"دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحياء في خدمة الموتى
نشر في التجديد يوم 06 - 08 - 2004


مهنة المخاوف والقصص الغريبة
ندخل بكم اليوم في هذا الاستطلاع إلى عالم الموتى وعلاقة بعض الأحياء بهم. بعض الناس اختار طوعا (أو كرها) أن ينذر حياته لخدمة الموتى بدل الأحياء، منهم الغسالة والكفانة وسائقو سيارة نقل الموتى، وحفارو وبناؤو القبور والفْقها، كل هؤلاء، وغيرهم كثير، يسخرون أوقاتهم وجهودهم لتكريم الميت والعناية به، لكنهم قد لا يلقون التكريم والعناية نفسها من قبل الأحياء. كما نقوم بزيارة القبور ونطلع على ما يجري فيها من تمييز فارغ، ونتعرف على قراء القرآن وكيف ولجوا هذا العالم الغريب، وعلى المناكر التي ترتكب بين المقابر خاصة يوم الجمعة. وإذا كان الأحياء يعانون من انعدام الأمن، فكيف بالموتى الذين انتقلت الجريمة إلى مقابرهم. وإن مجتمعا لا يكرم موتاه ولا يحترمهم لمجتمع في خطر عظيم. "التجديد" استمعت لبعض من خدام الموتى فأنجزت الاستطلاع التالي:
الحاجة لالة رحمة غسالة (دبلومي)
عندما يقبض الله روح عبده ذكرا كان أم أنثى يؤتى بمن سيغسله ويكفنه قبل أن يحمل إلى المسجد للصلاة عليه ثم ليدفن في قبره، المرأة للمرأة والرجل للرجل. لقد كان لزاما علينا أن نستمع لرأي أحد الغسالين أو إحدى الغسالات لننقل أحاسيسهم وهم يقلبون الميت من جهة لأخرى. قصدنا لأجل ذلك في بداية الأمر أحد المراكز الصحية وجلسنا إلى المسؤولين به، هؤلاء المسؤولون ضربوا لنا موعدا جديدا لكنهم أخلفوا وعدهم بحجة ضرورة أخذ ترخيص ممن هم أعلى منهم رتبة ومنصبا، غادرناهم لندخل بيت الحاجة للارحمة العلوية، واحدة من بين النساء اللواتي امتهن حرفة غسل الموتى من بنات حواء.
الحاجة للارحمة العلوية تبلغ من العمر71 سنة، تجربتها في الميدان تناهز 30 سنة، حاملة لكتاب الله منذ أن كان سنها 8 أعوام، درست العلوم الشرعية، وفرائض الغسل، فهي تنحدر من أسرة عالمة، أبوها علامة فضلا عن عمها. تقول الحاجة إن «غسل الميت فرضه علي الشيوخ المكي الناصري، وعبد الله كنون ومصطفى اكديرة رحمة الله عليهم جميعا.. وسبب ولوجي هذا الميدان، هو عمي مولاي هاشم، رغم أنني لم أكن وقتها أرغب في امتهان وظيفة غسل الميت. وتضيف الحاجة أنها اجتازت لأجل مباشرة مهنة الغسل امتحانا في فرائض الغسل وآخر شفويا ثم حصلت على شهادة الغسل المسلمة من قبل وزارة الأوقاف».
