شعب بريس - متابعة في سابقة من نوعها عبر تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب،والذي جاوز أربعة عقود بالتمام والكمال (42سنة على تأسيس أو تعبير سياسي إسلامي بالمغرب بقيادة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي ، عكس المشرق الذي تأسست فيه جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 بمصر على يد الشيخ حسن البنا) قدم الشيخ عبد الكريم مطيع، مرشد الشبيبة الإسلامية، هدية إلى مرشد جماعة العدل والإحسان، عبارة عن تفسير لسورة النساء.
وقال الشيخ عبد الكريم مطيع في تقديمه لتفسير لجزء من سورة النساء التي أهداها إلى الشيخ عبد السلام ياسين "رأيت أن أهدي هذه الحلقة من تفسيري لسورة النساء إلى كل من وقع في عرضي وعرض أخي الشيخ عبد السلام ياسين أمد الله في عمره، وفي عرض حركتينا الرائدتين، من بعض المنتسبين للدعوة، أو غيرهم. أذكرهم بقول الله تعالى :﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ راجيا لهم حسن الهداية".
وأكد الشيخ مطيع أن هذا الإهداء يجب أن يقرأ قراءة إيمانية حسب تعبيره، "لا قراءة سياسية أو بوليسية أو حزبية". وإذا كان الإيمان والسياسة لا يفترقان لدى جمهور واسع من الإسلاميين، ولاسيما عند الشيخين المرشدين، مطيع وياسين، من خلال أدبيات التنظيمين الإسلاميين، فإن هناك خيطا رفيعا من السياسة يبقى منقوعا في حوض الإيمان، ما يقذف بالمتابع والمواكب أمام جملة من الأسئلة من قبيل: لماذا خص الشيخ مطيع وحده بهذا الإهداء واستثنى الآخرين؟ من هم المحسوبون على الدعوة الذين وقعوا في عرض المرشدين وفي عرض حركتيهما الرائدتين بتعبير الشيخ مطيع؟ هل تعتبر هذه الهدية تقارب سياسي ما بين جماعة العدل والإحسان والشبيبة الإسلامية بعد التعزية في الراحل عبد الوهاب زيدون، ولاسيما إذا تذكرنا أن عبد الكريم مطيع كان قد حض على المشاركة السياسية في انتخابات 25 نونبر 2011؟ هل يعني هذا التقارب، إن حصل فعلا، أن مطيع يريد أن يصعد من لهجته ضد النظام السياسي أسوة بجماعة العدل والإحسان بعد اعتقال حسن بكير في مدريد حينما جاء للحوار مع رسول النظام السياسي المغربي قصد ترتيب عودة الإسلاميين المحسوبين على الشبيبة للمغرب؟
هذه عينة من أسئلة، وغيرها قد يطرحها المتابعون لمسيرة الحركة الإسلامية بالمغرب، واستفسارات وتحاليل خاصة لهذا الإهداء سنتابعه مع باحثين متخصصين في الحركة الإسلامية بالمغرب، ومحللين سياسيين. مع الإيثار نشر الإهداء كاملا حتى يتسنى للقارئ الاطلاع عليه كما وردنا قبيل قليل.
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ البقرة 83
إهداء من فضيلة المرشد العام للحركة الإسلامية المغربية الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي بمناسبة الذكرى الثانية والأربعين لتأسيس الحركة الإسلامية المغربية المباركة رأيت أن أهدي هذه الحلقة من تفسيري لسورة النساء إلى كل من وقع في عرضي وعرض أخي الشيخ عبد السلام ياسين أمد الله في عمره، وفي عرض حركتينا الرائدتين، من بعض المنتسبين للدعوة، أو غيرهم. أذكرهم بقول الله تعالى :﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ راجيا لهم حسن الهداية وأن يقرؤوا إهدائي هذا لهم قراءة إيمانية، لا قراءة سياسية أو بوليسية أو حزبية أو.... إلخ، وأن يعلموا أن ما يفعلونه لن يغير أقدار الناس أو مقاديرهم، أو ما كتبه الله لهم مما سبق في علمه عز وجل.
الخير قول وفعل ومنه واجب ومنه مستحب، والسوء قول وفعل وكله محرم أو مكروه، والكلمة الطيبة خير كلها، منذ قال ابن آدم لأخيه:﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ﴾ المائدة 28، وقد ضرب الحق سبحانه مثلا لها:﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ إبراهيم 24، والكلمة السيئة شر كلها مهما تعالت سقطت ومهما انتفشت خزيت ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ إبراهيم 26، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها له درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم). ولئن ظن الغافلون في لحظات غفلتهم أو الحانقون في لحظات غيظهم أن الجهر بكلمة السوء مجرد نفثة صدر تذهبها الرياح، فإن وزرها مثبت لدى الشاهدَين المتلقِّيَيْن عن اليمين وعن الشمال﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ق 18. قال صلى الله عليه وسلم:( البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان).
