تكاليف مرتفعة في النقل ومشاكل في النظافة والصيانة تفجرت على السطح قضية المقابر في مدينة الرباط عبر أكثر من صعيد في ظل المعاناة الشديدة التي يواجهها أهل المتوفين في التنقل بموتاهم من الخارج إلى المغرب ومن مقبرة لأخرى بغية الحصول على "قبر شاغر"، مع ما يصاحب ذلك من تكاليف مادية باهظة الثمن، بينما أقفلت بعض المقابر أبوابها في وجه المواطنين بعد أن امتلأت عن آخرها، وهو ما يضع الجهات المعنية أمام امتحان البحث عن مدافن أخرى خارج المدار الحضري لتلبية حاجيات المواطنين. مقابر موصدة في تصريح خاص " أكد عبدالمنعم المدني" المكلف بمكتب حفظ الصحة ونائب رئيس مجلس مدينة الرباط على وجود أزمة في عاصمة المملكة إسمها أزمة المقابر، وأشار إلى أن المشكل ستتفاقم حدته بعد سنة أو سنتين، وأن مجلس المدينة مطالب أكثر من أي وقت مضى بإيجاد الحلول المناسبة والبحث عن مقبرة جديدة من أجل تلبية حاجيات المواطنين، غير أنه عاد وقال بأن هذه القضية لا توجد في جدول أعمال مجلس المدينة في الوقت الحالي، ما يعني أن القضية ما تزال بعيدة كل البعد عن صلب اهتماماته. وتتمركز مقابر الرباط في وسط المدينة وبالضبط في كل من حي المحيط وحي يعقوب المنصور، وفي لقائنا معه صرح لنا حارس مقبرة الشهداء بأن المقبرة امتلأت عن آخرها ولم تعد قادرة على استقبال المزيد من الأموات، مضيفا أن الجانب الوحيد الذي ما يزال يستقبل الجنازات هو ذلك الذي يطلق عليه المواطنون مقبرة "لعلو"، وحتى هذه المقبرة يقول (عبدالواحد.ض) أعداد المقابر الشاغرة فيها قليلة جدا". وأبدى أغلب الذين التقيناهم في مقبرة الشهداء قلقهم من مشكلة نفاذ المقابر الشاغرة، خاصة وأنه حتى في حالة إيجاد مقبرة جديدة، فإنها حتما ستكون بعيدة عن مساكنهم، يقول ( سعيد.م) " هذه المقبرة تعد من أقدم المقابر في جهة الرباطسلا زمور زعير، وقد استعملت أكثر من مرة، ولكن يبدو الآن أنها امتلأت عن آخرها، حتى أنه يصعب على زوارها التعرف على قبور ذويهم.."، وقال (محمد.ق) : "أنا أصلي صلواتي الخمس بمسجد الشهداء المجاور لهذه المقبرة، وأؤكد لكم على أن المسجد يستقبل خمسة إلى ستة جنائز بشكل يومي، حتى أن الجنائز توضع لها أرقام ترتيبية لمعرفة الأولى من الثانية من الثالثة.. الخ، وأعتقد أن الجانب المتبقي من المقبرة سيمتلأ بعد أشهر قليلة". وعلى نفس المنوال تحدث لنا (العربي.ط) رجل في الستينات من عمره التقيناه في الجانب الآخر من مقبرة الشهداء التي يطلق عليها مقبرة " لعلو"، منبها إلى أن بعض الأماكن المتواجدة بالمقبرة لم تعد صالحة لدفن الأموات، بسبب المياه التي غمرتها، وأكد على وجود أجزاء قليلة فقط على هامش المقبرة"، وغير بعيد عن (العربي ط) كان (عبدالحكيم.م) يقرأ الفاتحة على قبر عمه الذي توفي حديثا، سألته عن الصعوبات والتكاليف التي ترافق عملية الدفن في هذه المقبرة، فأسر لي بأن "العملية جد معقدة، خاصة وأن عمي توفي خارج أرض الوطن، وأن التكاليف وصلت إلى حدود 60.000 درهم". ضريبة الموت انتقلنا إلى المكتب الصحي التابع لمجلس مدينة الرباط من أجل البحث عن أرقام تخص مقبرة الشهداء، أو أي معلومة تتعلق بعملية نقل الأموات من منطقة إلى منطقة أو من الخارج إلى المغرب، إلا أنه رفض أن يمدنا بأي معلومة، غير أن دردشة قصيرة مع أحد الوافدين على هذا المكتب أكد لنا بأن تنقل الأموات أغلى بكثير من تنقل الأشخاص الذين يوجدون على قيد الحياة، بل إن مبلغ انتقال ميت من الخارج إلى المغرب يوازي تكلفة قضاء العطلة بالنسبة لسائح، لكن حسب ( أيمن.