تشكل شبكات التواصل الاجتماعي، ومنها الفايسبوك، تطورا هائلا وغير مسبوق في تكنولوجيا المعلومات والتواصل، وانقلابا هائلا في الوسائط الإعلامية المتعددة تتجاوز في هندستها عبقرية هندسة الفضائيات والهاتف الجوال بل والطرق السريعة للمعلومات أي الأنترنيت. وتتميز هذه الوسائط عن كل التقدم الذي عرفه التواصل وميدان الإعلام السمعي البصري بالمميزات التالية : السرعة في وصول وإيصال المعلومة بالشكل الذي يقضي على تلك المسافة الزمنية بين الحدث والخبر. لقد كان الحدث في الإعلام التقليدي يسبق الخبر، أي أن الخبر كان إعلاما بحدث فصار الحدث والخبر متزامنان، بل صار الخبر يصنع الحدث وصار من أهم العوامل الفاعلة في صناعة التاريخ، بحيث يمكن القول اليوم إن الفايسبوك هو الثائر الأكبر والسياسي الأول في الآونة الأخيرة. إننا دخلنا عصر "فسبكة" المجتمعات، "فسبكة" السياسة، "فسبكة"العمل السياسي والنقابي والمدني. إننا أمام نمط جديد من التنظيم والعلاقات وإعادة تشكيل المفاهيم والولاءات. إننا مع ظاهرة جديدة هي ميلاد حزب الفايسبوك ونقابة الفايسبوك واعتصامات الفايسبوك، وتظاهرات الفايسبوك، ومخابرات الفايسبوك وبلطجة الفايسبوك وهلم جرا. انتفاء الوساطة بين مستهلك الخبر وبين منتجه فصار " المستهلك القارئ " منتجا للخبر، أي مستهلكا ومنتجا، قارئا وصحفيا في نفس الوقت. اللحظية والآنية والحرية في النشر وعدم الخضوع لبروتوكولات النشر المعروفة ومن ثم لكل أشكال الرقابة الذاتية أو المؤسساتية أو القانونية حتى، حيث لم يعد محكوما أو موجها بسياسة تحريرية معينة أو بتراتبية مهنية تحدد سلفا ما ينبغي أن ينشر وما لا ينبغي أن ينشر وما ينبغي أن ينشر و كيف سينشر. تجاوز التقنيات الصحفية التقليدية المعتمدة في الصحافة المكتوبة. لقد تبخرت التقنيات الصحافية المعروفة التي كانت تعتمد من أجل إقامة تراتبية في الأخبار، وإعطاء أولوية لخبر على حساب الآخر، مثل المانشيتات وأولوية الصفحة الأولى والتموقع المكاني للمقال في الصفحة هل هو على اليمين أو اليسار أو أعلى الصفحة أو أسفلها، وهل هو مظلل أو غير مظلل إلى غير تلك من تقنيات الإخراج الصحفي. الاختصار وقصر الرسائل حيث إننا اليوم لم نعد أمام مقالات بالمعني التقليدي، ولا حتى أمام الطرق التقليدية التي كانت معتمدة في بناء الخبر ومنها على الخصوص ما يسمى الهرم المقلوب بل إن الرسالة تصاغ في لغة مركزة ومباشرة، يختلط فيها الإخبار بالتعليق والتحليل بعرض الحوادث. التعدد الوسائطي أي الاستفادة من كل ما توفره الوسائط المتعددة من تقنيات كما يظهر ذلك من خلال الفيديوات التي يتم تحميلها من مسجلات الهاتف النقال مباشرة أو تنزيلها من اليوتوب أو من غيره من المواقع التي تتيح إمكانية التحميل أو يجري تركيبها من خلال ما توفره برامج الويندوز من إمكانيات مثل اللوفي مايكر والميديا بلاير و غيرها ...