الصورة من موقع nador24.com من يعود إلى تاريخ نشأة اللغات الحية في العالم، خاصة منها اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية يخرج بخلاصات أساسية أهمها: أن تشكل اللغات الحية لا يخضع للقسر، ولا يخضع لتدخل مباشر من قبل اللغويين في تحديد طبيعة المفاهيم والدوال ومدلولاتها التي يجب استعمالها والتي يجب تجنبها، وطبيعة القواعد التي يجب وضعها للغة لتشكل قوالب مسبقة يتم من خلالها قياس مدى صحة اللغة من عدمه، وعدم وجود "اللحن" فيها، فخلال فترة تقعيد اللغة العربية على وجه التمثيل لا الحصر، لم يتم وضع قواعد من خارج ما هو متداول في الشعر والقرآن، وكان مرد التقعيد إلى دخول أمم جديدة لا تتقن العربية فكان له أن سهل عملية تداولها، وجنبها السقوط في شباك تكاثف اللحن اللغوي. ولم تخضع اللغات الحية السابقة الذكر لعملية " معيرة" لاستخراج لغة موحدة من بطون اللهجات الموجودة والمتداولة، بل ترك العنان لتشكل اللغة بداية بالتدافع الذي كانت تعرفه اللهجات المتداولة، من خلال إنتاجاتها الأدبية والعلمية، وهو تدافع لهجي يمنح القوة للفظ على حساب آخر ولقاعدة على حساب أخرى، وعموما للهجة دون غيرها كما كانت لهجة قريش. وتفرض اللهجة التي تنشأ في وسط قوي ثقافيا وسياسيا واقتصاديا نفسها لتقود بقية اللهجات المتفرعة على نفس الأصل اللغوي، لتشكل نسقا لغويا موحدا وغنيا، لا تنفي ولا تقصي معها اللهجات الدائرة في محيطها، بقدر ما تعمل على إدماجها وتكييفها مع الأصل، وهي صيغة تشكل اللغة العربية التي فرضت فيها لهجة القبائل القوية نفسها على محيطها، باعتبارها قبائل قوية تجاريا وسياسيا وعسكريا، وهي نفسها صيغة تشكل اللغة الفرنسية التي احتفظت بلغة باريس، المدينة المعروفة حينها بإشعاعها الثقافي والسياسي والعسكري، لغة رسمية، فيما ظلت لهجات المحيط تابعة لها. وتقوي هذه اللغة حضورها بمرورها عبر مراحل زمنية متغيرة تكسبها حمولة تاريخية من خلال الإنتاجات العلمية والأدبية التي تراكمها، والتي تكسبها مادة قابلة للدراسة، تتشكل من خلالها اللغة الأم والأنساب الفرعية، ويحكم العلاقة بين اللغة والأنساب نوع من التفاعل يغني من خلاله الفرع الأصل والعكس، دون تضارب أو تدافع سلبي، ما يجعل تحديد تاريخ النشأة الفعلي أمرا مستعصيا بالنسبة لجميع اللغات الحية. غير أن من بين الأخطاء التي سقط فيها نحاة وفقهاء اللغة العربية، لجوءهم إلى عملية "جمع اللغة العربية" في القرنين الثاني والثالث للهجرة، تقديرا منهم أن عملية الجمع تحمي اللغة من اللحن وبالتالي تحمي القرآن من سوء التأويل، وهو ما أوقف تطور اللغة تدريجيا، لينتهي هذا التطور مع العصر العثماني، وتنتهي معه مرحلة تجدد القواميس اللغوية والبنيات اللغوية بما يواكب التطور العلمي. وبالنظر إلى هذه الخلاصات وغيرها، تطرح على طريقة "تشكل" اللغة الأمازيغية مجموعة من التحديات يستعصي معها الوصول إلى مرحلة لغة الكتابة والتخاطب والتواصل بين مختلف فروع اللغة المتمثلة في الألسن الأمازيغية، ليس فقط باعتبارها خالفت السنة اللغوية في النشأة والتطور