الحاجة التي تختزن تجربة 30 سنة من الغسل، أكدت بتعبير لطيف أنها غسلت الملايين من الموتى، ولم يحصل أن أخطأت يوما في فرائض الغسل. تصف لنا لالة رحمة طريقة غسل الميت بأسلوب جميل وشيق، وهي تستشهد بما ذكره الإمام مالك والعلامة ابن عاشر، فتقول: «عندما تمدد المرأة الميتة بالقرب مني، ويوضع بين يدي كفنها أبدأ بذكر اسم الله والله أكبر ثم أخيط الكفن أولا، وأنا أقرأ سورة الملك أو سورة يس، ثم أنزع الثياب عن الميتة، وأبدأ بالفرض الأصغر فالأكبر، أضع (الغاسول) على الرأس، ثم أصفي الشعر والبدن وأغسل الميت بالماء والصابون، وأعيد الفرض الصغير ثانية ثم الكبير.. أغسل يمينا فيسارا من الرأس إلى الورك ثم من الورك إلى أسفل القدم، ألبس الميتة في بادئ الأمر سروالا ثم القميص الأول فالثاني، وأضع الحنوط (أعشاب تمنح الميت رائحة طيبة) من أخمص القدم إلى فتحة العنق، وأغلف الأنف والأذنين بالقطن، وأخيرا ألبس الميتة الكفن فأضع غطاءين على رأسها (الدرة والشال)، ثم أحكم ربطها من الوسط ثم الرجلين والرأس، فتحمل الميتة إلى مثواها الأخير الذي سنرحل إليه جميعا ف(كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (سورة الرحمان).
وتذكر لالة رحمة أن أول مرة غسلت فيها ميتة لم ينتبها أي شعور بالخوف أو الرعب، وتقول: «ولم تظهر لي أي كوابيس في النوم سواء في تلك اللحظة أو في غيرها، حتى إن اكديرة رحمة الله عليه استغرب كثيرا لهذا الأمر عندما حدثته عن عدم خوفي». الحاجة لم ترد أن تقص علينا بعضا من المشاهد المؤثرة، وقالت إنها «مأمورة بستر العيوب، والصمت فالصمت المؤكد»، فلم يقع أن حدثت أحدا عن عيوب أحد الموتى، إلا حالة واحدة قالت إن اكديرة أمرها بأن تقصها للنساء من باب الوعظ، وكان الأمر، تحكي الحاجة، يتعلق ب امرأة كان لسانها يرتخي بشكل رهيب عندما كانت تخرج روحها لنعيده إليها مرات ومرات حتى فارقت الحياة. وقد كانت هذه المرأة ... تذكرت لالة رحمة شيئا ما فقطعت كلامها)».
اعتدنا على حمل الموتى ولكن
قد يكون من السهل أن تسوق حافلة أو سيارة أجرة صغيرة أو كبيرة أو أي وسيلة لنقل الأحياء، لكن من الصعب جدا أن تمتهن حرفة سائق سيارة نقل الموتى، لأن مثل هذه المهن تنقل أصحابها من عالم الحياة إلى عالم الأموات، وتجعلهم أقرب ما يكونون إلى الآخرة منهم إلى الدنيا، مثل هؤلاء يحملون الميت على أكتافهم ليضعوه داخل سيارتهم، في جو من البكاء والحزن، ثم ليرحلوا به إلى المسجد للصلاة عليه، فنقله إلى مثواه الأخير. شريط مبكي يتكرر كلما دعاهم الموت عفوا أهل الميت من مكان قريب أو بعيد. فمن منا يرغب في أن يتذكر الموت في كل لحظة وحين؟ ومن منا يريد أن تكون حياته موتا متكررا...
يقول (محمد. ف)، سائق سيارة إحدى شركات نقل الموتى، «اخترت عن طواعية أن أعمل مع الموتى بدل الأحياء لأنني شعرت معهم بالراحة والاطمئنان... ولم يكن لي أي تخوف لولوج هذه المهنة، وقلت ملاقاة مع الموتى خير لي من اللقاء مع الأحياء حتى أموت أنا»، لكن محمدا، ذا التجربة الكبيرة (17 سنة)، استدرك بالقول «لقد أحسست بخوف شديد عندما حملت لأول مرة ميتا، ولكن بعد مرور زهاء 15 يوما من العمل شعرت بالسعادة، وصار الأمر بالنسبة لي عاديا، حتى إنني أصبحت الآن أفضل أن أنام مع مائة ميت في هناء وطمأنينينة على أموالي وأمتعتي، بدل النوم مع حي واحد قد يغدر بي».