ومن ثم تعدد وسائل وتقنيات الخطاب والإخبار. التشبيك الخبري حيث يتيح الفايسبوك لغير صاحب الصفحة إمكانية تنزيل مواده الإخبارية أو التحليلية أو رسائله القصيرة على حائط صفحتك، مما يجعل من الصعب أحيانا التحكم في كل ما ينشر أو متابعته. التفاعلية حيث يمكن الفايسبوك من تفاعلية آنية مع كل ما ينشر وهو ما يحوله إلى فضاء ل "لنقاش " أو لنقل للدردشة بكل ما تحمله كلمة التفاعلية من إيجابيات والدردشة من سلبيات. التراكمية المعلومية التي تعني أن الفايسبوك يسمح بتداول كم هائل من المعلومات والأفكار في ظرف زمني قياسي، وهو الكم الهائل الذي بتناسب طردا مع اتساع دائرة العلاقات التي ينسجها "الفايسبوكي" وعدد الأصدقاء من جهة وعدد المتفاعلين مع ما ينشره من غير الأصدقاء أيضا. نحن إذن أمام حالة فريدة في تاريخ تطور تكنولوجيا التواصل والمعلومات، يمكن أن نقول إنها حققت مشاعية المعلومة وتجاوزات عصر احتكارها كما تجاوزت الخطاب التقليدي حول الحق في المعلومة، لأن المطروح اليوم هو الحق في المعلومة الصادقة والصحيحة. تحديات وحدود غير أنه بالقدر الذي يعتبر الفايسبوك تحولا جذريا في التواصل، وفي بناء القرار والقدرة على التأثير في القرار بعيدا عن الأساليب الكلاسكية والأطر التنظيمية والمؤسسية، فإن ذلك لا يمنع من طرح بعض التحديات التي تطرحها هذه الأداة التواصلية الجديدة، تحديات تتعلق بالأضرار الجانبية التي يمكن أن تترتب عن هذا المولود الجديد ذات صلة وثيقة بالثقافة والقيم ونوعية التفكير السياسي. ويمكن أن نفهم هذه التحديات من خلال الوقوف على الجوانب السلبية والمضاعفات الجانبية المتصلة بالإفراط في التعويل على التواصل الفايسبوكي أو في جعله بديلا عن التواصل الإنساني المباشر، أو عن أشكال التأطير والتنظيم السياسي الأخرى . إننا إذ نسجل أن المؤسسات الحزبية والنقابية والجمعوية في سياق غير ديمقراطي، وفي سياق سياسي تحكمي سعى إلى إفراغها من المضمون، وعمل بكل الوسائل على التشكيك في جدواها، قد أصبحت قاصرة في معظمها عن الاستجابة لطموح الشباب، سواء من حيث طابعها الديمقراطي أو من حيث تصلبها وضعف قابليتها للتأقلم مع المعطيات الجديدة، نود أن نسجل أيضا عددا من الملاحظات حول ما نسميه بالأعراض الجانبية، كما نسجل بعض الملاحظات المنهجية والضوابط الأخلاقية والقيمية التي وجب مراعاتها في استخدام الفايسبوك، وهي ملاحظات بدت لي من خلال دخولي في حوارات مع مستخدمين ومدمنين على هذه الوسيلة التواصلية. في التعاطي مع الفايسبوك.. أعراض جانبية سلبية وقواعد منهجية تجدر الإشارة إلى أن بعض هذه الأعراض مشتركة بين الفايسبوك وغيره من وسائل التواصل التقليدية الأخرى، لكنها في حالة الفايسبوك تكتسب خطورة أكبر سواء بسبب نوعية المستعملين الذين هم في أغلبهم شباب، أو بسبب افتقادهم لقواعد العمل المهني الصحفي. يمكن حصر هذه الأعراض فيما يلي: ضعف السند أو قلة التثبت من مصادر الخبر : الإسناد كما هو معروف موضوع علم شريف وفريد انفرد به المسلمون كان الغرض حفظ السنة النبوية من التحريف من خلال تتبع وفحص سلسلة الرواة الذين نقل عنهم هذا الحديث من لدن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى أن انتهى إلى أحد الحفاظ المشهورين كمالك أو البخاري أو مسلم رضي الله عنهم. والإسناد كما عرفه أهل العلم: رفع الحديث إلى قائله. ومعرفة السند هي الأساس عند المحدثين في الحكم على درجة الحديث إذ إن عماد الصحة أو الضعف عندهم درجة الراوي من الصدق، ودرجة روايته من الوضوح والثقة، إذ أنهم كلما ضعفت عدالة الراوي وضبطه كلما كان ذلك مؤثرا في متن الحديث أو الرواية. وحين نتأمل اليوم في عالم الصحافة على العموم نلاحظ أن هناك ضعفا في الإسناد إذ يتم الحديث عن مصادر عليمة أو مصادرة مطلعة أو مصادر مقربة، أو مصادر طلبت عدم الكشف عن هويتها إلى غير ذلك من الصيغ التي تبقي الخبر