كعادته، أطل علينا الأستاذ أحمد عصيد بمقال منشور في المجلة الإلكترونية هسبريس، بتاريخ 26 نونبر 2012، بعنوان "محاربة الأمية في الأمازيغية" ينتقد فيه المواطن ووزير التعليم العالي "لحسن الداودي" بكونه لم يواكب عملية المأسسة للأمازيغية التي انطلقت منذ 2001، و باعتباره لا يفهم اللغة المعيار التي تعتبرحسب قوله لغة رسمية بنص الدستور. ولكن ما غفل عنه السيد عصيد، أو ما تغافل عنه، هو عدم وقوفه عند تنكيرها بجعلها "لغة رسمية" وليست "اللغة الرسمية" كما هو الشأن بالنسبة للغة العربية في نص الدستور، وشتان ما بين التعبيرين. ثم مر إثر ذلك إلى إثقال كاهل السيد لحسن الداودي بوابل من التهم بزعمه أنه ما فتئ يقع في تناقصات من أبرزها أنه :" تناقض مع الدستور الذي يقر الأمازيغية "لغة رسمية" وليس لهجات محلية رسمية". وقد تناسى السيد عصيد أن لفظة لغة هنا قد تؤول بربطها بفصول أخرى في الدستور ولا يمكن عزلها عن السياق العام. وبناء عليه فإن لفظة ''لغة" هنا تعني اللهجات جميعها كما هي في واقع الحال لا كما هي في اللغة المعيار المبتدعة، وذلك تأسيسا على منطلقات عدة أولها: تصدير الفصل الخامس من الدستور بالقول " تظل العربية اللغة الرسمية للدولة" فتعريف اللغة العربية هنا بمثابة إقصاء نوعي أو تعال أو سمو عن باقي اللغات واللهجات. وثانيهما: أنه في الفصل نفسه يقول:"يحدث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية " فلو افترضنا أن الدستور يقر باللغة الأمازيغية المعيار بديلا للهجات لاستبدل لفظة ''اللغات العربية والأمازيغية" ب"اللغتين العربية والأمازيغية'' لكون اللغة العربية تعرف التثنية والجمع وليس كالأمازيغية أو الفرنسية أو الإنجليزية. وثالثهما أن الدستور لا يمكن أن يضع شهادة ميلاد لشيء ليس موجودا أصلا ولم يمر وجوده من القوة إلى الفعل. لاأحد يشك في مؤهلات الأستاذ عصيد ولا في نزاهته و بياض يديه، ولكن تسييس نقاشاته وربطها ربطا مباشرا بما هو يومي يخرجها من إطار العرض والمناقشة والتحليل الرصين إلى منطق المحاماة والمرافعة عن الأمازيغية بصيغة تشي بامتلاكه للحقيقة المطلقة أو التفويض المطلق له من فئة لتغليب أطروحة على أخرى. وهذا السجال المبني على التلاسن الظرفي قد يجر البلاد إلى الفتن التي نربأ بأنفسنا عن الدخول في متاهاتها، والتي نحن في غنى عنها لما عرف عن الشعب المغربي من تسامح وتعايش وتساكن بين مكوناته العرقية والإثنية والثقافية منذ المولى إدريس. ويبدو لي أنه لو كان الأستاذ عصيد منتدبا من قبل الشعب المغربي لما وقع في مثل هذه التناقضات. ثم إنه لو كان في هذا المقال يمثل الباحث الأكاديمي لاستغل امكانياته العلمية أحسن استغلال، ولأفاد بمؤهلاته واستفاد، ولما دخل في نقاشات لا تخدم البحث العلمي، ولا تفيد النقاش العام الذي يبحث عن مخرج مرض، وحل سلس ومتوافق عليه من كل مكونات الشعب المغربي. وأؤكد أن مثل هذه الخرجات المتكررة له ليست في صالحه بقدر ما تستفز الشعور العام، وتؤزم الوضع، وتؤجج الخلاف. ومما يزيد الطين بلة هو قيامه بمقارنات لا يستدعيها المنطق السليم، ولا تخضع للضوابط العلمية، ولا لما هومتعارف عليه؛ من قبيل أن ما تقوم به اللجنة المكلفة بالأمازيغية هو بمثابة عمل سيبويه. إن مقارنة كهذه أمر في غاية الغرابة لأنه شتان بين عملية التوليد القيصرية وبين الولادة الطبيعية. فسيبويه اعتمد اللغة العربية لغة واحدة متمثلة أساسا في القرآن والشعر لاستنباط قواعد