إن كلمة السوء شر كلها سواء كانت حقا أو باطلا، إن كانت حقا في غياب من قيلت فيه فهي الغيبة، وإن كانت باطلا فهي البهتان، وإن كانت حقا أو باطلا في حضوره وبين الملأ لغير نصيحة فهي شتيمة وصفاقة ووقاحة وعدوان، لذلك حرص الوحي الكريم على أن تشيع الكلمة الطيبة في أهل الإيمان، تملأ قلوبهم بالمحبة ومجتمعهم بالسلم، وتزيد صفهم تماسكا وقوة ورشدا، قال تعالى:﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ الإسراء 53.
قد يكون من بهتْتَه أو اغتبته أو جاهرته بالقول السيئ مرتكبا أو غير مرتكب لما رميته به، فينتصر لنفسه حقا أو باطلا، فتكون فتنة أثرتها ونارا أوقدتها، وقد يكون عاجزا عن الرد فيكلك إلى ربك، ويا شقاء من وُكِّل القادر المقتدر بالانتقام منه . لذلك تعقيبا منه تعالى على ما ذكره في الآيات السابقة حماية للمنافقين { الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} من قالة السوء، وتمهيدا للتنديد في الآيات اللاحقة بما يرتكبه أهل الكتاب من أقوال سوء في حق الأنبياء والمرسلين، وتحريضا على القول الحسن والكلمة الطيبة تقربا إلى الله وإحسانا إلى الخلق جميعا قال جل شأنه:
﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ تبدأ آيات هذه الحلقة بوضع قاعدة أخلاقية صلبة لتربية من خرج من الجاهلية إلى الإسلام في العهد النبوي، أو من خرج من الكفر إلى الإيمان في كل عصر، أو من العصيان والانحراف إلى التوبة والطاعة والرشد في مجتمع المسلمين، وبقي محتفظا ببعض رواسب عنفوانيته وعنفه أو تلقائيته وسرعة استجابته للاستفزازات القولية والفعلية، من أجل تأهيله لمنهج الإسلام السوي، وهدايته لسبل تنزيل عقيدته إلى واقع الحياة البشرية في الأرض، وإقامة أمر الله دعوة إلى دينه وتحريرا لعباده، بما يتطلبه هذا العمل من اليقظة وأخذ النفس والطبع بالحزم، وبما يناسبه بذلا وجهادا وتضحية، وما يمهد له السبيل خلقا رفيعا وصبرا ومصابرة وإيثارا وسماحة، في إطار محكم من التصور الإيماني الرشيد الذي يجعل السلوك السوي وسطا بين جلافة القوة والاستعلاء ومذلة الضعف والاستحذاء.
وحيث إن الفتن والعداوة أولها التراشق بالكلام في معظم حالات التباغض والشنآن بين الأفراد والأسر والشعوب، وقديما قيل لعنترة الفوارس وقد خاض ذلك وجربه: صف لنا الحرب، فقال: أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى. وهو ما تكتوي به أمتنا في عصرنا هذا وتسيل به الدماء وتهدر الأموال والأعراض، فإن الحق سبحانه قد وضع إصبعنا في هذه الآية الكريمة على جذور الفتنة ومكمن الداء في أكثر حالات الخصومة والخلاف بين الناس، وهو الجهر بالقول السيئ، سواء كان تعبيرا عن معنى سيئ، أو مجرد تعبير سيئ عن معنى سليم، واشترط أن يكون إطار خطابنا وحديثنا للناس جميعا طيبا لينا لا يفسد الود ولا يجرح النفوس ولو كان نصيحة أو عتابا أو استقضاء لحق أو رفضا له وإنكارا، فقال عز وجل:﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾، ومحبة الله للشيء أو عدم محبتِه له مجرد كناية عن رضاه به وبذله ثوابه، أو غضبه عليه وتقريره عقابه، ويقتضي هذا أن يحب عباده المؤمنون ما يرضاه تعالى، ويبغضوا ما لا يرضاه، وهو تمام الولاء له عز وجل، والآية بذلك امتداد لما قبلها من صفات أولياء الله وصفات أولياء غيره من الكفار والمنافقين، ونهْيٌ عن شتم التائبين من المنافقين والكفار بما سبق من نفاقهم أو كفرهم، وتحريمٌ للإساءة بالقول يُعْلَم منه أنّ الإساءة بالفعل أشدّ تحريماً، وأن للمجاهرة به آثاما مضاعفة لأنها تثير العداوة والبغضاء، وتزرع الأحقاد في المجتمع، وتوقع السامعين في الإثم إن لم ينكروا، لأن سماع السوء كعمل السوء، وتسيء إلى ضعاف التربية فتجرئهم على تقليد المسيء بالفجور في الخصومة.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبتسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال:"يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددتُ عليه بعض قوله غضبتَ وقمتَ؟" قال: (إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان)، ثم قال: (يا أبا بكر ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظُلم بمظلمة فيفضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده بها كثرة، وما فتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة).