دوما في منطقة الظن ولا تفيد يقينا ومن ثم لا ينبغي أن يبنى عليه عمل . وتتفاقم هذه الظاهرة أكثر في الفايسبوك حيث يتم تداول كم هائل من المعلومات والمعطيات التي تكون أحيانا مجهولة المصدر، وفيديوات غير محددة الجهة المنتجة وغير محددة الإنتاج. وهناك عدة أمثلة أذكر منها أنه خلال الفيضانات التي عرفتها مدينة الدارالبيضاء تم ترويج فيديو مسجل عن الفيضانات التي عرفتها مدينة جدة السعودية ظنا بأنها صور من مدينة الدارالبيضاء! وانتشر الفيديو انتشارا تصاعديا بمتوالية هندسية مما يبين أنه أصبح من اللازم التعارف بين مستعملي الشبكات الاجتماعية على برتوكول يضع قواعد النشر يتأسس على علم جديد يمكم تسميته "علم الرواية الفايسبوكية" وضوابط جديدة للإسناد الفيسبوكي وعلم رجال الفيسبوك وعلم مصطلح الدردشة الفيسبوكية وهلم جرا. ضعف التحليل المعرفي والنقد العقلي , ترتبط هذه القاعدة بطبيعة التواصل عن طريف الفايسبوك الذي يتميز كما أشرنا إليه أعلاه بكون صبيب المعلومات والمعطيات فيه صبيب مرتفع جدا لا يكاد يترك للمستخدم مسافة زمنية أو عقلية أو معرفية لتحليل المعلومة وتقييمها والتثبت منها أو لتقليب النظر في التعليق. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الفايسبوكي الذي يكون منخرطا في عدة مجموعات في نفس الوقت وأنه حين يختار وضعية ( موجود على الخط)فإن المتصل يتلقى طلبات محاورة متعددة في نفس الوقت، كما تفتح على شاشته دردشات متعددة تنزل معها دون شك القدرة على التركيز وعلى التحليل والنقد العقلي والمعرفي ، يتحول معها التواصل إلى ضده ويؤدي إلى خلق وضعيات من سوء التفاهم والتشنج أحيانا، وهذا يعرفه المدمنون على الفايس وقضية الإدمان قضية أخرى. أما عن التثبت من الوقائع والأحداث فحدث ولا حرج. وكون وسيلة التواصل حديثة وحداثية في الشكل لا تنفي أنها تنطوي في ضوء غياب التحليل المعرفي والنقد العقلي على مخاطر تكمن في نشر ثقافة التقبل السلبي لكل ما يلقى في بحر الفايسبوك بما في ذلك من روايات ذات طابع خرافي تتناقض مع منطق العقل وطبائع العمران. ومن هنا يكون من اللازم تنبيه رواد الفايسبوك على ضرورة تأمل ضابط طبائع العمران كما نظر له ابن خلدون، ومراعاة سنن التاريخ وسنن الكون في التعامل مع الأحداث والأخبار، وهي المراعاة التي أهلت بن خلدون كي يكون مؤسسا للتاريخ كعلم وللأسس الأولي لعلم الاجتماع.نحن اليوم مع الفايسبوك نقف على مشكلة قديمة جديدة . مشكلة قديمة طرحت على المؤرخين الذين وضعوا عدة آليات منهجية للثبت من الواقعة التاريخية أو من إعادة بناء الواقعة التاريخية. إذ أن رواية الخبر لوحدها غير كافية لإثبات صحة الخبر بل لا بد إضافة إلى ضبط السند من اعتبار قواعد وسنن العمران البشري. و في هذا الصدد حدد ابن خلدون أسباب تؤدي إلى دخول الوهم والأغلاط فيما يتناقله الرواة من أخبار، مما يجعل الرواية أو المؤرخ ضحية لعدد من الأوهام والأكاذيب التي منشؤها حسب ابن خلدون إحدى الأمور التالية : الجهل بطبائع العمران، أي عدم عرضها على مقياس العقل والبرهان. التشيع للآراء والمذاهب. الثقة بالناقلين. وقد أعطى نماذج من تطبيقه لقانون العمران، وأورد فيه أمثلة لأخبار مستحيلة الحدوث وردت في كتب المؤرخين السابقين، على غرار ما أورده المسعودي وغيره من أن جيوش موسى عليه السلام قد بلغت ست مائة ألف مقاتل لا يثبت أمام