مع توسع الصحافة الورقية في العالم العربي خلال القرن الماضي، وتعدد مقالات الرأي، انبثقت ظاهرة الأسماء المستعارة وانتشرت بشكل كبير لعدة أسباب منها ما هو سياسي واجتماعي وشخصي، رغم أن الكثير من رؤساء التحرير كانوا على علم بالأسماء الحقيقية لهؤلاء المختبئين عن العالم على اعتبار أن مسؤولية النشر تقتضي من إدارة الجريدة أن تكون على معرفة بهوية من يكتب في صفحاتها.. منذ انتشار الانترنت منذ نهاية سنوات التسعينات من الألفية المنقضية، ازدهر سوق الأسماء المستعارة، وصارت هناك مواقع تشتغل فقط بهذه الخاصية، خاصة المنتديات منها كمنتدى ستار تايمز الشهير الذي تكتب غالبية أعضاءه بأسماء مستعارة وقليلا ما يعرف العضو الهوية الحقيقية للعضو الآخر حتى ولو طالت مدة صداقتهما الافتراضية، لتصل الظاهرة إلى المواقع الاجتماعية خاصة اليوتيب الذي عرف غزوا خطيرا للأسماء المستعارة الناشرة لفيديوهات قد تجلب عليها بعض المتاعب (قناة تارجسيت كمثال)، ثم الفايسبوك، حيث تنشط البروفايلات المستعارة والأسماء الغير الحقيقية، والتي جعلت من نفسها نجوما إلكترونية تؤثر بشكل كبير على الرأي العام الفايسبوكي.. منهم من يكتب اسما يستمده من شخوص واقعية فتعتقد أنه قد يخصه حقا، ومنهم من يجعل من اسمه عنوانا لقصيدة أو قصة قصيرة ما، ومنهم كذلك من يستعمل أوصافا رومانسية، ومنهم من يجعل اسمه مستعارا لكنه يضع كل المعلومات الخاصة به بما فيها صورته، لكن يبقى أولئك الذين قرروا النضال داخل الفضاء الافتراضي بأسماء افتراضية غير حقيقية هم أكثرهم تأثيرا وجذبا للرأي العام، فمع تزايد الخطوط الحمراء في الدولة، ومع المحاكمات التي تطال أشخاصا عبروا عن آراء رأت فيها السلطات خروجا عن القوانين والأعراف، يبقى الفايسبوك، منصة من لا منصة له، في الاحتجاج وتهييج الجماهير..حتى ولو كانت جماهيرا إلكترونية.. زجال الثورة..المُبدع الغامض.. "على شاطئ الأرض المغربية... رست قواربنا البشرية... سنهتف بصوت واحد... حرية لا شرقية ولا غربية... مغربية مغربية.." أبيات تنتقل بين صفحات اليوتيب والفايسبوك..يغنيها هذا البروفايل الذي كان ولا يزال واحدا من أيقونات حركة ال20 من فبراير دون أن يعرف الناس من هو هذا المبدع الذي يختفي وراء اسم زجال الثورة المغربية.. يؤمن بخصوصية المغرب ويرى أن ثورة المغاربة لن تكون بنفس الطريقة التي ثار بها الآخرون..فالثورة المغربية عنده هي القضاء على كل أشكال الفساد والاستبداد وإيقاف النهب المتواصل لخيرات الشعب.. يكتب الزجل والشعر العربي الفصيح وكذلك المقالات الفكرية والسياسية.. شاب من مدينة الدارالبيضاء..يسكن حاليا بالرباط..مدير شركة للمعلوميات..ليس ليبراليا لكنه حر، ليس راديكاليا لكنه مسلم، ليس يساريا لكنه مؤمن بالعدل والمساواة، ليس يمينيا لكنه مؤمن بالشورى، عربي أمازيغي في آن واحد..هكذا يُعرف نفسه هذا الذي يختفي وراء زجال الثورة بسبب الخوف من الاعتقال خاصة بعد الذي جرى للحاقد ويونس بلخديم، رغم أنه يؤكد أن المجهول يُسٌهل عملية وصول الكلمة ويُخْرج الشخص من طابع التصنيف والتموقع.. "كن كما تشاء... فقط احترمني كما أحترمك... نريد أن نعيش كما يعيش البشر.... سنتناقش وسنتوافق... لن نتطابق... لكننا لن نتنازل أبدا عن أرضية ملائمة للجميع، لن يستغل أحدنا الآخر، نريد شيئا مغربيا... مغربيا" هكذا يقول الزجال الفايسبوكي لهسبريس قبل أن ينشد: "الكلمة سيف فْمْجمع لحْرار... نْوصي ونْعيد احْفظ وْرَادك..