كل الناس تريد أن تفوز وتحقق نجاحات في الحياة ، إنما هذا النجاح الذي يحققه البعض ويخفق البعض في تحقيقه رهين بمدى إيمان الفرد بهذا النجاح، ولو تعلق الأمر بنجاح خارج الأخلاق والقانون. فالسارق وهو يسرق يؤمن بأنه سينجح وإلا ما سرق .وصياد الأسماك يؤمن بأنه سيصطاد سمكا وإلا ما عرّض نفسه لعناء انتظار بَلْع السمكة لصنارته. والفارس وهو يعرض نفسه لمبارزة عدوه يؤمن بالانتصار وإلا ما عرّض نفسه للقتل . فكل مشروع يسعى الإنسان لتحقيقه ينبني على إيمان محفز ينطلق من معطيات متوفرة في الواقع تجعل نسبة النجاح مقبولة . فالدولة عندما تفتح باب التوظيف – لا محالة- أنها تؤمن بأن هؤلاء الموظفين سيعملون بجد وتفان والتزام لخدمة الصالح العام ، ولتحقيق أهدافهم في الحياة . والناخب عندما يتوجه لصناديق الاقتراع يؤمن بأن ذلك المنتخب سيمثله أحسن تمثيل ، وإلا حل الشك والريبة مكان الإيمان واليقين ، وانعدمت الثقة بين الناس ، وانقطعت العلاقات بين الإفراد والجماعات كمحرك يساهم في دورة التنمية. معضلة المجتمعات المتخلفة عن الركب الحضاري أنها لا تؤمن بقدراتها ، ولا تعمل على تجاوز مرحلة الكفر بالطاقات التي تختزنها بسلاسة ، وكأنها ترى في هذه المرحلة توازنها واستقرارها ، فهي تخاف من كل تجديد ومن كل تغيير . فالتغيير بالنسبة إليها يعني الثورة على الواقع الذي عليه أن يستمر ويصمد أمام أي زلزال.فقد يقلب الطبقات رأسا على عقب وهذا بالضبط ما تتخوف منه المجتمعات اللاديمقراطية والتي لا تسود فيها المساواة. لكن، من الممكن جدا ألا تنتظر تلك المجتمعات ثورة التطهير لاستعادة المياه إلى مجاريها الطبيعية كي تستفيد – تلك المجتمعات- من ثورة الحياة التي تنبض داخل كل فرد في المجتمع . فالمجتمعات المتحضرة- اليوم -تستفيد من هذه الطاقة النظيفة (الإرادة الطوعية)التي تحرك الأفراد والجماعات لبناء المجتمع واليد في اليد . في حين وجّهت – تلك المجتمعات المتحضرة- المجتمعات الأخرى نحو الثورات الدموية ونحو الصدامات والاختلافات وعملت على تزكيتها بالمال والدعم السياسي . فالربيع العربي تثمّنه تلك المجتمعات الغربية ولكنها تحاصره كي لا تتحول الثورة الربيعية إلى ثورة نور واستدراك وعمل جماعي ينزع بساط التفوق من تحت أرجل المجتمعات الرائدة في العلوم والتقنيات والمسيطرة على منابع الثروات. قبل الاستقلال كان المُسْتَعمَرون يناضلون من أجل تحرير بلدانهم فرفضوا العمل جنبا إلى جنب مع المستعمِر، كي يكونوا هم الأسياد. ولقد لُقّبَ كل رافض للاستعمار ومطالب بالاستقلال وقتها «بالوطني» الذي وهب حياته وماله للوطن وهو مستعد للموت فداء لهذا الوطن ، لأنه يؤمن بأن لا أحدا يستطيع تقديم خدمات جليلة للوطن غيره ، ولأنه يؤمن بأن بناء الأوطان يكون بسواعد أبنائه ، ولأنه يؤمن بأن ثروات الوطن هي حق لابن الوطن قبل غيره .فما الذي تغير ؟ فلماذا لم نعد نسمع عن وطنيين رجعوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر(التنمية)؟ نعم، نسمع عن وطنيين قلائل تقلدوا مناصب سياسية وعن آخرين استفادوا من الريع فخمدت نار الوطنية بداخلهم ، وإن كانوا يحاولون عبثا الظهور بالمغرمين بالوطن عبر خطاباتهم الرنانة في المناسبات .