من بريق القصر الملكي إلى غياهب السجون، ومن زوجة أخطر رجل في المملكة المغربية إلى امرأة مهجورة وأطفالها في منفى داخل البلاد. قصة مأساة عاشتها عائلة الجنرال أوفقير، حارب إلى جانب القوات الفرنسية في أوروبا والفيتنام، ليلعب دورا مزدوجا بين فرنسا الدولة والمستعمرة والنظام الملكي المسيطر عليه، لتتركه فرنسا بعد رحيلها إرثا للسلطان محمد الخامس، ويصبح الرجل الثاني في مملكة الحسن الثاني، وعائلته من الحاشية المقربة جدا للعائلة الملكية، قبل أن يتورط الجنرال أوفقير في محاولة انقلاب سنة 1972 على الحسن الثاني باءت بالفشل، وأدت إلى مصرعه، الرواية الرسمية تقول إنه انتحر، ورواية عائلته تؤكد أنه قتل رميا بالرصاص. مات الجنرال وترك زوجته شابة في 36 من عمرها أرملة وخمسة أطفال لم يصبحوا فقط يتامى بل أصبحوا أبناء خائن وعدو للنظام الملكي. "" الطريق إلى الجحيم ملابسات سجنهم وأسبابها تفيد بأن إحدى بنات أوفقير والتي كانت لها مكانة خاصة عند الحسن الثاني أعادت صحن الكسكس عشية عزاء والدها إلى رسول الملك مرفقا بشتيمة، فما كان من المكل إلا أن استعر غضبه وأم بنفي العائلة إلى الفيافي، عن هذه الواقعة تقول أرملة أوفقير: " لم يكن يريد الانتقام منا،بل من اللقب، لقب أوفقير، لم يكن الملك يستهدفني ولم يكن يستهدف أولادي لكنه كان يستهدف اسم أوفقير "...وتواصل فاطمة أوفقير رواية فصول وضعهم في إقامة إجبارية لما يقارب ربع قرن قائلة: مر أربعة أشهر وعشرة أيام وهي فترة الحداد بعد أربعة أيام من انتهاء الحداد تم نقلنا إلى الجنوب أي ألف وثمانمائة كيلومتر جنوبالرباط، أمضينا أربع وعشرين ساعة في السيارة حتى نصل، وعندما وصلنا كانت صدمتنا كبيرة كنا قد تركنا منزلنا ذي التدفئة المركزية وكل هذه الأشياء لنجد أنفسنا في قلب الجنوب في كوخ صغير لم يسكنه أحد منذ عشرين سنة مليء بالدبابير، بالعقارب، بالسحالي، وكل أنواع الأفاعي، وصلنا في منتصف الليل فوجدنا طاولة من الفورمايكا عليها تسعة صحون وتسع علب سردين ورغيف خبز كبير كانت صدمتي هي إنني جررت معي إلى مأساتي ستة أطفال أكبرهم كان في الثامنة عشرة وأصغرهم كان في الثالثة، كانوا صغارا جدا، وتركزت المأساة بعد أن تم سجننا هنا في الأيام الثلاث أو الأربع التالية إلى أن تقبلت ذلك الوضع. بعد رغد العيش تحول الحصول على الطعام إلى حلم يراود عائلة أوفقير كانوا يجلبون كيلو طحين وعلبتي السردين وعلبة واحدة من المكرونة علبة واحدة في الأسبوع لتسعة أشخاص، ما ذكرته كانوا يحضرونه مرة واحدة في الأسبوع وأحيانا كانوا يحضرونه مرة كل عشرة أيام، عندما يكون قائد المعسكر مرتاح في بيته ولا يرغب في المجيء، ونحن في هذه الأثناء كنا نبقى من دون سكر ومن دون زيت ومن دون أي شيء آخر طوال ثلاثة أو أربعة أيام، لم يكن أي منا يستطيع الاستمرار على هذا الحال أي التضور جوعا طوال الوقت ثم أصبح لدينا ذلك الهاجس وهو أسوأ ما يمكن أن يصيب كرامة الإنسان، وهو أسوأ الأشياء على الإطلاق، أي عندما لا نفكر بشيء آخر غير الطعام تحولنا إلى حيوانات، حسناً الجميع يفكر بتناول الطعام فالأكل يجلب السعادة وهذه أحد أول المسرات على الأرض، لكن أن تحصر تفكير الإنسان بالطعام فهذا أسوأ الأمور، لم يعد يهمنا أي شيء آخر أي أننا كنا نحلم بالطعام طوال اليوم بالليل والنهار، فعندما ننام نحلم بالطعام وعندما نستيقظ نتكلم عن الطعام وكنا نجوع بكل