إن إبليس - عليه لعنة الله – يجد الفرصة مناسبة كلما اختلف المسلمون مع بعضهم وأساؤوا القول لبعضهم، فينتهزها للنزغ بينهم وإغاظتهم وتمزيق صفهم، وضرب قلوبهم ببعضها، ولذلك قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ الإسراء 53.
ولئن أفرد الحق سبحانه للتحذير من سوء القول عددا من الآيات الكريمة، ووردت فيه عشرات الأحاديث الصحيحة فما ذلك إلا لبذاءة فعله وعظم خطره وسوء عواقبه في الدنيا والآخرة، وشموله كثيرا من المعايب والْمَذامِّ والمعاصي.
ولعل من أهم الدوافع إلى اقتراف إثم القول السيئ التنافس على مكاسب الدنيا وحب الاستئثار بها دون الآخرين، والميل لتزكية النفس والرياء وحب الظهور، والأنانية، والحسد والحقد وسوء الظن، وكل ذلك أمراض نفسية تكشف خللا في الفطرة، وفسادا في التربية والتنشئة يوقع صاحبه في عظائم الآثام وكبائر الذنوب بقول السوء، كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والافتراء والقذف والشتم والتشهير واللعن.
ولذلك حرم الحق سبحانه القول السيئ مطلقا ثم استثنى من هذا التحريم كل من لحقه الظلم بقوله: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ فرخص للمظلوم بأن يجهر بمظلمته عملا بقوله تعالى:﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ الشورى 41، وأن يعلن اسم ظالمه أمام القضاء كي ينتصف منه، أو لعموم الناس كي يحذروه، وأن يدعو عليه جهرا أو سرا إن عجز عن دفع ظلمه وأخذ حقه منه. ومن أمثلة ما يردُّ به المظلوم على ظالمه ما روى أبو هريرة من أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه جاره، فقال: "يا رسول الله إن جاري يؤذيني"، فقال: (أخرج متاعك فضعه على الطريق)، فأخرج متاعه فوضعه على الطريق فجعل كل من مر عليه قال:"ما شأنك؟" فيقول:"إني شكوت جاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أخرج متاعي فأضعه على الطريق"، فجعلوا يقولون: "اللهم العنه اللهم اخزه"، قال: فبلغ ذلك الرجل فأتاه فقال: "ارجع فوالله لا أؤذيك أبدا". وفي كل الأحوال فإن رخصة الرد على الظالم لا تبيح للمظلوم أن يشتط عليه بقذف أو بهتان، أو بما نصت الشريعة على تحريمه، لأن الله تعالى يسمع قوله ويراقب عمله ﴿ وَكَانَ اللَّهُ﴾ أزلا وأبدا ﴿سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ لا يخفى عليه من الأقوال والأعمال شيء مهما دق أو خفي.
إلا أن الظلم قد يلحق أحيانا دين الله تعالى نفسه، بالكذب عليه ومحاولة تحريفه ومحاربته، أو يلحق دعوته وحركة نشره وبنائه، بالتآمر مع أعدائها ومحاولة ترويضها أو إخضاعها لأهواء الفسقة والظالمين والمنافقين، وفي هذا الحال تكون المجاهرةُ بالرد القولي واجبا، واتباعُ منهج القرآن والسنة فيه أوجب، وكشفُ الباطل وأهله جهادا في سبيل الله، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ التوبة 73، وقال: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ الفرقان 52، وقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾المجادلة 5.
وسيرا على المنهج القرآني في تطوير سلوك المؤمن بالتدريج نحو الأحسن والأفضل على الدوام، يرتفع بهم التوجيه الرباني من درجة الامتناع عن السوء قولا وفعلا، إلى درجة أرقى هي فعل الخير سرا وجهرا والعفو عن السوء لوجه الله تعالى، بقوله عز وجل:
﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ والمراد بالخير ما تعلق بحق الله إيمانا وعبادة، وما تعلق بحق الخلق إيصال نفع إليهم أو دفع ضرر عنهم، أما إبداؤه فعَمَلُه علانية وإخفاؤه عَمَلُه سرا، أما العفو عن السوء فقد اختصه الله تعالى بالذكر مع أنه داخل في جملة الخير المأمور به، لأهميته في الحفاظ على الأخوة بين المؤمنين ولئلا يغفل عنه أحد أو يستثنيه. أما جواب الشرط في قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾فمحذوف جوازا للمعرفة به، وتقديره: إن تفعلوا الخير جهرا أو سرا أو تعفوا عمن أساء إليكم يجزكم الله تعالى بالخير وحسن الثواب والعفو عن السيئات يوم القيامة، كما قال عز وجل في الصدقات:﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ البقرة 271.
ثم عقب الحق سبحانه على الأمر بهذه المحامد الطيبة للاستبصار والاعتبار بواسع عفوه مع قدرته المطلقة على عقاب المذنبين والانتقام منهم فقال تضمينا لجواب الشرط المقدر: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾يجزي فاعلي الخير والعافين عن الناس بجنس عملهم، فيعفو عنهم ويجزل لهم الثواب الكثير على العمل القليل، كما يغفر سيئات المستغفرين والتوابين، ويرزق في الدنيا المؤمن والكافر والمشرك على السواء، وهو القدير على أن يفعل بهم ما يشاء، إن عفا فإنما يعفو عن قدرة كاملة على العقاب، وإن رزق رزق بغير حساب.
لقد جمعت هذه الآية الكريمة كل أنواع الخير وأعمال البر، ومهدت لذلك بتحريم قول السوء ابتداء وجزاء، في تلاسن المتخاصمين وردوهم على بعضهم سرا أو علانية، وفي تقاضيهم حول الحقوق والمظالم نفيا وإثباتا، إلا أن قول السوء يشمل دائرة أوسع من ذلك هي دائرة الدعوة إلى الدين ونشر عقيدة التوحيد، وهي ما تلقى فيها الأنبياء والمرسلون أشد أصناف السوء القولي والفعلي، ومع ذلك قال الله لهم:﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الأنعام 108، وتوضيحا لهذا الجانب يأخذنا الوحي الكريم في جولة تستعرض ما جوبهت به دعو الإسلام من طرف الكفار وأهل الكتاب، وذلك بقوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ وقد بين الحق تعالى في هذه الآية أربعة أصناف من الكفر وما اعترض به كل صنف منهم على الإسلام قولا أو مواقف.
أول هذه الأصناف الملحدون الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسل في قوله تعالى:﴿ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ وقد زعموا أن لا إله ولا آخرة وأن الحياة مادة، ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ الجاثية 24.
والثاني من يفرقون بين الله ورسله في قوله تعالى:﴿ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي: "والذين يريدون أن يفرقوا ..."، ومنهم كثير من كفار العصر الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالله، وأن الأنبياء مجرد مصلحين لا علاقة لهم بالرسالة أو الوحي، وأنهم انتحلوا الشرائع التي أتوا بها من عند أنفسهم.
والثالث من يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، في قوله تعالى:﴿ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾أي: والذين يقولون نكفر ببعض ما أنزل ونكفر ببعض، كحال اليهود والنصارى إذ يزعمون الإيمان ببعض الأنبياء ويكفرون بآخرين، ويدَّعون العمل ببعض الكتب ويجحدون غيرها، وكحال بعض المسلمين اليوم إذ يردّون نصوصا قرآنية بدعوى عدم صلاحيتها لعصرهم.
والرابع دعاة وحدة الأديان كلها، إسلاما ويهودية ونصرانية وبوذية وغيرها، كما لدى بعض المنظمات العالمية المشبوهة، وهو ما تشير إليه الآية بقوله تعالى:﴿ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أي: والذين يريدون أن يتخذوا طريقا بين مختلف العقائد والديانات تنأى بالمرء عن عقيدة التوحيد، وتصرفه عن تحقيق معرفتها وفهمها والثبات عليها.
لقد نبه الحق سبحانه إلى أن هذه الأصناف كلها هم الكافرون حقا، ولا ينبغي اختلاف في كفرهم واستحقاقهم العذاب المخلد في النار فقال:﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ هم أهل الكفر يقينا مقطوعا به،﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ وأعددنا لكل الكافرين في جهم عذابا يتجرعون معه ضروب الذل والمهانة.