و لا شك أن منهم كاذبون ولمّا يدخل الإيمان بالوطن في قلوبهم. وهو المعنى الذي نلمسه في قوله تعالى :" قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ " . فالوطنيون تورطوا في الملذات لكنهم لم يستسلموا ولم يخضعوا ولم يسلموا أنفسهم للوطن. لقد خضعوا واتبعوا طريقا غير الطريق الذي كانوا يُضحّون من أجله وغرتهم الحياة الدنيا ففتنوا. ولو أنهم كانوا مؤمنين حقا بوطنيتهم ما تركوا سبيلا من السبل إلا سلكوه من أجل عزة الوطن، والحفاظ على ثرواته - ما تحت الأرض وما فوق الأرض- من الضياع والتبذير.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ولا شك بأن محاربة الفساد والدفاع عن الوطن بدرء المفسدات يدخل ضمن مساحة الإيمان. لقد أصبح الإنسان «الوطني» تمثالا رمزيا يؤثث بعض الملتقيات والصحف والملصقات ، بعدما كان يؤرخ لفترة من عمر الوطن تميزت بالتضحيات ونكران الذات .لقد بلعت ذلك الوطني دائرة المواطنة ، وذاب تحت تأثير المتطلبات الجيو-سياسية ، وإكراهات الواقع . فأصبحت المبادرة تأتي من مواطنين عوض الوطنيين الذين كان عليهم عدم التفريط في الأمانة التي تتوارثها الأجيال ممن استشهد في سبيل بقاء الوطن شامخا. هناك مبادرات ومبادرات أخرى تأتي من اليمين وتأتي من اليسار لكنها – باردة- تهتم باللحظة وبالمصلحة، ولا تعطي في الغالب لتاريخ المغرب العريق قيمة مضافة وعز . تلك القيمة التي تتحرك داخل الإنسان المغربي الوطني البناء الذي لا يرى في وطنه مقاطعة من مقاطعات العالم المتحضر. وبما أن الإيمان الديني عند أهل السنة والجماعة قابل للزيادة والنقصان، فإن الإيمان بالوطن هو كذلك قابل للزيادة والنقصان. فهو يزداد بالإيثار والتعاون والتضامن وينقص بالأنانية والطمع والفساد . وإذا كان سبحانه وتعالى قسم المؤمنين بالله إلى ثلاثة طبقات . فإن المؤمنين بالوطن هم كذلك يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة طبقات: أ- فمنهم ظالم لنفسه ، وهم الذين تجرءوا على بعض المحرمات من رشوة وزبونية وغش وتماطل وتدليس وتزوير واستحواذ على حق الغير والمال العام . ب- ومنهم مقتصد ، وهم الذين قاموا بواجباتهم وتجنبوا السقوط في الفساد. ت- ومنهم سابق بالخيرات ، وهم الذين أدوا الواجبات وساهموا بأعمال نفعية ونافعة للمجتمع عبر الجمعيات الصادقة والأمينة والوطنية وعبر الشركات التي تسعى لبناء الوطن والمواطن في نفس الوقت، وتجنبوا السقوط في المحرمات والمكروهات من استغلال للنفوذ ، واستعمال للمال لشراء الضمائر المريضة لبلوغ الأهداف والترقي السياسي. وإذا كان الإسلام أكثر تسامحا مع الإنسان ، لما أعطاه فرصة الاختيار بأن يؤمن أو يكفر كما قال تعالى : " قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " فإن الوطن لم يخرج علة هذه القاعدة . فإن آمن الموطن بوطنه- وارتقى إلى درجة الوطني الحق- فلا شك أنه سيكون في مقدمة المدافعين عنه في السلم وفي الحرب . ففي الحرب يفديه بالدم والروح، وفي السلم بمحاربة الفاسدين والمخربين للثروات المالية والفكرية والدينية ؛ وهو ما يحث عليه الفصل 38 من الدستور« يساهم كل المواطنات والمواطنين في الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية اتجاه أي عدوان أو تهديد » ومعلوم أن العدوان قد يأتي من الخارج بينما التهديد قد يأتي من الداخل أيضا من طرف مواطنين قد تُعمى أبصارهم في أي لحظة من اللحظات بسبب ممارسات متهورة أو مقصودة من طرف مواطنين آخرين غير راشدين في وطنيتهم . أما من كفر بوطنه فبدون شك سيأتي يوم عليه لن ينفعه الندم ، وسيبكي قلبه قبل عينيه على ما فعل في حق وطنه وفي حق مواطنيه من سوء. وإن كان عدم الرشد والتبصر يدفع أحيانا فئات مسؤولة إلى ارتكاب أخطاء في حق وطنهم بقصد أو بغير قصد. آخر مثال