لغوية أو تعريب بعض الكلمات الافرنجية، بينما المعهد الملكي ينكب أساسا على خلق لغة جديدة من رحم لهجات متعددة : "ترفيت وتاشلحيت وتمازيغت". وهذا المخلوق الجديد سيفرض على الشعب المغربي. فإذا كان القرآن من بين أسباب توحيد اللهجات العربية فإن اللهجات الأمازيغية ليس هناك ما يوحدها، وليس هناك داع لفرض لهجة على أخرى، أو تغليبها، إلا إذا كان السبب هو كون أغلب المشرفين على المعهد الملكي هم من سوس وليسمح لنا الأستاذ عصيد لتذكيره بأن الشعب هو مصدر السلطة ومصدر اللغة، ويرفض كل ما هو ممنوح مثله مثل الجسم الذي لا يقبل الأعضاء المزروعة إلا باعتماد المضادات الحيوية والاستعانة ببعض المقويات التي تعطي الجسم مناعة آنية لا تدوم. وليس من الضرورة أيضا التذكير بأن لكل شخص حرية التفكير، وإبداء الرأي، ومناقشة مواضيع الساعة، شريطة ألا يتعدى إلى فرض ما يعتبره معيارا على الآخرين مهما كانت صدقية آرائه أو صحتها. فلا يصح ولا يقبل العقل المتحضر أن يتمظهر الانسان بمظهرين مختلفين ومتناقضين؛ أحدهما للتسويق يعتمد المعايير الكونية، والآخر لتمرير الخطابات المنفعية سواء عن قصد أم بحسن نية. فهو حين يتحدث عن اللغة المعيار وعن سنوات الاشتغال التي أمضتها اللجنة المكلفة يتوجس أن تذهب ثمرة هذه السنوات سدى وما خاف في المقابل أن تضيع سنوات البراعم ومستقبل الأجيال الصاعدة بهذا التسرع غير المجدي. إن الشعب المغربي قاطبة يعتز بالأمازيغيةا بنص الدستور الذي اعتبرها "لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء". بيد أن هذا لم يمنع الأستاذ من القفز على المقدمات الصغرى للتشويش على من لا دراية كافية له عن الموضوع وجذوره، أو للإيحاء بأن مشكل التوافق قائم بين مكونات الشعب، وأن ما ينقصنا هو تمرير هذا البند من الدستور في البرلمان عبر تنزيله فقط. والثابت أن هذا الاجترار والتهور ما هو إلا خوف من وقوف بعض مكونات الشعب المغربي على خلفيات هذا الدفاع المستميت رغم عدم وجود من يقف ضد الأمازيغية في دستوريتها. وليعلم السيد عصيد أن الاختلاف قائم في أجرأة البند وكيفية تفعيله وليس في الأمازيغية كما توارثناها أبا عن جد. إن أمرا بمثل هذه الضخامة بإرثه التاريخي والحضاري في أبعاده الانسانية لا يجب أن يتدبر أمره شخص أو أشخاص بل يحتاج إلى قرار إجماعي أو توافقي لأنه يمس مكونات الشعب المغربي عامة، وسوف يستتبع ترتيبات في غاية الدقة لما ينتج عنه من إعادة ترتيب البيت المغربي، بالإضافة إلى إثقال كاهل الأطفال بمقررات مدرسية أخرى وحرف جديد هو تيفناغ، إلى جانب الحرفين العربي واللاتيني، وهو ما سينعكس سلبا على الناشئة ومردودية تحصيلها. ومما يحز في النفس إيراد مغالطات ممن يدعي أنه مع الحرية وفتح المجال في وجه الانسان وعدم تكبيله بالمعاييرالتي هي بمثابة تقييد الحرية أو ترسيم القيود. فكيف يعقل أن يسأل وزير التعليم العالي عن أسماءالمنجرة، وقلم الرصاص، والمقلمة، والمسطرة باللغة السوسية أو الريفية مذكرا إياه أنها لا توجد أصلا إلا في اللغة الأمازيغية المعيار؟ أليس في هذا ما يكفي من تناقضات ؟ ألا يعتبر ما هو موجود في أي لغة و تداوله في لغة أخرى أجدى من نحت كلمات جديدة تستجيب لمنطق التعيير المفترض أو "المفروض" ولكنها تستعصي على التواصل والانتشار؟ ففي القرآن والشعر الجاهلي كلمات من لغات قديمة فارسية وحبشية وعبرية وسوريانية ويونانية في أصلها كالاستبرق والسجنجل والإبزيم والطاغوت وعدن والفردوس وسجيل والماعون... كما أن لغتنا العربية استعارت من الفرنسية التلفاز والميكانيزم والتيمة والأيقونة والبنك... وفي المقابل أخذت الفرنسية والاسبانية والعبرية والتركية من العربية كلمات بالمئات ولا ضير في ذلك من كلا الجانبين. إذن كيف يمكننا فرض أسماء وكلمات جديدة على التلاميذ في لغة هي لغة الكلام و التواصل بين الأهل والقبيلة لا لغة المعرفة والعلوم؟ ففي الشمال المغربي غالبا ما مال اللسان الأمازيغي إلى قبول المستجدات كما هي إما بالفرنسية وإما بالإسبانية؛ لأن تلك المسميات ليست من صنعنا لذلك حافظ السكان عليها في مصدرها مع أقلمتها مع اللسان المحلي. وليس من السهل فرض كلمات جديدة محل ما هو موجود، بل قد يستحيل التفاهم بين قبيلة واحدة ممن يدرس وممن هو قابع في البيت. تلك إذن بعض المشاكل التي قد تصيب العملية منذ بدايتها بالشلل التام باعتبار الأمازيغية لغة التواصل اليومي وليست لغة التحصيل. وأطرح أسئلة لمحاولة إيصال بعض التخوفات المشروعة من مشروع توحيد الأمازيغية ووضع لغة معيارية تكون بمثابة اللغة المكتوبة، ويجبرأبناء المغاربة قاطبة على تعليمها أو تعلمها في المقررات المدرسية. كما قد توضع ميزانيات ضخمة لمواكبة محو الأمية فيها وفي حرف تيفناغ، ونحن ما زلنا لم نحقق محو الأمية في اللغة العربية أو في الحرف العربي بتعبير أدق رغم تينينا له منذ سنين عددا. 1): هل استشار اللغويون المغاربة المكلفون بوضع اللغة المعيارية الأمازيغ في الدول الأخرى غير المغرب كالجزائر وليبيا وتونس وموريتانيا ومالي والنيجر و بوركينافاصو ومصر؟ 2): هل أشرك هؤلاء المفوضون كل اللغويين والفاعلين الثقافيين الأمازيغيين في شتى أنحاء المغرب وباقي البلدان الأمازيغية؟ 3): ألا يعتبر الحديث عن "المكتسبات" نوعا من المساومة الفارغة ما دام أن هذه "المكتسبات" لم يصوت عليها البرلمان المغربي ولا استشير فيها الشعب المغربي؟ والمكتسبات للتذكير هي: الإلزامية، التعميم، التوحيد، حرف تيفيناغ. إن الإقدام على أمر كهذا وتمريره يستلزم الرجوع إلى القواعد الحزبية والمجتمع المدني وكل الفعاليات ويتطلب شرح مضامين التفعيل الرسمي للأمازيغية وطبيعة هذه اللغة المعيارية بإيجابياتها وسلبياتها. كل ذلك ينطلق على شكل محاضرات وندوات وأفلام ومسرحيات وإعلام ومهرجانات وغيرها. ونحن إذ نشارك الأستاذ نفس التوجهات الكبرى في الدفاع عن الفكر الحر، ونثمن دفاعه المستميت عن الأمازيغية، ولكننا نختلف معه حين يظن أن رأيه هو الفيصل، وأن من يخالفه في الدرك الأسفل ولا يعتد به، ولا بنظرته وطموحاته، فيغلق بذلك باب الاجتهاد على الآخر. فمن معاداة الاستئصال والإقصاء في كل حديث ومقام إلى ركوب نفس المركب من دون حرج أو نقد ذاتي. وأخوف ما نتوجس منه هو أن يستغل بعض ضعاف النفوس هذا الحق الدستوري لتحقيق مصالح ظرفية سواء شخصية أم فئوية أم قبلية على حساب القضايا الوطنية الكبرى. إن تبني اللغة الأمازيغية المعيار يقتضي استفتاء من الشعب المغربي، وإن صوت الشعب ضدها فذلك يعني التوجه نحو إيجاد بدائل والعمل على اتخاذ تدابير على المستوى الجغرافي بمقاربات جهوية. وأنا من المناوئين لإلزامية الأمازيغية المعيارية على الصعيد الوطني وأحبذ اللجوء إلى مقاربة تهدف إلى جعل اللغة الأمازيغية المعيارية لغة اختيارية في المسالك الجامعية الخاصة باللسانيات أو علم الإناسة. أما اللهجات الأصلية فتدرس جهويا في معاهد خاصة تعنى باللهجات الأمازيغية والعربية والحسانية.