الطبيعيين باللجوء إلى ما يسميه باحثو المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ب"المعيرة"، بل باعتبار هذه الأخيرة (أي المعيرة) أفضت إلى تشكل قاموس لغوي جديد بمثابة لهجة رابعة، مقتصرة على نخبة النخبة من باحثي المعهد وناشطي الحركة الأمازيغية، ما يعني أن اللغة التي تنشأ من خلال التفاعل في وسط اجتماعي لتدرسها النخبة وتستخرج منها القواعد المشتركة وتدرسها نحويا ولغويا لتكمل المرحلة النهائية من التشكل، جاءت هذه المرة من أعلى الهرم، عبر اجتهادات معزولة، لتقدم في طبق جاهز لقاعدة شعبية لا تعرفها، ولم تتهيأ بعد لاستقبالها. وبرهان دعاة "المعيرة" ضعيف، بالنظر إلى دعوته إلى اعتماد المشترك بين فروع الأمازيغية الثلاث، ومثل ذلك في أن ملفوظ "الرأس" في اللغة العربية وهو بالفروع الثلاث للأمازيغية "أكايو" و"أقرو" و"إخف"...، أخذت فيه المعيارية كلمة "إخف" للدلالة على "الرأس"، وهو صحيح ملفوظ مشترك، لكنه يشكل، بالإضافة إلى كلمات أخرى"، جزءا محدودا من القواسم اللفظية المشتركة بين اللهجات، فيما لجأ المعهد إلى قاموس متداول في منطقة محددة مما تطلق عليه الحركة الأمازيغية "تامزغا" بما في ذلك ليبيا والجزائر، وكذا التي تم تداولها في مراحل سابقة ، وكان الصواب أن يلجأ لغويو المعهد إلى عملية الجمع، بالرغم من كونه خطأ لجأ إليه نحاة اللغة العربية إلا أنه أخف الضررين، ويقوم على اللجوء إلى السمع وجمع ما تتداوله اللهجات الأمازيغية ليشكل الدال المشترك في اللغة قاطرة وتكون الدوال الأخرى بمثابة "المرادفات". ويضاف إلى ذلك اختلاف قواعد استعمال الأمازيغية بين فروعها الثلاث، والألسن المتفرعة عن اللهجات، بحسب المناطق، ما يعني أن مسار التدقيق في القواعد اللغوية طويل، ليس بالإستناد للقراءة التاريخية المحصورة في كتابات ما قبل العصر الإسلامي دون غيره، وليس بالاستناد إلى التحليل الوصفي للغة في مرحلة تاريخية محددة، بقدر ما تتطلب دراسة عمودية وأفقية: عمودية بالوقوف على التحليل والدراسة التاريخيين، وما عرفته اللهجات الأمازيغية من تحولات وتطورات في مختلف مراحل التاريخ، والتطور الذي عاشته في مرحلة كتابتها بالحرف العربي، مع ما يتطلبه ذلك من ضرورة الفصل بين مرحلة وأخرى. وأفقية بدراسة المتداول على مستوى اللهجات الأمازيغية في المرحلة الراهنة، وما عرفته من تغيرات لسانية، وما تعرفه من فروق على المستويين " الأصواتي والصواتي"، والإستعمالات النحوية والقواعد المشكلة بطريقة طبيعية. ويبدو، من خلال ما سبق، أن منهج وضع اللغة الأمازيغية، كان الأجدر أن يبدأ بمرحلة جمع الإنتاجات الأدبية والفكرية والعلمية التي كتبت بالحرف العربي، وتحقيق جميع المخطوطات بعد جمعها، بالإضافة إلى جمع الثقافة الشفوية، وجعلها المنطلق الرئيسي في الاستدلال على القواعد المستعملة في النحو والبلاغة ...