سألنا محمدا عن الوضع النفسي لأبنائه، هل يتضايقون من مهنته؟ فرد، والابتسامة بادية على وجهه، «أبنائي ألفوا مهنتي، وعلموا أن أباهم يعمل مع الموتى حتى يأتيه الموت الذي لن يستثني أحدا»، ف «أبنائي يزيد محمد عندما يسألهم أقرانهم أو أي شخص آخر عن مهنة أبيهم يقولون له بكل ثقة في النفس إن بابا يحمل الموتى».
زميل محمد، الذي كان يقف إلى جانبه بمحاذاة سيارة نقل الموتى، لم يختر هذه المهنة إلا مكرها، بعدما أعياه البحث عن عمل آخر يخدم فيه الأحياء، يقول مصطفى إن «الظروف هي التي جعلتني أقبل بهذه المهنة، ولو أنني وجدت أفضل منها لغادرتها.. كما لا أقدر أن أقول إنني اخترت هذه المهنة أم لا»، ففي «هذه النقطة، يضيف مصطفى، أختلف مع صديقي الذي قرر أن يعيش مع الموتى حتى يذهب ميتا».
مصطفى، ذو العشرين سنة من التجربة، يحكي أنه عندما يشرع في دفن الميت ينتابه شعور رهيب، ويخاطب نفسه فيقول لها: «كان من الممكن أن تدفني بدلا من هذا المسكين، أو قد يجيء عليك الدور إما في هذه الساعة أو في يوم آخر»، ويؤكد مصطفى أنه من كثرة حمله للأموات أصبح يشعر دائما بقرب أجله ودنو حتفه». إن الموت، يقول صاحبنا، وهو يحدق بقوة في التراب، صار قريبا مني جدا». ويمضي في تصوير حالته النفسية، وهو ينظر إلى من حوله، فيقول «عندما ألتفت إلى الناس في الشوارع وأجدهم يضحكون، أتحسر كثيرا، وأشفق على نفسي وعليهم، وأتساءل: ما لهؤلاء يضحكون والموت قريب منهم»، إنهم «قد لا يتذكرون الموت كل يوم مثلي، لذلك فأنا أحس بشعور غريب للغاية لأنني أعيش مع الموتى أكثر من عيشي مع الأحياء.»
يذكر مصطفى أن أول مرة حمل فيها الميت على متن السيارة التي يسوقها كانت منذ 20 سنة، وقتها أحس بالخوف والرعب، وعندما عاد إلى المنزل ظهرت له كوابيس رهيبة في نومه، وبات ليلته مضطرب النفس، ولم ينعم بالأمن إلا بعدما استيقظ، يقول مصطفى: «كانت لحظة مرعبة تلك التي سرت فيها بأول ميت صوب المسجد، لقد ارتجف جسمي من شدة الخوف، ورأيت في منامي صورة ذلك الميت، ومشاهد الصلاة عليه وفترات دفنه، فبت الليلة مقبوض النفس حتى الصباح»، لكن الشعور بالخوف من الموت والميت، يتابع مصطفى: «أصبح يتبدد يوما عن يوم إلى أن ألفت الوضع».
مواساة وتثبيت
محمد، الذي بدأ العمل كسائق لسيارة حمل الموتى في سنة ,1987 يذكر أنه وزملاؤه في المهنة يشرفون، بالإضافة إلى نقل الميت، على إعداد الأوراق اللازمة لدفنه بطلب من ذويه، ويعملون على مواساة هؤلاء، يقول محمد إن «أهل الميت يكونون مصدومين لحظة حمل فقيدهم، لذلك يصير من الواجب علينا تذكيرهم والتهدئة من روعهم، ودعوتهم إلى الصبر على المصاب الذي هو مصير كل واحد منا، إذ (كل نفس ذائقة الموت)». مصطفى بدوره يصف لنا حالة أهل الميت الذين يركبون سيارته رفقة فقيدهم فيقول: «إنهم يكونون في حالة حزن عميق، ويكون لزاما علينا أن نواسيهم وأن نخفف عنهم أحزانهم، إذ زيادة على كوننا نحمل الميت، فإننا نواسي أهله إلى أن يدفن ويلقى ربه»، «إننا يستطرد مصطفى نعيش معهم أحزانهم، ونبكي تارة مثلهم لعظمة الموت ورهبته، ولا نرجو من وراء ذلك أجرة».