بساطة من كثرة الحديث عن الطعام وهذه هي أسوأ الأمور، لذلك قررنا ألا نأكل طوال اليوم وأن نجمع في المساء القليل الذي كان لدينا، القليل الذي نحصل عليه في الصباح، وظهرا وفي المساء، ومن هذا القليل نحضر وجبة واحدة وعندما كنا نأكل كان ينتابنا ذلك الشعور بالرضا من امتلاء بطوننا لمدة ساعتين. كنا نجوع جوعا شديدا وعندها تبدأ الأحلام بالأشياء التي لم نكن نستطيع الحصول عليها، فخلال خمسة عشر سنة لم نحصل على سمك أو دجاج أو لحم جيد، كنا نحصل على كيلو لحم واحد في الأسبوع لتسعة أشخاص. كانت لحوم نتنه، أقصد عندما كانوا يجلبون اللحم كان عليك أن تسد أنفك ذلك، ينطبق على اللحم والبيض، كانوا يجلبون عشرين بيضة في الأسبوع وكانت بيوضا ذات لون أزرق غامق لشدة ما كانت متعفنة من الداخل، ولم يكن يحق لنا أن نحتج فإن فعلنا فإنهم لا يحضروا بيضا في الأسبوع التالي وكان الأطفال يتهافتون على هذا البيض النتن، وكنت أبكي من صميم قلبي وأنا أراهم يأكلون بيضا عفنا. بداية تمرد العائلة: من الإضراب على الطعام إلى محاولة الانتحار أعلنا إضرابا عن الطعام، أنا كنت البادئة بالإضراب عن الطعام، وبعدي بستة أيام بدء ابني رؤوف دام إضرابي عن الطعام ثلاثة وأربعين يوما وطوال هذه الأيام الثلاث والأربعين كنا نريد أن نهزمهم لم نكن نريد الانتحار، لأننا كنا نعرف إنه عندما نصل إلى أقصى أشكال العذاب عندها تصبح الأقوى، فلا تقدر الانتحار ولا على الموت ولا على أي شيء آخر، تتحمل كل ذلك بنوع من عدم الوعي لا يمكننا تسمية ذلك بالشجاعة، لكن يصبح المرء غير واع لتصرفاته فأنت لا تعيش مع ناس سعداء، لا تخالط ناس يأكلون على نحو جيد، لست مع أشخاص أحرار إذن فأنت هنا مع عائلتك مسجونين جميعكم مقيدين ومحرومين من كل شيء، ثم يصبح هذا نمط حياتك اليومي وفي هذه الحياة اليومية عليك النضال والبقاء وعليك إخراج العائلة من هذا الوضع، كنت أقول لنفسي أنا قد عشت حياتي ربما تكون حياة قصيرة لكنني عشتها ويجب أن يعيش الأطفال يوما جديدا وكنت مقتنعة أننا سنرى أياما أخرى وأننا سنعيش أياما أخرى، أعلنا إضرابنا عن الطعام في الأساس لأنه حاول وضع حد لحياته. في تلك الفترة كان قد مضى على إضرابي عن الطعام أسبوعا كامل،ا وكنت في عالم آخر فعندما لا تأكل يبدأ عقلك يعمل بطريقة مختلفة، كنت أنام جيدا ولم يعد هناك أي شيء يربطني بالحياة أو يربطني بالوجود، لم يعد هناك مطالب أقدمها، ذلك أنني أنا من قرر الإضراب عن الطعام ولم أعلن الإضراب عن الطعام كي أموت وإنما كي أدفع المسؤولين للتفكير أنني هنا مع أطفالي منذ خمسة عشر عاما وأنه قد حان الوقت للوصول إلى حل. التفكير في الهرب بدأنا التفكير بخطة في الهرب منذ اليوم الذي احتجزنا فيه في بير جديد وانتظرنا إلى أن نضجت الخطة، في البداية كانت الفكرة فكرة رؤوف، ثم أن زنزانتنا كانت قريبة من مكان وجود المسؤولين الذين يحرسوننا لذلك كنا نراقب بحذر وأنا بطبعي شديدة الملاحظة، لذلك كنت أهتم بالأبعاد وأشياء كهذه، كنت قادرة على إعطائهم الأبعاد الدقيقة حيث يجب أن يكون مخرج النفق، باختصار وضعنا الخطط قبل فترة طويلة وما أن علمنا أننا سنبقى محتجزين طوال حياتنا حتى بدأنا بحفر النفق، حاولنا بداية في الزنزانة الأولى لكن ذلك كان مستحيلا فالبناء كان يرتكز على أحجار كبيرة وعندما حاولنا إخراج الصخرة الأولى وجدناها صخرة هائلة لذلك ردمنا الحفرة وبدأنا محاولتنا