ثم لما ذكر تعالى هذا الوعيد للكافرين أتبعه بذكر ما وعده عباده الصالحين فقال: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ كلهم ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ إلا بأن الله تعالى فضل بعضهم على بعض وجعل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة، وجعل شريعته ناسخة للشرائع قبلها ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ يوفيهم الله تعالى ثواب إيمانهم غير منقوص ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يغفر سيئاتهم ويرحمهم. ولم يقل عنهم تعالى:أولئك هم المؤمنون حقا، لأن إيمان المؤمن يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم يتفاضلون في ذلك حسب أعمالهم.
ولما عرض الحق سبحانه أوجه كفر أهل الكتاب وإنكارهم الرسالة المحمدية توجه بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستحضر في ذهنه بعض أعاجيب تعنتهم واعتراضهم ومطالبهم وقولهم السيئ فقال عز وجل: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ سألوا معجزة مثلَ معجزة موسى، أن ينزل عليهم من السماء كتابا مثل ما أنزلت الألواح على موسى فيها الكلمات العشر جملة واحدة، والسَّائلُون هم كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود، قالا لرسُول الله صلى الله عليه وسلم:إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى عليه السلام فأنزل الله الآية، وكان السؤال من اليهود على سبيل التعنت والمكابرة ولو سألوه استرشادا واستهداء وانقيادا لأجيبوا، وذلك منهم هو صنيع كفار قريش أيضا في تعنتهم واستعصائهم على قبول رسالة الإسلام بقوله عز وجل:﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾الإسراء90/ 93.
ثم يعقب الوحي على ما سألوه بذكر ما تعنت به أسلافم في عهد موسى عليه السلام بقوله تعالى: ﴿ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي إن تعجب يا محمد من تعنت أسئلتهم أو تستكبرها عليهم فقد سألوا موسى أشد سوءا من ذلك:﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ وهو ما سبق شرحه في تفسيري لسورة البقرة في قوله تعالى:﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ البقرة55/56، والرجوع إلى ذلك يغني عن إعادته هنا. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ وذلك عندما ذهب موسى لميقات ربه بعد أن رأوا دلائل نبوته وآيات صدقه ومعجزاته التي كان يظهرها في زمان فرعون، كالعصا واليد البيضاء وفلق البحر وانبثاق الماء من الحجر وغير ذلك، فأضلهم السامري في غيبته واتخذوا من حليهم عجلا له خوار، ولم تبين هذه الآية سبب عفو الله عنهم، ولكن بينته سورة البقرة في قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ البقرة 54،
ومع كل هذه الخطايا والآثام عفا الله عنهم، ولكنه آتى موسى سلطاناً مبيناً عليهم يزجرهم ويؤدبهم به، كما أخبر بذلك بقوله عن نفسه:﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم إذ رفع فوقهم الطور تهديداً لهم ووعيداً لَمَّا امتنعوا عن أخذ التوراة للعمل به، فلما خافوا وأخذوه وأعطوا على ذلك ميثاقاً غليظا سرعان ما تنكروا لِمَا عاهدوا عليه وارتدوا. وقد تقدم شرح هذه الأحداث بتفصيل في شرحنا للآيتين 63/64 من سورة البقرة وهما قوله تعالى:﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
ثم يستمر الوحي الكريم في تعداد ما سبق من عصيان سلف بني إسرائيل بإيجاز نظرا لشرحه بتفصيل أكثر في غير هذه السورة فقال عز وجل: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي يسبب ترددهم وعدم قبول ميثاق ربهم في التوراة، فعاهدوا عليه ثم نقضوا عهدهم, ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ وهو الأمر الثاني الذي وجه إلى بني إسرائيل بدخول القرية، مقرونا بعبادة هي السجودُ، أي الركوع والخشوع والتواضع وطلبُ المغفرة وحطِّ الذنوب، وكان على أرجح الأقوال بعد انقضاء أربعينية التيه، وفتح الأرض المقدسة لهم بقيادة النبي الذي استخلف عليهم بعد وفاة موسى وهارون عليهما السلام، وهو يوشع عليه السلام، إذ خاطبهم بقول الله لهم:﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾البقرة 58/59 .
