بسلام وفي حماية الفرنسيين، أو تشديد الخناق عليه في المنفى في حالة الرفض. فكان جوابه هو الرفض المطلق للمقترحات المفترضة، لأنه كان يدرك أن المغاربة لن يقبلوا بغير الاستقلال بديلا. وحينما هجم الجنرال «جيوم» على القصر الملكي بالرباط ليحمل العاهل المغربي بقوة السلاح والنار على التنازل عن قيادة الأمة ورئاسة الدولة، اكتفى محمد بن يوسف، كما نشرت وقتئذ كثير من الصحف الفرنسية، بابتسامة قائلا: «لقد عرفت المصير الذي ينتظرني، ولكن الموت أهون علي من خيانة بلادي».