التحليل التاريخي والتمحيص العقلي حيث اعتبر أن الرقم الذي أورده المسعودي أمر غير معقول، وان القوانين التي يخضع لها تزايد السكان تحكم بعدم إمكان صحته، وذلك أن ما بين موسى ويعقوب عليه السلام هو أربعة آباء، فموسى هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وقد كان عددهم حين دخلوا مصر في عهد يعقوب 70 فردا كما ذكرت مختلف الروايات. ومكثوا بها 120 سنة، فيستحيل في أربعة أجيال أن يكون هذا العدد الضخم يتماشى مع منطق التزايد في النوع البشري. فلو دقق المسعودي وغيره من المؤرخين في هذا العصر، وعرفوا أن فرعون مصر كان يضطهد بني إسرائيل، ويذبح أبنائهم،لعرفوا انه يستحيل أن يصل هذا العدد إلى أكثر من 6 آلاف، والفرق واضح بين 6 آلاف و600 ألف. وإذا تركنا قضية الثقة بالرواة وأهمية التثبت من الروايات من خلال معيار السند، وتركنا قضية النقد العقلي والمعرفي بمختلف الوسائل المنطقية والمنهجية التي يمكن أن يمارس بها، وما اعتبار قواعد العمران المبنية على الفحص والاستقراء التاريخين، وانتقلنا إلى القضية الأولى أي قضية التشيع للمذاهب والآراء، وحاولنا تنزيلها على واقع الممارسة الفايسبوكية كان من اللازم التوقف عند الملاحظات التالية : ظاهرة التعليقات الموجهة حيث يكشف واقع الممارسة أنه من خلال وجود مجموعات منظمة ومنسقة الجهود أنه من الممكن توجيه النقاش إلى الوجهة التي تريد المجموعة، في حين قد يظن البعض أن الأمر يتعلق بتفاعل عادي وطبيعي. وهذه الظاهرة أي ظاهرة "الإنزال الفايسبوكي"، ظاهرة عرفتها برامج تلفزيونية سياسيسة ودينية مشهورة مثل برنامج الشريعة والحياة، الذي تعرض في مرحلة معينة لإنزال مكثف من أعضاء حزب التحرير الإسلامي من بعض دول المنطقة. وفي بعض المواقع الواسعة الارتياد يتكلم كثير من العارفين عن معطيات حول الطابع الموجه للتعليقات التي يتم نشرها حول الأخبار والتحاليل المنشورة. وفي الأسابيع التي سبقت 20 فبراير كان من الواضح دخول عدد من الجهات على " ميدان تحرير الفايسبوك " مما كان واضحا وضوح الشمس في ضحاها. ظاهرة اختراق المجموعات الحزبية أو الشبابية وتحويل مسارها عن المسار الأول حيث من الملاحظ أن عددا من المشاركين يدخلون في البداية وكأنهم يتبنون فكر المجموعة ومبادئها وقضايا ثم يقومون بعد ذلك بعمليات التفاف من أجل شق صف المجموعة أو التأثير في مسارها الفكري، ويعزز من نجاح بعض هذه المحاولات ما أشرنا إليه من ضعف في التحليل المعرفي والنقد العقلي. ظاهرة انتحال الصفات والانتماء والشخصيات كأن يقدم المعلق نفسه وأنه ابن تنظيم معين والأمر أنه لا علاقة له بالتنظيم، ويحشر نفسه في نقاشات خاصة بتنظيم حزبي ويعمل على توسيع شقة الخلاف في الآراء بدعم الرأي الأقرب إلى هواه أو إلى اجتهاد التنظيم الذي يتنمي إليه. التكتم واستخدام الأسماء والكنيات المستعارة وقد يحدث هذا فعلا من أشخاص منتمين حقا وصدقا للخط الفكري للمجموعة الفايسبوكية، وقد يقع من أشخاص منتحلين للصفة ودخلاء عليها، وعلى العموم تقلل هذه الظاهرة من جدية التبادل الفكري والحوار بين المشتركين، لأن الحوار يفتقد لأحد أركانه وهو تعارف المتحاورين، وأقصد معرفة كل منهما للمنطلقات الفكرية والمذهبية والسياسية والإيديولوجية للآخر. ومن المعلوم أن علماء الحديث كانوا يتركون رواية " مجهول الحال " ويعتبرونها مطعنا في صحة الحديث. التكتم عن الانتماء