وكان الأمر الأول لهم بالدخول للجهاد في حياة نبيهم موسى عليه السلام، بعد نجاتهم من فرعون، وخروجهم إلى سيناء، وقال لهم موسى ما حكاه القرآن عنه: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾المائدة،21، إلا أنهم جبنوا ونكلوا عن القتال:﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾المائدة 22. ويواصل الوحي ذكر عصيان أسلاف يهود الفترة النبوية فيقول: ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أمرهم الله تعالى بالامتناع عن صيد السمك يوم السبت وأخذ عليهم بذلك ميثاقا مشددا وعهدا موثقا، فامتثلوا أولا، ثم عادوا لما نهوا عنه من الصيد كما بينه تعالى في مواضع أخرى بقوله:﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ البقرة 65، وقوله:﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ الأعراف 163.
إن بني إسرائيل منذ بعث فيهم موسى عليه السلام وهم يتأرجحون بين إيمان وكفر، لم تثبت لهم قلوب على إيمان أو طاعة أو تقدير لمقام النبوة فيهم، فمن جراءتهم سألوا موسى أن يروا الله جهرة فصعقوا ثم تابوا خوفا، وعاهدوا على العمل بالتوراة فجحدوها إلى أن رفع فوقهم الطور، وعبدوا العجل في غيابه فعوقبوا وتاب الله عليهم، وأمروا بدخول بيت المقدس مجاهدين وموعودين بالنصر فجبنوا ولم يثقوا بوعد الله، وأمروا بعد موسى بالدخول ساجدين تائبين فدخلوا مستهزئين ساخرين، واختبرت طاعتهم بالسبت فكان العصيان ثم المسخ، كل هذه المعاصي وغيرها كثير، تعد نقضا تاما لعهدهم مع الله وتنكرا لما واثقهم به، ولذلك عقب الحق سبحانه بقوله: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ ما حاق بهم من هذه العقوبات النازلةِ بهم وبأعقابهم لعنا ومسخا وغيرهما كان بسبب نقضهم عهدهم مع الله ﴿ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ التي شاهدوها على يد موسى والأنبياء بعده ﴿ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ كقتلهم زكرياء ويحيى عليهما السلام ومحاولتهم قتل عيسى عليه السلام﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ والأنباء معصومون من كل نقيصة أو دنية أو ارتكاب ما يستحقون به القتل ﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ قالوا استهزاء: لم نرتكب إثما فيما فعلنا لأن قلوبنا خلقت مغلفة بأغشية سميكة تمنع خروج ما فيها من ضلال أو دخول ما يأتي به الأنبياء من الحق، كناية عن إصرارهم على العصيان، ورفضهم صحيحَ الإيمان، واستكبارهم على الطاعة والامتثال لما نزل عليهم من الدين، كما ورد عن قوم نوح في قوله تعالى:﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ نوح 7، وكما حكى الله عن المشركين: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ الزخرف 20.
ولكن الحق سبحانه يسفه دعواهم ويكذب مقولتهم هذه بقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ بل قلوبهم خلقت على الفطرة متمكنة من الاختيار بين الخير والشر كقلوب سائر الناس ولم تكن قط غلفا، ولكنهم لما تنكروا لفطرتهم وأعرضوا عن دعوة الأنبياء واتبعوا الشهوات طبع الله عليها بسبب كفرهم. وقد بينت الآية السادسة من سورة البقرة وما بعدها كذلك أن الكفر يحدث أولاً، ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر نتيجة لذلك، فليرجع له في المجلد الأول من هذا التفسير. والطبع هو إحْكام غلق الوعاء أو الإناء أو القارورة بطين أو نحوه كما كان قديما أو بسداد معدني كما هو حال زماننا، ثم يَسِمُونه بِسِمَة معينة تدل على نوع البضاعة أو اسمها، وتسمى آلة الطبع هذه طابعا أو ختما. لقد استمرؤوا ما هم عليه من الكفر فطبع على قلوبهم ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي إلا إيمانا قليلا لا يكفي لخروجهم من دائرة الكفر، وهو من باب تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه، إذ أصل الإيمان لا يقبل القلّة والكثرة ولا بد أن تكتمل أركانه أولا وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ثم بعد ذلك يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والقليل من الإيمان بمعنى الإيمان ببعض والكفر ببعض كفر.