ف) عامل بشركة لنقل الأموات بالرباط فإن ارتفاع التكاليف ناتج أساسا عن ارتفاع الأسعار التي تفرضها شركات نقل الأموات بالخارج، إضافة إلى تعقد المساطر الإدارية. وحسب مصادر مختصة، فإن نقل جثة مغربية من إسبانيا إلى أرض الوطن يكلف مبلغا يصل إلى 55 ألف درهم، ومن فرنسا مبلغ 21 ألف درهم، ويتراوح المبلغ في بلاد الأراضي المنخفضة (هولندا) بين 40 و 50 ألف درهم بينما تبلغ تكلفة العملية انطلاقا من التراب البلجيكي ما يقارب 50 ألف درهم، وقد بلغ عدد الجثت المرحلة خلال السنة الماضية – حسب ذات المصادر- 4002 جثة منها عدد مهم من جثت المهاجرين السريين، تكلفت مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج بنقل 55 منها، أصحابها ينتمون إلى أسر معوزة، وبالنسبة للعائلات الميسورة فإن العملية تكاد تكون سهلة، لكنها بالنسبة للأسر الفقيرة فإنها تبدو أشبه بمسار جهنمي، حتى في الحالة التي تتكلف فيها هيئات محسنة بمصاريف النقل، حيث تجد هذه الأسر نفسها ملزمة بتحضير سلسلة من الوثائق الإدارية المعقدة – سواء داخل المغرب أو خارجه-، وبالتالي صرف مبالغ طائلة من أجل التنفيذ، وكمثال على ذلك فإن العملية تبدأ في حالة التعامل مع مؤسسة الحسن الثاني، انطلاقا من تقديم طلب للمؤسسة، بعدها تقوم المصالح الاجتماعية للقنصلية أو السفارة المغربية في الدولة المضيفة بتحريات حول عائلة المتوفى بهدف الموافقة على منحة مصاريف الترحيل أو رفضها. وتتطلب مسطرة النقل جملة من الوثائق الإجبارية، موجز من رسم الوفاة مسلم من طرف سلطات بلد الإقامة، وثيقة تعريف المتوفى وجواز سفره، بطاقة التسجيل القنصلي، شهادة طبية تثبت الخلو من مرض معدي، ومحضر وضع الجثة في الثابوت، وهي كلها وثائق لازمة دون استثناء للحصول على إذن النقل من ملحقة الوفيات بالقنصلية التابع لها محل إقامة صاحب الطلب.. أما بالنسبة للأشخاص الذين يتعاملون مع فروع بعض الأبناك المغربية في الخارج على مدى بعض السنوات، فإن هذه المؤسسات البنكية تتكلف بنقلهم نحو المغرب في حالة وفاتهم، وتساهم في مصاريف الجنازة والنقل إلى المكان الذي يختاره أقارب الهالك، مع متابعة كاملة لمراسيم الدفن. هذا فيما يخص نقل الأموات من الخارج إلى المغرب، أما على مستوى التنقل بين المناطق والمدن المغربية، فإن بعض مجالس المدن والجماعات المحلية فوضت هذا القطاع لشركات خاصة، ما قد يثقل كاهل المواطنين ويدفعهم إلى استجداء المحسنين، خاصة وأن هذا القطاع يعرف فوضى ناتجة عن تقادم الأسس التعاقدية التي تجمع البلدية مع شركات نقل الأموات، والتي لم تعد تواكب التحولات التي يعرفها القطاع، إذ تعمد هذه الشركات إلى فرض تسعيرة تصل إلى عشرة آلاف درهم كتكلفة لنقل الميت إلى بعض المدن. مقابر مهملة بإلقاء نظرة سريعة على مقبرة الشهداء بالعاصمة الرباط يلاحظ أن تمة مشكلا آخر تعاني منه مقابرنا والمتمثل في مشاكل النظافة والصيانة، بحيث تتعرض للإهمال وتهدم بعض جدرانها أو تصدعها بسبب عوامل مختلفة، كما