التنظيمي واستخدام الفايسبوك وصفحاته لنشر دعوات ظاهرها أنها تلقائية وشعبية والواقع أنها واجهة لتصريف مواقف سياسية لم يجرؤ التنظيم السياسي على الدعوة إليها أو تبنيها صراحة أو فشل في تمريها تحت لا فتته السياسية، وهي وسيلة لحشد المستقلين الغافلين والثوريين اليائسين من التنظيمات وإيقاعهم في خدمة أجنداتتنظيمية سياسية وحزبية. الوثوقية : المتتبع لما ينشر في الفايسبوك يكتشف أن هذه الوسيلة التواصلية تعتمد السرعة في تداول المعلومة والكثافة في تدويل المعلومة، كما يلاحظ الأهمية القصوي للصورة والمؤثرات الصوتية مما يجعلها أقرب ما تكون إلى الإعلام المرئي. في هذه الحالات لا تكون للمقالات التحليلية أو الفكرية قادرة على مجاراة الصورة والخبر والتعليق القصير والرسائل النصية القصيرة في القابلية للاستهلاك، وإقبال جمهور المستعملين عليها، خاصة وأن المستهلك لا يرضى بوضعية القارئ المتأمل، أو الناقد للنص الذي يقوم على عمليات عقلية متعددة منها الفهم والتحليل والتركيب والنقد والتجاوز، بل إنه ينتقل بسرعة من مستهلك للخبر والمعلومة إلى منتج لتلك المعلومة، مما يدفع بعض المستعملين إلى أن يكونوا في وضعية نشر أكثر من وضعية قراءة واستيعاب. تترتب على ذلك نزعة وثوقية قد يكون منشؤها الشعور بالسيطرة على المعلومة والقدرة على نشرها مما ينشئ حالة من " الامتلاء " المعرفي المتوهم، ويؤدي إلى حالة من الوثوقية المعرفة أونزعة التمركز المعرفي حول الذات. ومن مظاهرها ضعف الإنصات والحوار، وطغيان التمركز حول الذات، وهي ظاهرة يدل عليها ضيق الصدر بالمخالف والميل إلى إصدار الأحكام المسبقة والجزافية على الآخرين، وضعف القدرة على المراجعة الذاتية، ومن جرب " الحوار " على هذه الوسيلة، لن يختلف معنا في هذا التحليل. ظاهرة الإدمان ومن المضاعفات الجانبية لهذه الوسيلة الإدمان . ويبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي زادت من تعقيد هذه الظاهرة التي تحتاج إلى دراسة سوسيوثقافية، أو سيكوسيولوجية. ومن الفرضيات التي يمكن طرحها للبحث والفحص صدمة اللقاء مع التكنولوجيا حيث شهدنا هذا الإدمان في وقت من الأوقات في التعامل مع التليفزيون عند ظهوره، ورأيناها في التعامل مع الهاتف النقال عند ظهوره، ورأيناها مع ظهرر الصحون المقعرة والفضائيات وهلم جرا. ومن الفرضيات أيضا أن هذا الإدمان هو تعويض لخصاص في التواصل وفقر في العلاقات الاجتماعية الحية والمباشرة ، وضعفا في الانتماء للجماعة ، وفي قدرة هذه على إدماج الشباب ، وفقرا من قبل هؤلاء في القدرة على الأداء والإنجاز والتأثير في الواقع السياسي والاجتماعي ، فيكون الهروب إلى الواقع الافتراضي تعويضا عن ذلك الخصاص في الواقع . ومن الفرضيات أيضا أن الضعف والعجز في وسائل التأطير السياسي والاجتماعي التقليدية من أسرة ومدرسة وأحزاب ونقابات وجمعيات ومؤسسات للدولة قد قاد إلى البحث عن وسائل وفضاءات أخرى للتأطير فجاء هذا النوع من" التأطير "ا لافتراضي، هذا إذا جاز أن ننسب للفايسبوك تأطيرا. المثالية والتصور الافتراضي للعالم: وبالنظر إلى المعطيات والفرضيات السابقة فإن الإدمان على الفايسبوك ينتهي إلى تصور افتراضي للعالم. ومن مقومات هذا التصور الافتراضي : اختصار المسافة الزمنية حيث إن المعطى الزمني يختصر اختصار البريد الإلكتروني للزمن الذي كان تستغرقه رسالة عن طريق الحمام