وماذا عن أغرب شيء وقع لك يا مصطفى؟ «لا لم يحصل قط أن حدث شيء غريب أثناء مزاولتي لهذه المهنة، يجيب مصطفى، كأن يستيقظ الميت أو أن يصرخ ، فما هذه إلا خرافات لا يمكن أن تتحول إلى حقيقة، إذ الميت ميت بشهادة الطبيب الشرعي الذي يأمر بدفنه بناء على فحص يكون قد أجراه له».
صار حفارا بعد أن كان نجارا
دخلنا المقبرة، وسلمنا على أهلها من الأموات والأحياء، وألقينا نظرة خاطفة على الراقدين في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، كما يذكر ذلك الحديث النبوي الشريف، لا فرق بين فقيرهم وغنيهم إلا بالعمل الصالح. أناس كانوا أحياء مثلنا ثم صاروا رفاتا، أرواحهم بين يدي الله إن شاء عذبها وإن شاء غفر لها. تقدمنا خطوات نحو رجل نحيف الجسم قصير القامة، ثيابه بالية، ولون وجهه يميل إلى السواد، سألناه عن حفار للقبور اسمه لحسن، فصادف أن كان هو.
جلسنا معه بجانب إحدى ممرات المقبرة بقبالة مرقد أهل الآخرة، وعشنا معه لحظات من الزمن حدثنا فيها عن دواعي تعاطيه لمهنة حفر القبور، ودخله الشهري من هذه المهنة...
لحسن بدأ رحلته مع مهنة حفر القبور في السبعينيات من القرن الماضي، بعد سنوات قضاها في النجارة، يقول لحسن: «قصدت المقبرة منذ تسع وعشرين عاما، فصرت حفارا للقبور بها، بعدما كنت في السبعينيات أمتهن حرفة النجارة، لكن الظروف لم تساعدني وقتها للاستمرار نجارا». ويذكر أنه اشتغل مع «الأحباس» ما بين 1972 و,1982 قبل أن يستقيل عنها، لأنها لم تكن تؤدي له سوى أجرا زهيدا، ويشرع من ثم في حفر القبور ودفن الميت بأثمان تتراوح ما بين 100 درهم إلى 200 درهم، ثم يضيف أنه «في وقت مضى كنا نحفر القبر بطلب من أهل الميت، أما الآن وبعدما أحدثت شركة منافسة مختصة في نقل ودفن الموتى والسمسرة في الموتى بالبيوت، أصبحنا نحن الثلاثة (يقصد زميلين له بالمقبرة نفسها) نحفر القبور دون طلبات سابقة، إلى أن يجيء أهل أحد الموتى فنطلعه على القبر».
جليسنا قال إنه اختار أن يحفر القبور بمعية زميلين له عوض أن يصير أجيرا ضمن الشركة المستحدثة إن «ما قد تمنحنا إياه الشركة قليل جدا بالمقارنة مع ما نحصل عليه نحن، إذ لا يتقاضى العامل بها سوى 1200 درهم في الشهر، وهو مبلغ لن يكفيني حتى لأداء ثمن الكراء، بالأحرى مصاريف العيش».
أول مرة حفر فيها لحسن قبرا شعر ببعض الخوف، خاصة عندما رأى الناس يحملون الميت بين أيديهم ليضعوه في مثواه الأخير، لقد حكى ذلك لأسرته بالتفاصيل، ثم ظل يتذكر في مرات عديدة، خلال البدايات الأولى لعمله، مشاهد مخيفة لأموات دفنوا في قبور حفرها بنفسه، أما الآن فلم يعد يشعر بأي خوف، وصار الأمر بالنسبة إليه عاديا تماما.