يبان الأصل عند كل جبٌار... بكلمة الحق تْطلب امْجادك".. إلياس المغرب..محارب إلكتروني بامتياز من يعرفون هويته الحقيقية هم أولئك الذين يشتركون معه في السرية، ف"إلياس المغرب" قرر وضع اسمه الحقيقي دون اللقب ودون أي معطيات أخرى قد تؤدي لمعرفته، فهو "حذر" كما يقول لنا وليس خائفا، ومُرد حذره يعود إلى كونه لا يريد إدخال عائلته معه في المتاعب إضافة لتشنج علاقته مع الهاكر المدافعين عن أطروحات الدولة وقد يقومون بخلق عدد من المشاكل له. نحات ومبرمج معلوميات، حاصل على الإجازة في الرياضيات، لا إيديولوجية لديه غير إيديولوجية "النضال"، معاركه الإلكترونية تصل لحد القرصنة، فخبرته المعلوماتية منذ سنة 95 جعلته مسؤولا عن قرصنة عدد من الصفحات الفايسبوكية والمواقع الإلكترونية من بينها موقع القناة الثانية كما أخبرنا، "فنحن أصحاب الأسماء المستعارة لا نعاني من حب الظهور، ولا ننتظر جزاءا ولا شكورا" يقول إلياس. يحرص إلياس على خلق أكبر عدد من الحسابات على الفايسبوك، كل واحد باسم مستعار كي يتعرف على الجميع ويكتشف أقوال كل طرف، وفي كل حساب يتقمص شخصية تتفق مع محيطها، تارة هو يساري، تارة هو عدلاوي، وتارة هو من "البلطجية" كما يسميهم، كما يستخدم هذا التعدد في الحسابات لكي يستطيع معرفة مكان مخاطبه بكثير من الدقة. المونطاجور..من جنود خفاء "تقشاب سياسي".. ما نعرفه عن المونطاجور هو كونه طالب مهندس يدرس في أوربا، في بداية العشرينيات من عمره، وواحد من الناطقين الرسميين باسم حكومة سي قشوب الشخصية الفايسبوكية الشهيرة، بدأ نضاله الإلكتروني منذ تبلور الحراك الاجتماعي المغربي داخل حركة ال20 من فبراير، حيث كان يعمل على تجميع بعض الأشرطة المنشورة في اليوتيب ،ثم يقوم بقص بعض المشاهد وإعادة ترتيبها على شكل شريط قصير يحتوي على رسالة نضالية معينة، لذلك فخبرته بالمونتاج، هي التي كانت سببا في إطلاقه على شخصه اسم "المونطاجور". "الخوف إحساس طبيعي ولا يجب الخجل منه، و كل مُعارض للنظام يخاف من الاعتقال أو التعذيب أو سوء المعاملة" يقول المونطاجور جوابا عن سؤال متعلق بسبب إخفاءه لهويته، لكنه يستطرد بأن الخوف يجب أن يبقى من الله الآمر لعباده بقول الحق، ما دام الساكت عن الحق شيطان أخرس، متحدثا عن أن استخدامه لاسم مستعار لا يضرب مصداقيته، فالشخصيات الإلكترونية لا تتعامل على أساس معرفة شخصية وإنما تطرح أفكارا ومواضيع للنقاش. أخبار عاجلة..صحفي مواطن تحت يافطة رصد المغربية.. اختار اسم أخبار عاجلة لسبب وحيد، هو أنه كان ينشر ما يناهز 100 منشور في اليوم على صفحة رصد المغربية، غير أن هذا الاسم الإخباري منعه من نشر آراءه الشخصية وخواطره، فغيٌر الاسم نحو "عبدو المرضي"، بصورة لا يظهر منها سوى ذقنه، إمعانا في الاختباء عن الأنظار، ولو أنه متيقن أن الاسم المستعار لا يعني أن حامله متخفٍ عمن يهمه الأمر.. بسبب تحقيق كانت هسبريس قد نشرته تحت عنوان "الحراك المغربي..