الزاجل أو سريان خبر عن طريق " البراح "، وهو ما يجعلنا اليوم اقرب إلى فهم ما قاله عفريت الجن لسليمان : " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " وما قاله الذي عنده علم من الكتاب: " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " . ولعلنا ونحن نرى هذا التسخير الإلكتروني الرهيب أن نستحضر ما قاله سليمان ذاكرا لنعمة الله ومقدرا لمقتضياتها : " هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن كفر فإن الله غني حميد ". وهو ما يقودنا إلى المضاعفات الأخلاقية التي يمكن أن تترتب عن سوء استعمال الفايسبوك. المخاطر الأخلاقية هذه المخاطر تعود بنا إلى سؤال تقليدي كان يطرحه دوما ويطرح دوما على فقهاء المسلمين، وهو ما موقف الدين من مستجدات التكنولوجيا ؟ طرحه الفقهاء مع ظهور الهاتف، وطرحوه مع التلفاز، واللباس الإفرنجي وإدخال أطفال المسلمين للمدارس الحديثة، وحكم تعليم البنات وهلم جرا .. من عشرات القضايا التي غالبا ما انقسم فيها الفقهاء بين مذهب سد الذريعة وفقه الأحوطيات الذي انتهى في كثير من الأحيان إلى حكم التحريم، وبين فقد المقاصد الذي ذهب إلى أن للوسائل حكم المقاصد وأنه إذا استخدمت مستجدات التكنولوجيا من أجل أغراض مشروعة كان الاستخدام مشروعا وإذا استخدمت لغير ذلك كان العكس، ومن ثم أجروا عليها الأحكام الفقهية المعروفة من جواز و نذب واستحباب ووجوب وكراهة وتحريم. وبين هذا وذاك، وانطلاقا من رؤية تقر أن الواقع والتطور التاريخي والحضاري لا ينتطر أحكام الفقهاء ولا يخضع لها بل إنه يصنع فقه الخاص ويعمل على التكيف التلقائي مع معطيات العصر، ويعمل على استيعابها والتلاؤم معها كي يخضعها في نهاية الأمر عموما لمنظومته القيمية التي هي أيضا في تأقلم متواصل دون أن تفقد مرجعيتها العامة أقول، إنني أميل إلى الدعوة لتعامل واعي وخلاق مع هذه الوسيلة، ويعني ذلك أساسا التركيز على بناء الشخصية المتوازنة الناضجة المتلكة للكفايات والمهارت العقلية والمعرفية والسلوكية، والمتمثلة لمنظومة قيم إيجابية وفعالة، على اعتبار أن الرهان ينبغي أن يقوم على الإنسان وعلى الثقة فيه وعلى فطرته وسلامة عقله ومنطقه وميراثه الثقافي والحضاري الإيجابي. وهذا يعني مقاربة تقوم على فتح الذرائع وليس على سدها، وعلى فقه أخلاقي يقوم على أساسا على استفتاء الضمير وعلى أن الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس، أكثر من فقه يقوم على تشوير طريق السائر بعلامات الممنوع والمسموح، علامات الجائز والمحظور. فعلامات التشوير لن تفيد سائقا لم يمتلك بعد التحكم في مهارات التحكم في مهاراته، وعلامات التشوير لا تمنع السائق المتهور من ارتكاب جرائم على الطريق. وسحب رخصة السيارة لن تمنع سائقا متهورا من أن يمتطي سيارة غيرسيارته، وهذا ينطبق على استخدام هذه الوسيلة. نقول هذا ونحن نستحضر ما يتضمنه استخدام هذه الوسيلة من مخاطر أخلاقية رغم أن في قانونها ما يحد من الانزلاق الأخلاقي من قبيل التعهد بعدم نشر مواد غير أخلاقية كالصور العارية أو اللقطات الذاعرة أو الألفاظ التي تحث على الكراهية أو العنف أو العنصرية أو المتاجرة بالأطفال، وبالرغم مما تسمح به من تنبيه للقائمين على الموقع الاجتماعي من استخدامات غير أخلاقية. ولكن من حيث اختلاف المرجعية بيننا وبين الأوروبيين فإن هناك تفاوتا في اعتبار ما هو