ثم يسترسل الوحي الكريم في تعداد أقوالهم السيئة المكفرة وعدوانهم على الصديقين والأنبياء بذكر ما نالوا به من الصديقة مريم عليها السلام فقال تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ أي وطبع على قلوبهم أيضا بسبب كفرهم إذ رموا الصديقة مريم عليها السلام بالفرية الكبيرة والبهتان العظيم واتهامهم لها بالفاحشة وقد رأوا الآيات البينات على براءتها وصفاء سريرتها وعظيم أخلاقها وتقواها، وشاهدوا عيسى عليه السلام وهو صبي في المهد يكلمهم ويعرف بنبوته ورسالته:﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ مريم 30/31
﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ وطبع على قلوبهم كذلك بسبب قولهم كذبا وادعاء واستهزاء بالنبوة واستهانة بدماء الأنبياء أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، بل وما زال أجيال اليهود إلى الآن تدعي ذلك وتعده من مفاخر أسلافهم، ولئن كان القتل لم يقع منهم لعيسى حقيقة فإن تبييتهم له واعتقادهم بوقوعه يحملهم ذنبه لا سيما وقد قتلوا فعلا أنبياء غيره. ومن قتل نبيا واحدا فكأنما قتلهم جميعا.
ولذلك عقب تعالى على هذه الدعوى الزائفة بتسفيهها ونفيها بقوله عز وجل: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ إنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه مطلقا وإن كثر قائلو ذلك منهم، وسلمه لهم النصارى، ولكن شبه لهم وتوهموا أن المقتول هو عيسى عليه السلام، لِما رأوه ظاهراً من وقوع قتل وصلْب على ذات يعتقدونها ذات المسيح عليه السلام. واختلف الرواة في كيفية إنجاء الله له وفي من قُتِل بدلا عنه، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر صحيح ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ الذين اختلفوا من اليهود في قتله وصلبه واختفاء أثره ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ مترددون في وقوع قتله حقيقة، منهم من جزم بقتله ومنهم من شكك فيه، والذين اختلفوا فيه من النصارى ذهبوا مذاهب شتى في تأويل قتله وصلبه وما دعوه قيامته من قبره. ثم في عقيدتهم فيه وتصورهم لطبيعته ولعلاقته بالله عز وجل، وكلا الطائفتين يهودا ونصارى﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ﴾ ليس لهم أي علم حقيقي بما حدث لعيسى عليه السلام، سوى ما أخبر به الحق سبحانه نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم فكذبوه ولم يعتمدوا في معتقدهم ﴿إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ أي الشك والتخمين .
ثم يأتي تأكيد الخبر نزعا للشك باليقين في أمره من الله عز وجل بقوله:﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾ واليقين هو العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ، وقد ورد منصوبا في هذه الآية على أنه مفعول مطلق مؤكد للجملة قبله وهي ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ أي أنّ عدم قتلهم إيّاه أمر متيقّن.
ثم جعل الله تعالى انتهاء أمره آية أخرى، ونفى أقاويل اليهود والنصارى وأضاليلهم بقوله عز وجل: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ لم يقتلوه ولم يصلبوه ولكن رفعه رفع تشريف وقربى وعلو مقام عن هذا العالم إلى عالم السماوات، كما في قوله عز وجل في الآية 55 من سورة آل عمران:﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، والضمير في قوله﴿إلَيْهِ﴾ وقوله﴿ إِلَيَّ﴾ عائدٌ إلى الله تعالى، على حَذْفِ مضاف تقديره رفعه إلى محل أمره المقدر له ومكان سعادته، وأبعده عن أذى جاحديه من اليهود، كما في قوله تعالى:﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ آل عمران 109، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ ﴾ النساء 100.
إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الإسراء في روية الشيخين وأصحاب السنن أخبر بمكانه في السماء الثانية إذ قال:(انطلقت مع جبريل عليه السلام فأتينا السماء الدنيا، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ مرحبا به ونعم المجيء جاء، فأتيت على آدم عليه السلام فسلمت عليه، قال مرحبا بك من ابن ونبي، ثم أتينا السماء الثانية قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فمثل ذلك، فأتيت على يحيى وعيسى فسلمت عليهما فقالا مرحبا بك من أخ ونبي...).