يمكن طرحه، رفض الإمضاء على اقتطاعات من أجرة بعض نواب الأمة الذين يتغيبون ولا يحضرون جلسات البرلمان. هذا الرفض مِنْ مسؤول يعطي حق التغيب لموظفي الدولة ضمنيا على أساس المعاملة بالمثل . في مثل هذه الحالة وغيرها من الحالات كالتزوير في التصريح بالممتلكات، أو السطو على المال العام، أو الانشغال على تدبير الشأن العام بممارسة أعمال ثانوية تفضي إلى ضعف الإيمان بالوطن لا شك ؛ وتجعل المواطن يحس وكأنه يشتغل في وطن غير وطنه ، فتصبح القاعدة عنده ، الحصول على أكبر قدر من المصالح ولو على حساب الغير وعلى حساب استقرار وطنه . ماذا نقول عن مهربي العملة الصعبة؟ وماذا نقول عن من يسممون مواطنيهم بالمهلوسات والحشيش والهيروين والكوكايين وبسموم الأفكار المستورة ؟ ماذا نقول عن من يسعى يوميا لاكتساح باطن المواطن لشحنه بخرافة الحرية بلا حدود على حساب التوازن الفكري والعاطفي الذي ورثه (المواطن) أبا عن جد ؟ إن الإيمان بالوطن، أرضا وشعبا وثقافة وثروات وما يصاحبها من تعاون وتعارف واستقامة وتضحية والتزام ووفاء وطاعة واستسلام وتسليم يقف على أسس الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" . فلا يمكن تصور وطن يتقدم يوميا نحو الحداثة ويتطور دون السقوط في الإفلاس الأخلاقي إن لم يكن فيه حب بين الطبقات الاجتماعية وتعاون دائم بين المواطن وأخيه المواطن . فحب الوطن يدفع المواطن دفعا كي يتحول إلى وطني يقبل التنازل من أجل شموخ وطنه.فحب الأوطان من الإيمان كما قال الزعيم علال الفاسي .وإذا كان على المواطن ممارسة عبادة وثنية ما ، تكون تلك الوثنية وطنه الذي يغار عليه ويدافع عنه لأن فيه دينه وأهله ووسيلة عيشه . فمن الصعب الحديث عن تنمية حقيقية خارج دائرة الإيمان بالوطن . فالإيمان الصادق يغذي حب الوطن ويجعل المواطن يعمل بتفان وكد وجد أينما كان . فحب الوطن يجعل عضو الحزب يرفض هفوات حزبه إن كانت تضر بالوطن، ويجعل الوزير يستقيل من منصبه حينما يرى بأن عمله لا يعطي أي قيمة مضافة لوطنه، ويجعل من تسيطر عليه رغبة نهب المال العام يتراجع عن فعله الممقوت ، ويجعل من ينتسب لهيئات دولية يدافع عن ثوابت وطنه عوض مجاراتها والتقيد بتوصياتها ، ويجعل من يتاجر بالسموم يكف عن قتل أبناء وطنه ، ويجعل كل من هو في خدمة المواطن رهن إشارة الوطن والمواطنين بلا استكبار ولا ترفع أو استهتار. هنا لا يتعلق الأمر بمسألة وعظ ولا إرشاد وإنما بإشارة إلى وجود خلل ما ، حَوّل الوطن إلى سوق مفتوحة يُتاجَر فيها بأي شيء . ويحتاج الموقف إلى إعادة قراءة المشهد، ثم إلى إعادة بناء الإيمان بالوطن بدءا من الطفولة . من غير المعقول أن تكون الصين التي يبلغ تعداد سكانها أكثر من مليار نسمة ، شهد اقتصادها نموا سريعا منذ قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949. وخاصة منذ بدء تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على الخارج عام 1978، بينما في الوطن رغم الإمكانات الكبيرة والموارد الطبيعية واليد العاملة والعقول النيرة بقي الاقتصاد المغربي يعاني من تقلبات متواترة . ففي الوطن ملايين معدودة من السكان لكنها لا تشكل القوة الضاربة لجعل كل مواطن يعمل بتفان كالصيني في وطنه وعبر أرجاء العالم. فالصينيون نجحوا لأن أيمانهم بوطنهم وبذاتهم كان الأقوى . فهم لم يشغلوا عقولهم بالشطحات ولا بالاختلافات أو الخلافات الجانبية . نطقوا بالوطن الصين باللسان والقلب والجوارح فكان لهم ما أرادوا...ذلك هو الإيمان العميق.