أخلاقي. فإذا كانت المعاشرة الجنسية خارج نطاق الزواج تعتبر من المنظور الإسلامي أمرا غير أخلاقي، فإنها من المنظور الغربي لا تكون كذلك إذا كانت عن تراض وتواطئ بين الطرفين، لذلك تبقى هناك بعض المخاطر الأخلاقية لصيقة بهذه الوسيلة أكثر من غيرها خاصة في ضوء ما تسمح به من حميمية وتبادل مغلق نسبيا، واتصال بين الجنسين بعيدا عن أي شكل من أشكال المراقبة. لكن دواء هذا يقوم أساسا في التوعية وفي بناء عناصر المناعة الأخلاقية لدى المستخدمين. خلاصات منهجية وأخلاقية الخلاصة الأولى: أن وسائط التواصل الاجتماعي تبقى مجرد وسائط، وأنها رغم طابعها الثوري والخلاق على مستوى سرعة التواصل وتشبيك التواصل لن تكون بديلا عن التواصل الإنساني في أبعادها المختلفة. الخلاصة الثانية: أن وسائط التواصل " الاجتماعي " ولنقل وسائط التوصل الاجتماعي الافتراضي، لا يجوز أن تكون على حساب التواصل الاجتماعي الحقيقي بل ينبغي أن تكون خادمة لها. وليس صحيحا أن ما حرك الثورة العربية هو الفايسبوك بل إنه هو وغيره من وسائل التواصل والإعلام الحديث كانت عوامل مهمة لكنها لم تكن العوامل الحاسمة. كان هناك دور للثورة الافتراضية ولكن الثورة كانت في ميدان التحرير، وكان عمادها شباب تكونوا في ظل تنظيمات واقعية على الأرض، ومروا عبر برامج طويلة من التكوين التربوي والثقافي والتأهيل في المجال التنظيمي والخدمات وهم الذين كانوا العمود الفقري وأجهضوا بطريقة بطولية هجوم البلطجية في " معركة الجمل " المشهورة . الخلاصة الثالثة: أن الغياب عن هذه الوسيلة التواصلية هو عامل من عوامل تعميق القطيعة بين الأجيال، وقد لا يكون جيلان قد واجها قطيعة بمثل هذه الحدة كما هو عليه الأمر اليوم. فالبقدر الذي ينبغي أن ينتبه الشباب إلى أهمية العمل الميداني وأن العمل الافتراضي لا يغني عن العمل الميداني ومواجهة تعقيداته اليومية وجب تنبيه الأجيال السابقة إلى ضرورة العمل على ردم الفجوة الإلكترونية التي تزيد في تعميق المسافة بينهم وبين الشباب. الخلاصة الرابعة: أن على رواد ومستخدمي هذه الوسيلة الحذر من المنزلقات المشار إليها والتسلح بالأدوات العلمية والمنهجية التي تقي منها : التثبت من مصادر الخبر، التمحيص المعرفي والنقد العقلي، الوضوح الصادق بالكشف عن الهوية وعدم انتحال الصفات والانتماء، التواضع واعتبار النسبية في الأحكام والحذر من نزعة التمركز حول الأنا الفايسبوكية، الموضوعية في المواقف والأحكام، تجنب القذف والتجريح للأشخاص والهيئات، التوظيف الإيجابي والعقلاني لهذه الوسيلة، اعتماد المعطيات واجتناب الأحكام الجاهزة، الواقعية والحذر من الإدمان على العالم الافتراضي. الحس النقدي والحصانة الفكرية والخلقية. مراعاة أداب الاختلاف واحترام المخالفين. الخلاصة الخامسة: أن الفايسبوك ليس سوى قناة في التواصل، أي ليس إلا عنصرا في منظومة وخطاطة التواصل كما عبر عنها علماء هذا المجال، وهي المنظومة التي تتكون بالإضافة إلى القناة من مرسل ورسالة ومرسل إليه، وسياق للتواصل، ومرجع للتواصل. فهل السيطرة على القناة وحدها كافي كي نؤكد السيطرة على العملية التوتصلية بأكملها؟ الجواب بدهي وواضح، وبهذا الجواب واستحضاره يمكن الاشتغال على مختلف المكونات الأخرى، بهذا تأخذ القناة حجمها الحقيقي . بذلك وحده لا نقع ضحية لميثافيريقا اسمها فايسبوكوضحية اغتراب اسمه الاغتراب الفايسبوكي.