تتعرض ل "انتهاك حرمتها" بفعل تدخل عدد من المنحرفين والمشردين الذين يفضلون المقابر كفضاء لممارسة نزواتهم ومغامراتهم مع المخدرات، ويؤكد حارس مقبرة "لعلو" أن المناكر والاعتداءات على القبور لا تقف عند هذا الحد، بل تتنوع وتتشعب، حيث يلجأ بعض الأشخاص منهم الغير المنحرفين للأسف إلى رمي النفايات والأزبال على جوانب المقبرة، ما يؤدي إلى تحللها بفعل تدخل حرارة الشمس وانبعاث بالتالي روائح كريهة تزكم الأنوف وتتسبب في مضايقة المواطنين الوافدين على المقبرة. وتبرز ظاهرة انتهاك حرمة مقابر المسلمين – حسب أحد الباحثين الإجتماعيين- مدى التقصير الفظيع الموجود في إدراك المجتمع لفضاء المقبرة ومقام القبور التي من المفروض أن تحظى بالاحترام والتقدير، لأنها منزلة من منازل العالم الغيبي الذي يكتنفه عادة إيمان قوي ونوع من التبجيل، إضافة إلى أن الإسلام أوصى بتكريم الإنسان في حياته ومماته. كما أن هذه السلوكيات تعبير عن نقص في التربية على احترام الميت في مرقده، وأكثر من هذا – يقول نفس الباحث الاجتماعي- "تهاونا على المستوى التربوي في معرفة أهمية الموت، فالذي يقوم بأفعاله السيئة تلك، من نبش أو سوء أدب أو شرب للمسكرات قرب قبر ما، لا يدرك أن صاحب ذلك المسكن قد يكون عالما من علماء الأمة أو فقيها حاملا لكتاب الله، أو صالحا و رجلا ورعا عابدا، لكن من لا يزجره فضاء الموت الذي تدلل عليه المقبرة لن يزجره زاجر آخر". وتتداخل الاختصاصات والمسؤوليات في موضوع حماية ونظافة وصيانة المقابر، فالطرف الرئيسي الذي يتحمل مسؤولية الدفاع عن حرمات المقابر ضد الاعتداءات و الإساءات، هو مصالح ومندوبيات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي من مهامها أيضا تدبير إشكالية استغلال وإعادة استغلال المقابر القديمة من جديد، وتدبير الوعاء العقاري الذي يحتضن المقابر، إذ يحتاج المغرب كل سنة حوالي 60 هكتارا للمقابر، غير أن الميثاق الجماعي الجديد المنظم للجماعات المحلية وضع عملية تدبير شؤون وصيانة المقابر باعتبارها مرفقا عموميا تحت تصرف المجالس الجماعية، ثم يدخل طرف آخر على الخط وهو المتعلق بمصالح وزارة الثقافة باعتبارها الجهة الوصية على المآثر والمعالم التاريخية والتي من جملتها قبور السلاطين والعلماء أو القبور التي تقع في مآثر تاريخية كما في الموقع الأثري لشالة بالرباط الذي تعرضت بعض قبوره –في وقت سابق- للإساءة والاعتداء والنبش وأخص بالذكر قبر السلطان أبو الحسن المريني. وتميز النصوص القانونية الجنائية بين هدم وتلويث المقابر، وارتكاب أفعال مشينة ضد الموتى، فالفصل 268 من القانون الجنائي يعاقب بالحبس من سنة إلى سنتين، وغرامة من 200 إلى 500 درهم "كل من هدم، أو امتهن أو لوث المقابر بأية وسيلة من الوسائل، ويدخل في حكم التلويث التغوط، أو التبول على المقابر، والأمر يتعلق بمقابر المسلمين، و غير المسلمين"، كما يعاقب الفصل 269 كل شخص "ارتكب عملا من شأنه الإخلال بالاحترام الواجب للموتى في مقبرة، أو في أي مكان آخر للدفن بالحبس من شهر إلى 3 أشهر، وغرامة من 200 إلى 250 درهم"، أما الفصل 271 من القانون الجنائي فيعاقب "كل من لوّث جثة أو مثّل بها وارتكب عليها عملا وحشيا أو بذيئا بعقوبة حبسية تصل إلى 5 سنوات.