راهن كل المتتبعين لأوضاع منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط على أن الاحتجاجات التونسية الشعبية التي قادها الشباب يوم 17 ديسمبر 2010 وانتهت بهروب الديكتاتور بن علي يوم 14 يناير 2011. ستشكل بداية جديدة لمرحلة تاريخية جديدة بكل المقاييس. لأنها شكلت نتيجة حتمية لتراكم حزمة من المشاكل على كل المستويات المشكلة لبنية المجتمع التونسي، والتي تماثل في مستوياتها البنيوية كل مجتمعات المنطقة، وكانت الشعارات التي نادت بها هذه الحركة الاحتجاجية مظهرا من مظاهر وعيها التاريخي المتطور ونضج وعيها السياسي، إذ نادت بإسقاط النظام وتحقيق الديمقراطية و الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية...، وهي نفسها الشعارات التي انتقلت بسرعة كبيرة إلى مصر وشكلت أساس ثورة 25 من يناير 2011. وعندما ارتفعت وثيرة الاحتجاج في مصر وأرغمت الفرعون المصري على التنحي، وأصبحت تطالب بإسقاط أركان النظام السابق وتطهير مؤسسات الدولة من فلوله ومخلفاته وتحقيق مطالب الثورة، أضحى الكل يراهن على أن مصر ستكون بوابة نحو نهضة مجتمعية حقيقية لوضعيتها الاستراتيجية المهمة في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط. هذه الرؤية المتفائلة للأوضاع كانت تحركها مجموعة من الأشياء أهمها نزعة سيكولوجية مدفونة في أعماق مجتمعات المنطقة تطمح للتحرر من قيود الاستبداد وأنظمة المراقبة والتعسف والتخلف الاجتماعي. وهي حتما لم تكن رؤية أساسها نظرة عميقة لحركة التاريخ، ومعرفة علمية بالقوانين السوسيولجية التي تحرك المجتمات وتتحكم في مسيرة التغيير الحقيقي. هناك إذا مجموعة من الحلقات المفقودة في رؤيتنا لما يحدث في هذه الرقعة الجغرافية، ونحتاج إلى إعادة بناء مواقفنا وتصوراتنا على رؤية موضوعية جديدة للأحداث والنتائج. مؤشرات لما يحدث أمامنا كثيرة هي المؤشرات السلبية التي لاحت في الأفق منذ بداية الاحتجاجات والتي رسمت صورة تراجعية دراماتيكية لمستقبل المنطقة، وأهمها في تصورنا هيمنة التيارات الاسلامية بكل ألوانها على المشهد وقيادتها للحراك الاحتجاجي بعدما أصبحت كل المؤشرات تصب في خانة الاطاحة برموز الأنظمة، وتحقق لها فعل السيطرة والهيمنة بحكم قوتها التنظيمية وصلابة مرجعيتها الايديولوجية التي تعتمد الانضباط والطاعة وإسلاس القياد للولي المرشد الذي هو شرط في السلوك الإسلامي." وما كان لولي أن يأمر إلا بحق". ووثوقيتها الاعتقادية المطلقة في تحقيق تصوراتها التي تخص شكل السلطة التي ستمارسها عندما تصل إلى سدة الحكم. لكن بالمقابل هي التيارات التي تفتقد لمشروع مجتمعي حقيقي لأن مرجعيتها الدينية لم تكن تملكه في يوم من الأيام. وهي التيارات التي يعاين أرشيفها السياسي من غياب كلي لتجربة سياسية وخبرة ممارساتية تخول لها قيادة الانتقال الايجابي من مرحلة عسيرة تتداخل فيها الأزمات وتتفاقم حدة الصراعات إلى مرحلة تحقيق الاستقرار عن طريق التفاعل مع مطالب الشعب والقوى التي تشاركها النضال الوطني. بات واضحا الآن أن التيارت الإسلامية التي تهيمن على مركز القرار ولنأخذ مصر على سبيل المثال تفتقد لرؤية سياسية حقيقية مبنية على معرفة استراتيجية عميقة تحفظ التوازانات وتشرك الجميع في عملية بناء دولة القانون والمدنية والمؤسسات الفاعلة والتعايش. وأقصى ما يمكن أن تقدمه هو إعادة إنتاج الديكتاتورية مرتدية لباس الدين كما وقع في التجربة الاسلامية التاريخية. ودليل هذا هو الاعلان الدستوري الذي خرج به مرسي 22/11/2012 ليعلنها بكل وضوح وبدون استحياء، وليعكس السطحية السياسية التي تتمتع بها جماعة الاخوان المسلمين في تدبيرها للمرحلة الحالية. فبعد أن ظهر سابقا أن مرسي ربما خالف قرارات المرشد في العديد من الخطوات، وتكلم المحللون على أن صراعا داخليا تعيشه الرئاسة مع مجلس الإرشاد ظهر اليوم