توجه الجنرال أوفقير إلى ثكنة مولاي إسماعيل حيث كنت أنتظره ظنا منه أن المرحلة الأولى قد نجحت بموت الملك وانه وجب علينا البدء في تنفيذ الهدف الثاني الذي كان مقررا أن أقوم أنا به، وهو احتلال القصر الملكي والقيادة ووزارة الداخلية والإذاعة. لكن، وعند اجتياز سيارة أوفقير لمدخل الثكنة كانت العديد من معطيات الانقلاب قد تغيرت، وعلمنا بها بعدما جاء من بدالة الهاتف أحد الجنود مهرولا نحو أوفقير ليقول له: "يا سيدي الجنرال، صاحب الجلالة على الخط يريد التحدث إليكم"، حينها جرى أوفقير نحو الهاتف وكان الحسن الثاني على الخط،(طبعا أوفقير الذي غادر المطار وهو يظن أن الملك مات في العملية الانقلابية لم يتوقع أن الحسن الثاني قد هبط بطائرته بسلام في الوقت الذي كان فيه أوفقير في طريقه لثكنة مولاي إسماعيل)، فحدثه أوفقير وهو مندهش ومصاب بصدمة قوية بعدما سمع صوت الحسن الثاني الذي كان يخبره بما جرى بكل تفصيل. بعد ذلك، علم أوفقير أن الشخصين الوحيدين الذين يعرفان تورطه في العملية الانقلابية هما أمقران وكويرة، وهما معا لا يمكن للملك القبض عليهما لأن أمقران هرب بطائرته إلى جبل طارق البريطاني الحكم، كما أن كويرة الذي حاول أن يصدم طائرته بطائرة الملك قبل سقوطها ظن أوفقير أنه مات أثناء محاولته هذه. ومن خلال هذه المعطيات ظن أوفقير وأنا أيضا خصوصا في الدقائق الأولى لمكالمة الملك التي كانت من مكان غير معروف، انه يمكن التظاهر بعدم التورط في المحاولة الانقلابية في انتظار تنظيم خطة جديدة لمجابهة الوضعية الجديدة. هذه الأشياء فكرنا فيها قبل أن نعلم أنه قبل مكالمة الملك لأوفقير كان الدرك الملكي قد اعتقل كويرة الذي قذف من طائرته قبل سقوطها، ولم يصب حينها إلا ببعض الجروح. وأثناء التحقيق معه اعترف للدرك الذي بدوره أخبر الملك أن أوفقير مشارك في العملية الانقلابية، لكن الحسن الثاني أثناء مكالمته مع أوفقير تظاهر أنه لا يعرف شيئا عن تورط الجنرال وتظاهر أيضا أنه صدق كل ما قاله أوفقير عن أنه سيعمل فورا على اعتقال كل المشاركين في العملية. وبما أن الخطة كلها مبنية أولا على وضع اليد على الملك، وهذا الأمر قد فشل، فقد كان علينا تدبير خطة طوارئ أخرى لإنقاذ الموقف، لهذا توجه أوفقير في حدود الساعة الخامسة من يوم 16 غشت 1972 نحو القيادة العليا. وبمجرد وصوله بدأ سرب من طائرات السلاح الجوي تقصف القصر الملكي الذي لا يبعد إلا بضعة أمتار عن القيادة العليا، وسمع أيضا أن سرب آخر من الطائرات هاجم مطار الرباطسلا. وكل هذه الهجمات لم يكن مخططا لها ولم يكن أوفقير يعلم لماذا حدثت لأنه لم يكن على اتصال بالضباط الربان الذين اخذوا مبادرتهم لمحاولة إنقاذ الموقف بعد فشل محاولة إرغام الطائرة الملكية بالنزول بقاعدة القنيطرة وفشل محاولة إسقاطها، فظن أوفقير في الحين أن هذه المحاولة هي انقلاب ثان، لذا لم يتوجه إلى قصر الصخيرات إلا بعد الساعة الحادية عشر ليلا من نفس اليوم. ليلة تصفية الجنرال أوفقير على الساعة السابعة صباحا من يوم 17 غشت توجهت بسيارتي إلى بيت الجنرال أوفقير بالسويسي بعد أن سمعت في الثانية ليلا من الإذاعة الفرنسية أنه "انتحر" أمام الملك! وسألت حراس باب فيلا أوفقير: هل الجنرال في البيت؟ فأجاب الجندي أي جنرال؟ فقلت له باندهاش: الجنرال أوفقير طبعا؟ فأجاب: لقد أتت بجثمانه سيارة إسعاف يقودها الممرض البوليسي حسوني على الساعة الثالثة ليلا. وحينما فتحو لي الباب ودخلت إلى حديقة بيت الجنرال، رأيت شقيق الجنرال (مولاي هاشم) واقفا وهو يبكي، كما جاء نحوي الحارسين الخاصين اللذان رافقا أوفقير إلى الصخيرات ليلا. ثم رافقني مولاي هاشم والحارسين إلى السرير الذي كان يرقد فيه جثمان الجنرال. وعندما رفعت الغطاء الذي كان يغطي أوفقير، رأيت رأسه وصدره ملطخا بالدماء واحدى عينية خارجة من مكانها لإصابة الرأس بالرصاص من الخلف، وفهمت فورا أن الأمر لا يتعلق بانتحار، بل بعملية قتل! وسألت الحارسين: ماذا حدث؟ قالا لي: أنهما توجها رفقة أوفقير إلى قصر الصخيرات على الساعة الحادية عشر والنصف ليلا، وفي بابا القصر انتظروا قليلا قبل قدوم الجنرال الصفريوي قائد الحرس الملكي ليقول للجنرال أوفقير على غير العادة: "ادخل لوحدك مشيا على الأقدام واترك سيارتك والحارسين أمام الباب ينتظرانك". وبعد وقت قصير سمع الحارسين طلقات نارية من مدفع رشاش من داخل القصر، وبعد نصف ساعة، خرج شقيق الملك مولاي عبد الله ليقول للحارسين: " اذهبا إلى بيت الجنرال وسيلتحق بكما فيما بعد". وبعد ساعة تقريبا من وصولهما بيت الجنرال، جاء الممرض المعروف والمتخصص في التعذيب البوليسي واسمه حسوني، بجثة الجنرال محمولة في سيارة إسعاف تابعة للشرطة. عندما زارني أحمد الدليمي في السويد لأول مرة، أخبرني أنه كان حاضرا في قصر الصخيرات عند إعدام الجنرال أوفقير. وحكى لي أن الحسن الثاني هيأ فخا حقيقيا لاغتيال أوفقير حينما تظاهر بتصديق روايته بعدم ضلوعه في العملية ودعوته للقصر لدراسة كل الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لكشف وعقاب كل المشاركين في محاولة الانقلاب... مصير أرشيف الجنرال أوفقير كان أوفقير يودع أرشيفه الخاص في خزانة حديدية في غرفة نومه في السويسي، وكان من بين المخطوطات الخطيرة والمهمة، مخطوطات البيان الأول للثورة الذي كان سيذاع في الإذاعة بعد نجاح الانقلاب والذي كان مكتوبا بخط يدي، وكذلك التسجيلات الصوتية (كاسيط) مسجلة بصوتي والتي كانت هي الأخرى ستبث على أمواج الإذاعة بعد إتمام عملية قلب النظام الحاكم. وفي تلك الخزنة أيضا كان يودع نسخ بعض الكتب "السرية" التي كنت شخصيا أقرؤها عليه في إطار التحضير الأيديولوجي للانقلاب ككتاب "فلسفة الثورة" والميثاق الوطني" لجمال عبد الناصر، وكتاب معالم في الطريق لسيد قطب، وكتاب "في سبيل البعث" لميشيل عفلق.. كما كان يودع فيها أيضا نسخ التقارير التي كتبت له عن الجيش والوضع السياسي والرأي العام السائد فيه؟ وللحقيقة لا أكثر، لست ادري هل وقعت كل تلك الوثائق في يد المخزن بعد موته، أم أنه أتلفها قبل ذهابه إلى قصر الصخيرات حيث لقي حتفه. وعندما التقيت رؤوف ابن الجنرال في باريس بفرنسا، قال لي أن عائلته وجدت آثارا لحرق بعض الوثائق في حمام بيته قام به والده قبل ذهابه للقاء الملك في الصخيرات. والجدير بالذكر هنا، أن عائلة أوفقير بكاملها كانت غائبة عن الرباط في الأسابيع الثلاث التي سبقت محاولة الانقلاب، وبالتالي لم يكن يتواجد في البيت سوى أوفقير وحارسيه وأنا عندما لا أكون متواجدا في ثكنة مولاي إسماعيل التي كنت أسكن فيها. وفي اعتقادي، لا ينبغي جر أسرة أوفقير في قضية الانقلاب ونتائجها كما فعل الحسن الثاني نفسه حينما سجن الطفل الصغير عبد اللطيف الذي لم يكن يتجاوز عمره ثلاث سنوات، حيث قضى كل طفولته وشبابه في سجن رهيب بكل براءة الطفولة، وكل "جريمته" ما فعل أبوه! انتهى [email protected] mailto:[email protected]