لا يتطلب التعرف على القبر المراد الوقوف عليه وقتا طويلا من زائر مقبرة الغفران بالدار البيضاء... تنظيم الطرقات والمعابر المؤدية إلى المقابر يجعل الفضاء أشبه بمدينة صغيرة لا يقطنها الموتى، يحمل كل قبر رقما خاصا وتقسيما ترابيا تسمى بالمقطع، تفصل بينها طرقات إسفلتية متوازية.. تكسر صمت المكان آيات قرآنية يتلوها مقرئون يتابعون عملية دفن شاب رحل إلى دار البقاء قبل يوم.. «نستقبل يوميا ما بين 18 و24 جثة وما تزال هناك مساحة تتسع لاحتضان جثامين على مدى عشر سنوات أو أكثر إذا لم نشهد كارثة لا قدر الله»، يردد عزيز حسن، رئيس مجموعة التعاون الاجتماعي التي تسهر على تسيير المقبرة منذ سنة 1989. توفر المقبرة لبعض العائلات الميسورة قطعا أرضية مساحتها 25 مترا مربعا في الواجهات، بها 12 قبرا لجمع أفراد العائلة يتم بيعها ب4000 درهم. لا تتجاوز مداخيل المقبرة، حسب عزيز حسن، 30 مليون سنتيم، تغطي مستحقات 29 عاملا يعمل بها. على بعد أمتار من الإدارة، ينهمك أربعة عمال في إعداد مربعات إسمنتية حسب قوالب حديدية معينة. يشرف عبد الرحيم سرحان على تلك الأشغال وينتقل بخفة بين الورشة ومكتب شركة «شارلوك» لدفن وبناء المقابر التي يديرها منذ سنوات. بالنسبة إليه، لا تختلف طبيعة أنشطته عن باقي المقاولات الأخرى، يوضح وجهة نظره قائلا:«وقعت عقدا مع الإدارة التي تسير المقبرة، وأشرف على عمليات الدفن وبناء «الضالات» التي يبلغ ثمنها 100 درهم. ارتفاع سعر الإسمنت والحديد خسائر لا تجعلنا نربح كثيرا». لم يرضخ عزيز حسن لمطالب المقاول الذي اقترح رفع تسعيرة الدفن التي لم تتغير منذ سنوات، وهو ما رفضه رئيس المجموعة الذي برر قراره بعجز فئات اجتماعية عن تحمل تلك المصاريف الإضافية. يدفع أهل الفقيد 200 درهم للمحافظ لدفن الجثة و70 درهما للمقاول إذا كان المتوفى بالغا، و45 درهما إذا كان طفلا. توابيت الموتى بعين الشق، حول عبد السلام الساخي إحدى الفيلات إلى مقر لشركته الخاصة بالإسعاف ونقل الموتى. إلى جانب 15 شركة تنشط بالعاصمة في مجال نقل الموتى. لا يخفي عبد السلام أن رقم المعاملات يبقى ضعيفا بالنظر إلى وجود منافسين في تجارة الموتى: «نلقى منافسة قوية من طرف سيارات الجماعة التابعة للمصالح الاجتماعية التي تنقل الجثث، بالمجان، إلى المقبرة ويفضل الجميع خدماتها». سيارات «النقل الجنائزي العمومية» تنقل، بدون مقابل على مدار الأسبوع خارج وداخل المدار الحضري، الفقراء والأغنياء على حد سواء لأن «المغاربة تايبغيو الفابور»، يعلق الساخي على الوضع ويتابع بنبرة احتجاجية:«منذ سنة 1976، تاريخ صدور القانون المنظم للجماعات المحلية، تراجعت مداخيل الشركات الخاصة التي تتكلف بنقل الموتى وتوفير التوابيت، لذا نحن في حاجة إلى إعادة تنظيم العلاقات القانونية والانسانية التي تحكم هذا النشاط». داخل المخزن الجانبي المحاذي لحديقة الفيلا، لا تخطئ حاسة الشم رائحة الخشب المختلطة برهبة الموت.. تم توزيع عشرات الصناديق الخشبية حسب نوع الخشب وحجم الصندوق، فيما توزعت أربعة صناديق ذات خشب صقيل مطلي بدهان لامع في ركن قصي في إحدى الغرف: «إنها من عود «الشوك»، وتتم عملية النجارة بعناية لأن ثمن التابوت يفوق 7000 درهم، إذ رغم أن معظم البيضاويين يفضلون تسجية الميت بالكفن، فالفاسيون بالمقابل يطلبون التابوت أثناء مراسيم الدفن بالدار البيضاء». بلغة التاجر الذي يستعرض سلعته، كشف الساخي عن أسعار الصناديق التي يبيعها، إذ يبتدئ من 350 درهما ويبلغ في الأقصى 8000 درهم، يتم تصميمها بالاتفاق مع عدد من التجار في سوق القريعة. ورغم تلك الأرقام، فإن الأمور ليست على ما يرام:«لم يتم تشغيل محرك سيارة النقل منذ حريق ليساسفة بعد أن تكلفنا بنقل 3 جثث بالتعريفة المعتادة وهي 300 درهم، ولولا شركات التأمين التي أتعامل معها لأغلقت شركتي منذ سنوات». تجارة وأرقام عنوان الشركة يثير فضول المارة الذين يمرون لأول مرة بمحج مرس السلطان على بعد عشرات الأمتار من قنصلية فرنسا.