صفحات ثورة على الفايسبوك"، نشب خلاف حاد بينه وبين زملاء في الصفحة اعتبروا أن حديثه لموقعنا استفراد في اتخاذ القرار، ليتم حذفه من الصفحة التي يؤكد بأنه هو من اشتغل فيها بجهد أكبر في ظل غياب الآخرين، ولينشئ صفحة جديدة اختار لها نفس الاسم، وصلت لقرابة 20 ألف متتبع، فالقارئ الفايسبوكي، في نظر عبدو المرضي، لا يحتاج إلى تقارير مطولة، بل إلى أخبار مختصرة، ما دامت الصفحة الجديدة، قد استطاعت تكوين شبكة من المراسلين ممن اقتنعوا بفكرة صحافة المواطن.. " طَرق أحد رجال الشرطة مرة باب عملي بلباس مدني، غير أنني لم أكن حينها هناك" يعطي عبدو مثالا على المضايقات التي يقول أنه تعرض إليها، مضيفا أن إحدى مجموعات القراصنة الموالية للدولة، حاولت قرصنته أكثر من مرة، غير أن خبرته بالحماية الإلكترونية، جعلته في منأى عن هذه الهجمات.. الشعباني: من يريد أن يناضل، عليه أن لا يختبأ وراء اسم مستعار الخوف من ردة فعل الدولة كان هو السبب في ازدهار سوق الأسماء المستعارة في فترات معينة من القرن الماضي، وهو ما يؤكده أستاذ علم الاجتماع علي الشعباني عندما تحدث عن أن الأسماء المستعارة خلفت تراثا فكريا مهما معطيا مثالا باسم "أوكتاف ماري" الذي كان ينشر مقالات سياسية مميزة في عدد من المجلات والجرائد الفرنسية الشهيرة، ولم يعرف الناس بحقيقة هذا الاسم إلا بعد مرور سنوات ممتدة، حيث لم يكن سوى "ريمي لوفو" صاحب كتاب "الفلاح المغربي المدافع عن العرش". وإن كان الشعباني قد أكد على أن هناك نسبة مهمة من المغاربة يستخدمون أسماء مستعارة داخل الفايسبوك للنصب والاحتيال، فقد أشار إلى وجود نسبة أخرى تستخدم هذا النوع من الأسماء لأجل النضال الإلكتروني والاختباء عن أعين الدولة، غير أنه رأى أن هذا النضال يعتبرا سطحيا ولا يرقى إلى مستوى النضال الحقيقي الذي لا يجد مكانه سوى في الواقع المادي:" لي كيشطح ماكيخبيش لحيتو، ولي كيناضل مكيخبيش سميتو"، يقول المتحدث ذاته. وأسهب الشعباني في الحديث عن ما قال أنها آثار سلبية لمثل هذا النضال، كالإدمان على الانترنت وإضعاف العلاقات الإنسانية الواقعية، بل أن هناك بعض المناضلين الإلكترونيين، ممن نسوا كيفية العيش الواقعي، على حد تعبير الخبير الاجتماعي الذي دعا هؤلاء إلى التحلي بالشجاعة والإعلان عن أسماءهم الحقيقية حتى ولو أدوا الثمن غاليا. هل الاسم المستعار يؤمن حماية تامة للمناضل الإلكتروني؟ في شروط الاستخدام التي يضعها الفايسبوك، نجد رفضا قاطعا لاستخدام أسماء مستعارة لا تخص صاحب الحساب، فهو يكتب بالخط العريض:" على المستخدِم عدم وضع معلومات شخصية خاطئة أو مضللة على حسابه بالفايسبوك، وعليه أن لا يستخدم اسم شخص آخر دون أخذ موافقته" كما يكتب في بند آخر:" على المستخدم تحديث بياناته ومعلوماته بشكل دوري". هنا يتحدث الخبير الإلكتروني محمد الخضير، عن أن الوصول إلى المالك الحقيقي لاسم مستعار معين، تبقى مهمة صعبة لا تتم إلا عن طريق الاختراق الفائق المهارة، أو عدم تمكن البروفايل المستعار من أساليب الحماية، غير أنه أكد أن السلطات العليا بيدها الوصول إلى الهوية الحقيقية للأسماء المستعارة، خاصة وأن إدارة الفايسبوك تبقى مستعدة لمساعدتها إن تعلق الأمر بانتهاك صريح لشروط الاستخدام كانتحال شخصية ما، وأعطى الخضير المثال عن المهندس مرتضى الذي وصلت إليه الدولة بسبب انتحاله لشخصية الأمير مولاي رشيد، متحدثا عن أن المغرب وقع على اتفاقية متعلقة