في غرفة لا يدخلها الضوء أبدا وكان ذلك أفضل بكثير، كنا مضطرين لإتباع نظام غذائي من دون الزيت إذ أننا كنا نستخدم الزيت القليل الذي كنا نحصل عليه يوميا، لتبليل قطنه نستخدمها كمصباح للإنارة، طوال أربعة أشهر كنا قد أنهينا الإضراب عن الطعام يوم السادس والعشرين من كانون الأول وبدأنا حفر النفق في السابع والعشرين من كانون الثاني وبين السابع والعشرين من كانون الثاني والسابع عشر من نيسان كان نظامنا الغذائي يفتقر للزيت من دون دهون، إذا يمكنك أن تتخيل الحالة التي خرجنا فيها، بالطبع كان بعضنا يعاني من التخمة وبطونهم كبيرة، وبالطبع أصبح البعض الآخر نحيلا جلد على عظم، استمرينا في ذلك لثلاثة أشهر وخلالها لم نكن ننام لكن ليس بشكل متواصل إذ كنا نخضع للمراقبة ثلاثة أيام في الأسبوع أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، وما أن يخرجوا من التفتيش كنا نبدأ الحفر أحيانا بعد خروجهم مباشرة من الباب، كنا نبدأ الحفر وبإخراج الأكياس ونكمل النفق، في آخر يوم قمنا بحفر الطريق للأعلى إذ كان علينا بداية حفر ثلاثة أمتار وحوالي 75 سم للنزول، وخمسة أمتار لنعبر ثم ثلاثة أمتار وخمسة وسبعين سنتيمتر للصعود ولم نكن قد حفرنا طريق الخروج، يوم الجمعة رأيتهم يستعدون لوضع غرفة مراقبة فوق زنزانتي فأصابنا عندها الذعر، فقررنا أن ننتهي من العمل بسرعة إذ علينا الخروج خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة لذلك أسرعنا في حفر طريق الخروج فإن الحفر بهذه الوضعية يجعلك تتلقى الرمل في وجهك، الصغير فقط كان قادرا على المرور والحفر فقط كان يتمتع بمرونة من هم بسن الثامنة عشرة، كان يتلقى كل الرمل على وجهه لكنه لم يشتك أبدا وخلال يومين خرجنا من السجن. ونجحت الخطة.... خرجنا في الليل وكان أول ما شاهده هو قطة أصابه الذعر ورجع إلى الخلف، وقال لنا إن هناك شيئا مخيفا في الخارج فهو لم يكن قد رأى قطة في حياته فقد دخل الزنزانة وهو في الثالثة وفي الزنزانة لا ترى القطط كل يوم، وبما أننا لم نكن نأكل جيدا لم تكن القطط من بين جيراننا عاد فقلنا له إن هذه مجرد قطة ويمكنك الخروج وهكذا خرجوا هم الأربعة وبدؤوا الهرب، إنها قصة مملة حقا تماما كما في الروايات. لا يمكن للحياة أن تستمر طبيعية بعد هذه المأساة، نحن أناس مختلفون نندمج بالمجتمع ونضحك ونستمتع، لكن خلال النهار تمر بنا لحظات من الوحدة والكآبة والعصبية وحتى الذعر من الحياة فنحن عانينا أكثر من أي شخص آخر لكننا نشاطر البقية المصير ذاته، فهناك الموت والمرض وحصة من الأحداث التي يلاقيها جميع الناس، إذا فالعذاب لا ينأى بنا عن كل هذا" النتهى كلام فاطمة أوفقير أو "سجينة الحسن الثاني". نهاية رواية عائلة ذاقت النعيم والجحيم تمكن بعض أفراد العائلة بعد عشرين سنة من الإقامة الجبرية من الهرب، اتصلوا بالسفارة الفرنسية وبإذاعة فرنسية دولية، ليتم فك أسرهم جميعا ووضعهم في أقامة إجبارية لمدة خمس سنوات منعوا فيها من السفر إلى خارج البلاد، وتم تعويضهم عما لحق بهم من ضرر، وبعد أن منحوا حق السفر إلى الخارج فعلوا، ولجأوا إلى فرنسا، ألفوا كتبا يحكون فيها عما تحولوا إليه، وعادوا إلى الوطن بعد وفاة الحسن الثاني، منهم من تزوج وطلق، ومنهم من فضل البقاء عازبا شوقا للحرية، ومنهم ظل أسير الخوف والقلق والحذر من الناس، ومنهم من بقي يتذكر أيام القصر والنعيم، وأيام السجن والجحيم.