«الشركة المغربية لنقل الأموات»، للكلمة الأخيرة صدى خاص جعل أحد الظرفاء يعلق بنبرة لا تخلو من سخرية:«علي ألا أنسى تخصيص مبلغ مالي قبل وفاتي لأضمن نقلي إلى القبر في أحسن الظروف، الموت أصبح بدوره تجارة». يضم مقر الشركة، بشكل مؤقت، الجمعية الوطنية لأرباب سيارات نقل الأموات وسيارات نقل الجرحى، والتي يديرها محمد رامي منذ 2007 الذي يوضح طبيعة عملها قائلا: «معظم الشركات التي تعمل في نقل الموتى تتمتع بوضعية قانونية وتتعامل مع مستودع الأموات موريسكو والرحمة بشكل دائم». لتنظيم أنشطة النقل اليومية، اتفقت الشركات في ما بينها على توزيع للحصص يخول لكل شركة يومين في الأسبوع بالنسبة إلى موريسكو، وأسبوع كامل في مستودع الأموات الرحمة الذي لا يختلف كثيرا عن نظيره في لندن حسب ما صرح به ل«المساء» مواطن إنجليزي مقيم بالبيضاء. «هذا يعني أنه يتعين على كل واحد انتظار دوره لمدة سنة، ويلجأ البعض إلى كراء دوره ب600 درهم لليوم في ظل ازدياد الرخص التي تمنحها العمالة لأفراد معينين لمزاولة مهنة النقل. مدينة تطوان هي النموذج الوحيد الذي رفعت فيه الجماعة يدها عن تسيير قطاع نقل الموتى، ونتمنى أن تقدم المدن الأخرى على نفس الخطوة». تذمر محمد رامي لا يخفي طبيعة العلاقة التي تربط تلك الشركات، التي رفض مسيروها الإفصاح عن حجم مداخيلها السنوية، بمؤسسات التأمين التي يشكل رقم معاملاتها معها نسبة 90 في المائة من مداخيلها السنوية. حددت الجمعية تسعيرة نقل الأموات داخل العاصمة الاقتصادية بين 500 و 800 درهم، وهي التسعيرة التي جرى تطبيقها منذ 7 يونيو 1982، كما تشرف الشركات على إجراءات إعداد وثائق الدفن لدى السلطات المحلية. يوفر نقل الأموات المسيحيين واليهود هامشا ضيقا لنشاط الشركات بالنظر إلى أن عدد المقيمين منهم بالمدينة ضئيل جدا، لكن ذلك لا يمنعهم من إعداد توابيت بمواصفات خاصة: «يتمتع خشب الصندوق بجودة عالية. وعلى خلاف توابيت المسلمين، يتم تخصيص صندوق داخلي من الزنك مزود بفلتر يمنع تحلل الجثة بفعل الغازات، ويتم تحضير الصليب الذي قد يرفع من سعر التابوت إلى آلاف الدراهم»، يتوقف لحظة قبل أن يردف: «كل الأجانب يتوفرون على عقود تأمين ولا يرغبون في الموت هنا، وحدهم كبار السن يفضلون أن يحتضنهم تراب المغرب بعد انتقالهم إلى عالم الأموات». مقبرة بمواصفات عصرية تسهر مجموعة التعاون الوطني على تسيير مقبرة الغفران التي تبلغ مساحتها 135 هكتارا وتتمتع بمواصفات التسيير الخاصة بالجماعات، إذ لها استقلال مالي وشخصية معنوية. استرجعت الدولة تلك الأرض من مستعمر فرنسي يدعى سانشيز، لتقوم سوجيطا بتسييرها بعد الاستقلال قبل أن يتم تفويتها بالمجان إلى نقابة التعاون الوطني التي تحولت فيما بعد إلى مجموعة. شهدت المقبرة حالتين فقط لإعادة استخراج الجثة بعد أن قررت السلطات الأمنية تعميق البحث في ظروف الوفاة. ترقد بالمقبرة حوالي 167 ألف جثة مرقمة، ويتم التعرف على بيانات كل قبر عبر قاعدة بيانات معلوماتية تساعد أقارب المتوفى على التعرف بسهولة على موقع القبر. يتم عقد اجتماع لجنة خاصة تضم ممثلا عن وزارة المالية والعمالة ومجموعة التعاون الاجتماعي والسلطات المحلية لدراسة العروض الخاصة بشركات الدفن التي توقع عقدا لمدة سنة من أجل ضمان سير عمليات الدفن في أحسن الظروف على أن تدفع للمجموعة 400.000 درهم.. غادرت عناصر القوات المساعدة محيط مقبرة الغفران قبل ستة أشهر دون أن يتم توضيح الأسباب، وهو ما أثار قلق المسؤولين بها، إذ لا تكفي الحراسة التي يقوم بها الموظفون لضمان الأمن داخلها وللحفاظ على حرمة القبور من عبث اللصوص.. ..يتجول المتسولون بحرية داخل وخارج المقبرة، وهم يترقبون وصول ذوي أحد المتوفين فيما يشبه فسيفساء انسانية تخط تفاصيل العلاقة بين الأحياء والموتى.