، وهو ما سيمنح حينها القوة للهجة التي أنتجت زخما علميا وأدبيا وفكريا أكبر من غيرها، وسيحدد ما إن كان يصلح كتابة الأمازيغية بالحرف العربي من عدمه، وهو ما لم يتم باعتبار أن المخطوط الأمازيغي يوجد في ذيل اهتمامات المعهد، وكذا كون هذا الأخير سيعطي القوة لمنطقة سوس على حساب المناطق الأخرى. ومن ناحية أخرى كانت اللغة الأمازيغية ضحية أخطاء أخرى اختلط فيها العلمي بالسياسي والإيديولوجي، ما جعلها على شفا الضياع والاندثار، يمكن رصدها في: كتابة الأمازيغية بحرف تفيناغ، وخضوع الحرف للحسابات الإديولوجية والسياسية خدمة لمشاريع مختلفة، أدى إلى إضعافها وشكل حجر عثرة أمام تعميمها وتقوية حضورها في جميع المجالات. لقد شكل قرار كتابة اللغة الأمازيغية بحرف "تيفناغ" قطيعة فصلت حاضر الثقافة الأمازيغية في العصر الحديث عن التراث الأمازيغي المكتوب باللغة العربية، وجعل اللغة الجديدة لغة نخبوية، غريبة في الأوساط التعليمية. ويتمثل الخطأ الثاني في السرعة المفرطة التي تمت بها عملية إقرار إدخال اللغة الأمازيغية في سلك التعليم، دون أي استراتيجية واقعية، فدخلت التعليم كإجابة سياسية بالرغم مما تعانيه من فقر نظري للشقين البيداغوجي والديداكتيكي ، وفي ظل نقص حاد في الموارد البشرية المؤهلة، ما جعلها تواجه الفشل في أول خطواتها، ويعترف المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية غير ما مرة بوجود فشل في تعميم الأمازيغية على المدرسة الوطنية. ويتمثل الخطأ الثالث في إدخال اللغة الأمازيغية في صراع مصطنع مع اللغة العربية، ما جعل الجدل السياسي والإيديولوجي يؤدي إلى قرارات متسرعة وينتج عنه نوع من التشظي في البنية اللغوية لدى المجتمع، وترجع فيه النخبة الأمازيغية أسباب استعدائها للعربية إلى اجتياح هذه الأخيرة للمناطق الأمازيغية فيما تسميه ب"التعريب القسري"، بالاستناد إلى النموذج الجزائري، التي تحول فيها عدد الناطقين بالأمازيغية مما يناهز 50 بالمائة سنة 1830 إلى أقل من 18 بالمائة سنة 1966، و15 بالمائة سنة 1990 بحسب الأرقام التي تعلنها اليونسكو في تقريرها للسنة الحالية الذي أعطت فيه ما تسميه بمؤشرات تبين سير الأمازيغية في طريق الانقراض، غير أن ما تستند إليه النخبة الأمازيغية يثبت التاريخ الذي يقدمه تقرير اليونسكو عكسه، باعتبار أن الجزائر كانت مستعمرة فرنسية في تلك المرحلة والتحول اللغوي لم يكن لصالح العربية بقدر ما كان لصالح الفرنسية التي تنتصر لها النخبة الأمازيغية. وختاما، ولكل الاعتبارات السابقة، يمكن اعتبار سنة 2003 بداية زرع القرارات بشأن اللغة الأمازيغية، لكنها لن تكون نهاية النفق المظلم التي أدخلت إليه في ظل الصراع والجدل السياسي الذي دار ويدور حول المسألة الأمازيغية بصفة عامة، فالأكيد أن موسم الحصاد في اللغة الأمازيغية طويل، والأكيد أن الأمازيغية ستحصد ما زرعه أبناؤها بشكل أدى إلى عزلها وإضعافها في مجتمع غني معرفيا وثقافيا، في ظل القراءات الجديدة التي يقدمها جزء من النخبة الأمازيغية، تحاول تسييس الثقافي وأدلجة السياسي... وهي العناصر التي تضر بالصفة العلمية، وتضر بما يتطلبه قرار إعطاء الأمازيغية المكانة الحقيقية في المجتمع المغربي باعتبارها لغة تشكل جزءا من الهوية الوطنية للملكة. *صحافي وباحث في الشؤون الأمازيغية