حماية هويات الأشخاص التي تشهد على تعاون مشترك بينه وبين أمريكا. ويستطرد الخضير بأنه رغم كل هذه القوانين، فإن الفايسبوك يتعامل بمرونة شديدة ويخاف كثيرا على سمعته، لذلك فهو نادرا ما يتعاون مع الأنظمة لكشف من يوجد وراء اسم إلكتروني داخل صفحاته، فعصر الحرية الإلكترونية يجعل من الشبكة الاجتماعية الأكثر شهرة متساهلة مع أصحاب الأسماء المستعارة لكي لا تفقد مستخدميها وشهرتها خاصة وأن هناك من يلقب الفايسبوك بأب الثورات العربية.. بدوره، يتفق حمزة فايز، واحد من المشتغلين على حماية بعض الصفحات الثائرة، مع نفس الرأي، ويتحدث عن أن الفايسبوك بيٌن على كونه قادر على استخراج كل المحادثات المتعلقة ببعض المواضيع الحساسة باستخدام مؤشرات خوارزمية دقيقة، ويظهر ذلك عندما ألقت السلطات المحلية بعدد من البلدان القبض على مجموعة من "المجرمين" انطلاقا من حساباتهم على الفايسبوك التي كانت بأسماء مستعارة وبمعلومات شخصية غير دقيقة رغم خبرة هؤلاء "المجرمين" بأساليب الحماية الإلكترونية. وأكد حمزة بأن الدولة المغربية لديها النية للوصول إلى أصحاب الهويات المستعارة بالفايسبوك، وأنها أنشأت محطات لتتبع الآثار الرقمية بكل من فاس ومراكش وقريبا بعدد من المدن الأخرى، كما يُمكنها في ذلك الاستعانة بتتبع آثار "الإيبي" (الكود الخاص بكل متصل بالانترنت) الذي ستوفره لها الشركات المزودة بخدمات الانترنت، حيث يمكن لهذه الشركات تقديم بيانات المشترك المسجٌل لديها للسلطات المعنية. ويستخدم حمزة وزملائه مجموعة من التقنيات لحماية أنفسهم، كالشبكات الافتراضية "vpn"، التي تُمٌكن المستخدم من الاتصال بالانترنت عبر كود إيبي يتغير في كل اتصال بأن يجعل المستخدم متصلا من دولة غير الدولة التي ينتمي إليها، وكذلك برنامج "تور" الذي يعمل على تشفير البيانات قبل إرسالها للسيرفر، وهو ذات البرنامج الذي تستخدمه مجموعة الأنونيموس الشهيرة، إلا أن كل هذه الطرق، تبقى غير فعالة بشكل تام، لأن الحماية الإلكترونية تبقى معرضة للكثير من الثغرات، وهو ما يفسر التطوير المستمر لبرامج الحماية ومكافحة التجسس. هل النضال الفايسبوكي يحقق شيئا ما؟ بغض النظر عن محاولة الموقع الاجتماعي الشهير التقليص من عدد المجهولين في صفحاته، بمنعه التسجيل في الاسم بأسماء الدول والمدن والأماكن المعروفة، وكذلك بتفعيله لتقنية: كل حساب على الفايسبوك يساوي رقم هاتف محمول، إلا أن كل هذه التقنيات لا تمنع أصحاب "الظلال السوداء" من الظهور بين ثنايا الفايسبوك حاملين لراية النضال الإلكتروني في مواجهة سلطات، يرون أنها تخنق حريتهم وتريد مصادرة آرائهم.. وبالنظر إلى ما أفرزته حركة ال20 من فبراير من دينامية كبيرة انطلقت من الفايسبوك لتصل إلى شوارع وأزقة المدن المغربية، فالنضال الإلكتروني يبقى وسيلة فعالة لتعبئة الجماهير ولحثهم على الخروج، لكن بشرط أن يظهر بعض من قادتها ويكشفوا عن هوياتهم الحقيقية، لأن الاختباء التام وراء أسوار الفايسبوك، قد يجعل النتيجة تكون أشبه بما حدث يوم 13 يناير، عندما حضرت الشرطة وغاب المتظاهرون.. لذلك، يبقى تأثير مجهولي الفايسبوك، محدودا، قد يصنع الغرائب والعجائب في العالم الافتراضي، لكنه قد لا يصنع شيئا في الواقع المادي، غير التأثير سلبا على نداءات الفايسبوك..