بما لا يدع مجالا للشك أن الإخوان استردوا مرسي. وبالتالي بدأوا في تنفيذ خططتهم التي بنوها وقدروها على مساومة براغماتية مع الغرب وعلى رأسه أمريكا وآخر تجلياتها هو التوسط لوقف عمليات جناحهم العسكري في غزة. وبالتالي حققوا رغبة الكيان الصهيوني في تحقيق اتفاق أمني بعيد المدى، وباعوا وهم الانتصار للجماهير. وتفرغوا لتصفية الحسابات الداخلية وإقامة الجمهورية الديكتاتورية الإخوانية. ليكون الاعلان الدستوري هو بداية الطريقة وأولى الخطوات. تقول المادة الثانية من الاعلان: "الاعلانات الدستورية والقوانين والقرارت الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة في 30 يونيو 2012 وحتى نفاذ الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد ستكون نهائية ونافذة بذاتها غير قابلة للطعن عليها بأي طريق وأمام أي جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراته بوقف التنفيذ أو الإلغاء، وتنقضي جميع الدعاوى المتعلقة بها والمنظورة أمام أي جهة قضائية". هو إعلان لغته واضحة لا تتحمل سوى تأويل واحد هو الدلالة المباشرة للكلام. والذي يخالف كل القراءات القانونية الدستورية ويعارض كل المنظومات التي تحتفي بالدولة الديمقراطية القانونية المدنية المؤسساتية. والمسألة في تقديرنا واضحة للغاية فمن المستحيل أن يتبنى الإخوان الدولة الديمقراطية وإن قبلوا بهذا فهذا معناه التخلي عن تاريخهم والمرجعية المؤطرة لبنيتهم الفكرية، وهذا ما لا يمكن أن يحدث مطلقا. لأن الديمقراطية تعني حكم الشعب نفسه بنفسه عن طريق المجالس والهيئات التمثيلية، والإخوان لا يمكن أن يقبلوا إلا بحكم مجلس الارشاد الذي يمثل خليفة الله في الأرض. والديمقراطية هي آلية لمراقبة المسؤولين والحد من تسلطهم وتعسفهم، والإخوان يعتقدون أن الله هو الجهة الوحيدة التي تملك حق محاسبتهم ومراقبتهم. والديمقراطية هي وسيلة لتسيير التفاعل والتداول السياسي بطرق سلمية وتقبل بالتعدد والاختلاف. والإخوان لا يؤمنون إلا بعقيدة الفرقة الناجية التي تملك الحق وتملك أمرا إلهيا بتطبيقه وتفعيله في الناس على رغم أنوفهم وبقوة السيف، فهذا عين إحقاق الحق ومحاربة الباطل وتمكين لشرع الله في أرضه وخلقه. في النظام الديمقراطي تكون الحاكمية لسلطة القانون وليس للنوازع والأهواء الشخصية، وينعكس هذا في الدساتير التي يختارها الشعب ويلزم بها المسؤولين والحكام كما يلزم بها نفسه.(واجبات وحقوق)، ويكون الدستور مساحة منفتحة على كل الأطياف السياسية والمكونات الثقافية والاجتماعية والأقليات الدينية، ويكون آلية لضمان الحقوق للجميع مستبعدا كل الخلافات المذهبية والعرقية والطائفية... كما ويتم تأسيس مؤسسات موازية للمراقبة القانونية والمالية والادارية لضمان فصل السلط واستقلال القرار القضائي، واستبعاد سلطة المؤسسة العسكرية وجعلها عنصرا محايدا حارسا للديمقراطية والدولة الوطنية ومدافعا عنها. والإخوان يقولون بالحاكمية الإلهية التي تنعكس في اجتهادات المرشد وتقديراته التي لا تقبل النقاش. والدستور الإلهي الإخواني لا يمكن أن يقبل إلا أحكام الشريعة التي لا تعكس إلا الملة الواحدة، أما المخالف في العقيدة فدخيل على الوطن وعليه دفع ثمن الإقامة تلك هي الجزية. وما قيل عن الاخوان في مصر وتناقض مرجعيتهم الفكرية مع المنطق الديمقراطي ينسحب على كل تيارات الإسلام السياسي التي هي في الحقيقة فروع قُطرية للكيان الإخوني العالمي. وهكذا يتبدى لنا البعد المأساوي لما أصبحت تعيشه هذه المنطقة من انكاسة تراجعية معاكسة لحركة التاريخ المعاصر ستعود بنا لزمن الكهنوت وصكوك الغفران. ليس هذا موقفا مساندا ومدافعا عن الأنظمة السابقة، ولكن هو تساؤل موضوعي عن ماهية المشروعات والبدائل المطروحة في مرحلة ما بعد إسقاط النظام. *باحث في قضايا الخطاب الديني [email protected]