صناديق وأجور
يقول لحسن إن جميع القبور لها شكل واحد، 30 سنتمترا في العرض ومتران في الطول، و لم يحصل قط أن جيء بميت لم يسعه قبره، اللهم أولئك الموتى الذين يؤتى بهم داخل صناديق فنضطر للتعديل في أبعاد القبر بعض الشيء، هذا التعديل يجري في حينه يزيد لحسن لأن هناك ثلاثة أنواع من الصناديق، نوع يكون عرضه في حدود 42 سنتمترا، وآخر يكون عرضه في حدود 50 سنتمترا، وثالث قد يصل عرضه إلى60 سنتمترا. لحسن يؤكد أن متوسط دخله الشهري من حفر القبور يتراوح ما بين 1000 إلى 3000 درهم ، مما جعله في غنى عن العمل كأجير لدى الشركة المختصة في نقل ودفن الموتى، يقول لحسن: «في بعض الأشهر قد يصل دخلي الشهري 3000 ( ثلاثة آلاف ) درهم، وبعض الأشهر قد يتراجع هذا الدخل إلى 1000 ( ألف) درهم»، ويتغير هذا الدخل كما يعتقد لحسن حسب فصول السنة، ففي «فصل الشتاء تكثر حوادث السير والفيضانات، ومن ثم يرتفع عدد الموتى و(كتحرك الخدمة والرواج كايكون كبير)، خلافا لفصل الصيف، الذي يكون فيه الناس (فايقين بزاف وراجعة فيهم الروح)».
كل الأرض التي حفرها لحسن وغيره بالمقبرة لا تفرض عليها رسوم أو تعويضات تذكر، فهي بمثابة وقف أوقفه أحد المحسين منذ سنوات طويلة، يقول لحسن «لا يطلب منا أي تعويض عن المكان الذي نحفره، لأن شخصا أوقف الأرض التي عليها المقبرة في سبيل الله منذ عقود مضت». وعما إذا كان قد صادفه يوما ما حدث غريب مثل تلك الأحداث التي يتناقلها الناس بين الفينة والأخرى أكد لحسن أنه «لم يحدث أن قام أحد من قبره، كما يزعم الكثير من الناس، ولم يحصل أن جيء بأحد الموتى خطأ، ذلك أننا لا نقدم على دفن الميت إلا بعد أن يتسلم محافظ المقبرة ورقة تشهد بالوفاة».
قبر بخمسة ملايين
بعد مرور 40 يوما على مواراة جثمان الفقيد بالتراب فقط، تأتي لحظة التباهي بالقبور. فمن الموتى من يبنى له قبر بالأحجار العادية، ومن الموتى من يشيد له القبر بالأحجار المنقوشة، ومن أهل الآخرة من يبنى له قبر من الزليج والرخام الجيد، المغربي منه والمستورد، ذلك ما ذكره لنا محافظ المقبرة التي زرناها على مدى يومين.
يقول المحافظ، ذو 23 سنة من التجربة، إن «هناك ثلاثة أنواع من القبور، القبر العادي الذي يدفن فيه الميت دون سجادة، والقبر الذي يدفن فيه الميت المحمول في صندوق، إما لأنه كان به مرض معد أو لأنه تعرض لحادثة سير، والقبر السماوي الذي يدفن فيه الميت المتوفى بالخارج»، ويشرح المحافظ، الذي ورث هذه المهنة عن والده، أن تكلفة حفر القبر تتراوح ما بين 250 درهما بالنسبة للقبر العادي، و350 درهما بالنسبة للقبر الذي يدفن الصندوق، أما ثمن بناء المقابر فيتراوح ما بين500 درهم إلى 3 ملايين سنتيم. وقد كانت مفاجأتنا كبيرة وذهولنا عظيما عندما أرانا المحافظ قبرا بني بكامله برخام مستورد من إيطاليا بلغت تكفلته 5 ملايين سنتيم!
غادرنا المحافظ وتوجهنا صوب أحد البنائين، وقد كان رجلا متقدما في السن، أشقر اللون وأزرق العينين، كان وقتها منهمكا في بناء أحد القبور وإلى جانبه شاب يساعده (سيظهر في ما بعد أنه ابنه)، كلاهما كانا ينظران إلينا باستغراب ونحن نتجه نحوهما. قال الرجل بعدما اطمأن إلينا إن «أغلب القبور بهذا المكان بنيتها أنا وأبنائي الذين ينتشرون على طول هذه المقبرة». هذا الرجل عمل أجيرا بأحد المصانع واحترف مهنا متعددة قبل أن يتحول إلى بناء للقبور على مدى ثلاثين سنة، يقول الرجل «اشتغلت في المعامل والبناء، والحدادة وعدد كبير من المهن الأخرى لكن (الهواية ديالي جاتني فالمقبرة) ابتعدت فيها عن صداع الأحياء».
فقيه الوزرا
عبد السلام دخل المقبرة منذ ثلاث سنوات تقريبا، ليعمل فيها كفقيه يتلو القرآن على الموتى بطلب من ذويهم، سواء كانوا مستقرين في المغرب أو مهاجرين بالخارج، وقد كان يشتغل في السابق بالسلك العسكري بالمنطقة الصحراوية لمدة تربو عن 25 سنة قبل أن يحال على التقاعد برتبة سرجان.
يحكي عبد السلام أنه حفظ القرآن في شبابه بمنطقة الخميسات ثم سوس ب11 سلكة ، وكانت رغبته جامحة في أن يكون إماما لأحد المساجد ومعلما للقرآن وأصول الدين، لكن فقر أسرته حمله على الدخول في السلك العسكري، ومنذ ذلك الحين وعبد السلام يحافظ على تلاوة القرآن وحفظه كي لا يضيع منه، إلى الحد الذي كان يداوم فيه على حمل المصحف الشريف والحرب حامية الوطيس بالصحراء المغربية.
توجه عبد السلام، فور حصوله على التقاعد، إلى نظارة الأوقاف واجتاز بامتياز، كما يقول، امتحان الإمامة، مع حصوله على شهادة حفظ القرآن، لكن لم يناد عليه، ليضطر إلى التحول نحو المقبرة لضمان دخل إضافي يلحقه بأجرة تقاعده التي تبلغ 2550 درهما، وكذا الحرص على محفوظه من القرآن.
يقول عبد السلام «أكون باستمرار مع محافظ المقبرة، إذ أساعده في إجراءات الدفن، وكلما نودي علينا لقراءة ما تيسر من القرآن على الميت أؤدي واجبي»، ويضيف أنه يقرأ «القرآن في حضور أهل الميت أو في غيابهم، خاصة بالنسبة للعمال المهاجرين الذين يكرموننا كلما حلوا ببلادنا والحمد لله بمبالغ تتراوح ما بين 350 إلى 1000 درهم»، ثم يؤكد عبد السلام أن عامة المغاربة كرماء يمنحونه الكثير. سألنا عبد السلام عن سبب اختياره العمل بالمقبرة عوض الإمامة بأحد المساجد فرد بالقول: «أجرة إمام المسجد (المشارطي) هزيلة جدا إلى منعدمة، في مقابل مهنتي الآن، إذ أقرأ القرآن على الأموات من ضباط الجيش وعائلات الوزراء».
الفقها والحكرة
قد يكون عبد السلام فقيها محظوظا، لكن غيره من الفقها يشتكون كثيرا من شح المغاربة وظلم زملائهم في المهنة. فهذا فقيه ثان (23 سنة من التجربة)، يقول «إن المقبرة ملاذ المقهورين من أبناء هذا الوطن»، ويضيف، «لم آت إلى هنا إلا بعدما نفذ صبري في البحث عن عمل خارج المقبرة، سواء في المسجد أو غيره»، ثم يؤكد، وقد كان يجلس بين القبور، أنه وأمثاله من الفقها لا يحظون بوضع اعتباري رغم أنهم يحملون في صدورهم أغلى شيء في الوجود (يقصد القرآن الكريم)، فهم «مهمشون لم يجدوا أي عمل بالمساجد».
فقيه ثالث، قارب السبعين من عمره، أكد هو الآخر أن حرفة الفقها بالقبور صارت دنيئة وأصبحت مهنة الذل والهوان، وقال إنها «مهنة شريفة عند الله دنيئة لدى الناس»، ففيما يكرم الناس أستاذ اللغة الفرنسية يعتقد الفقيه يحقرون حامل القرآن».
أحد زوار المقبرة ممن التقينا بهم خلال يوم الجمعة، كان يحمل قرآنا في يديه، كما هو الحال أيضا بالنسبة لزوجته وإحدى بناته، سألناه عن سبب ذلك فأجاب: «إنني أحب أن أتلو القرآن على الميت بدلا من الفقيه، لأنني أكون متوضئا وفي حالة خشوع، أما هؤلاء فقد لا يكونون كذلك، أضف إلى ذلك أنني أفضل أن أمنح صدقة للفقراء والمساكين وهؤلاء الفقها أيضا دون أن يقرؤوا القرآن، إذ أن تلاوته لا تباع بأي ثمن».
فجور وسط القبور
في الوقت الذي كان يفترض أن تشكل فيه المقبرة ملاذا للآمنين، وتذكرة للمسلمين والمؤمنين، صارت مرتعا للمفسدين، منهم السكارى واللصوص المغتصبون، ذلك ما نقله لنا العديد من العاملين بالمقبرة.
فهذا أحد الحفارة ينبه إلى أن المقبرة أصبحت تعيش وضعا رهيبا، بسبب حالات السرقة واغتصاب الرواد بالقوة من قبل قطاع الطرق، خاصة يوم الجمعة. المقبرة بالنسبة لهذا الحفار لم «تعد مكانا للآمنين بل صارت موضعا لقطاع الطرق والشمكارة»، لذلك طالب ب»فضح هذه الأشياء حتى تتحرك السلطات المحلية لترجع للمقبرة حرمتها وهيبتها وتطهرها من المفسدين الذين يجلسون على المقابر ويكسرونها ويمارسون فيها الجنس وشتى أنواع الفساد، وذلك عبر تعيين رجال أمن مختصين في توفير الحماية للرواد والزائرين. (الحفار) أشار إلى أنه «ليس هناك من يحرس هذه المقبرة رغم الشكاوى المرفوعة للمسؤولين». لقد «أصبح الزائر للمقبرة، يحكي الحفار ذاته، يخشى على نفسه من السرقة والنهب بل والاغتصاب أحيانا أخرى، حتى إن هنا من الناس من يفضل أن يترحم عند مدخل المقبرة بدلا من أن يتجول داخلها فيحصل له مكروه». ويظل أكثر الأيام فسادا وشهودا على وقوع جرائم يضيف الحفار هو يوم الجمعة، إذ يفد الشمكارة، وقطاع الطرق على المقبرة للبحث عن الأموال والصدقات، وإذا لم يحصلوا على مبتغاهم بالسعاية لجؤوا للاعتداء. محافظ المقبرة أكد بدوره أن هذه الأخيرة تقع بها العديد
من أحداث الفساد، وقال إن ذلك كله «يقع على عاتق الأمن». ويحكي أحدهم أن المقبرة لم تعد تسلم من إفساد السحرة والمشعوذين، خاصة من النساء، الذين يسيؤون إلى حرمتها وحرمة الأموات الراقدين بها.
نهاية الرحلة
إلى هنا انتهت رحلتنا مع خدام الموتى، وأسدل الستار عن حكاية لأناس جرت بهم أقدار الحق جل وعلا نحو أحضان أهل الآخرة، فصاروا بذلك رفقاء دائمين لهم، وسفر كل واحد منا سينتهي حتما، إذ كل نفس ذائقة الموت. نعم إن للموت لرهبة، يخشاه الجميع، الصالحون والطالحون على حد سواء، حتى أولئك السكارى والشمكارة لكنهم في غفلة ساهون.
إعداد: محمد أفزاز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.