ثم عقب تعالى ببيان عزته التي يعز بها أولياءه وحكمته التي يصرف بها الأقدار فقال: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ بعزته أعز نبيه عيسى عليه السلام فأنجاه مما كان اليهود يعدونه له من إذلال، وبحكمته جعل خلقه وحياته ونهايته تبصرة للمؤمنين وفتنة للكافرين، وآية على قدرته وبديع خلقه. ولما كان اليهود مبالغين في عداوتهم لعيسى إلى حد القذف والكذب والبهتان والوشاية والكيد، وكان النصارى مغالين فيه إلى حد الشرك تأليها وتثليثا وتصفية لمن يقول منهم بغير ذلك، فقد جعل الله لكل واحد منهم عاجل عقوبة دنيوية هي أن يؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله من حيث لا ينفعه الإيمان، وذلك عند النزع الأخير من احتضاره وانصرام أجل توبته، فيزيده إيمانه جزعا وحسرة وندما من حيث لا ينفعه الندم، لأن الله تعالى يقول عن التوبة في غرغرة الموت:﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ النساء 18 ، وذلك بقوله تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى:
﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ ولفظ"إِنْ" للنفي بمعنى "ما"، كما في قوله تعالى:﴿وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ مريم 71، أي: وما من أحد من اليهود والنصارى عند احتضاره ونزعه الأخير إلا ليؤمنن به. وهذه آية أخرى من آيات الله في عيسى عليه السلام تبقى ما بقيت الحياة على الأرض، لتؤكد بشريته ونبوته وعبوديته لربه، مصداقا لقوله تعالى عنه: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ مريم 21، أما كيفية وقوع ذلك ونحن نرى أن اليهود والنصارى يموتون على ما هم عليه، فإن إيمانهم به يكون عند الجسر بين الحياة والموت وانقطاع صلتهم بالدنيا، وهو ما روي عن شهر بن حوشب قال: قال الحجاج إني ما قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء، يعني هذه الآية، فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك. فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا: يا عدو الله أتاك عيسى نبيّاً فكذبت به، فيقول آمنت أنه عبدالله، وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه هو الله وابن الله، فيقول: آمنت أنه عبدالله، فأهل الكتاب يؤمنون به، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان، فاستوى الحجاج جالساً وقال: عمن نقلت هذا؟ فقلت: حدّثني به محمد بن علي بن الحنفية، فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية). وعن ابن عباس أنه فسّره بذلك أيضا فقال له عكرمة : فإن خر من سقف بيت أو احترق أو أكله سبع قال : يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به.
على أن لتفسير الآية وجها آخر وهو اعتبار الضمير في قوله تعالى: ﴿ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ راجع إلى عيسى عليه السلام، أي قبل موت عيسى، والمراد بأهل الكتاب الذين يومنون به عبدا ورسولا هم من يكون موجودا في زمان نزوله إلى الدنيا مستقبلا، كما في رواية الشيخين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها " . ثم قال أبو هريرة : فاقرؤا إن شئتم: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾.
إن عيسى عليه السلام آية في خلقه وحياته ورفعه، بل كان وجوده كله في الأرض وفي السماء آية للموقنين، وفتنة للجاحدين والمغالين، ويوم القيامة إذا عرضوا على ربهم صفا ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ الزمر 69، حينئذ يتبين الحق غلابا ويتميز العدل من الظلم وجوبا وتقام على أهل الكتاب الحجة بشهادة من أرسل إليهم فحاول بعضهم قتله وألهه آخرون، ولذلك عقب الحق تعالى بقوله:﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وقذفوه وافتروا عليه وحاولوا قتله، وعلى النصارى بأنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا. ومن شهادته عليهم ما في قوله تعالى عنه :﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾المائدة 116.
لقد عصم الحق سبحانه أولياءه من الأنبياء والمرسلين من قول السوء فليس منهم لعان ولا صخاب ولا معتد، وجعلهم أسوة للمؤمنين ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾الأنعام 90، بل كانوا لمعرفتهم بربهم يتنزهون عن النطق السيئ سرا أو جهرا، ويستحون من سماعه، ويعلمون علم اليقين أن حساب الخاصة أشد من حساب العامة، ويُحِقون الفهمَ والعمل بقوله تعالى﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة 284، وقد قال تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ الحاقة 44/47، وقال لنسائه رضي الله عنهن:﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾الأحزاب 30، لأن الذنب يعظم بعظم مقام أصحابه، وحري بالدعاة إلى دين الله أن تنضبط أقوالهم وأعمالهم بما يدعون إليه وتقتضيه دعوة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقد قال:(سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)، وروى البخاري عن أنس قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعانا ولا سبابا، كان يقول عند الْمَعْتَبَة: "ما له ترِبَ جبينُه؟ ")، وقالت عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، ولا سخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو أو يصفح).
إن القول هو أداة للتواصل بين الناس من مختلف الأجناس والأقوام والأديان، ومن الخير أن تكون وسيلة الاتصال سليمة وسلمية، تقرب ولا تبعد، تُؤمِّن ولا تخيف، تكرِّم ولا تهين، تذكر برحمتها وطيبتها المتخاطبين جميعا أنهم أبناء أب واحد وأم واحدة، إن اختلفت خياراتهم فلا ينبغي أن تتنافر مشاعرهم، وإن تعارضت مذاهبهم فلا يجوز أن تهدر أعراضهم بسوء القول، أو دماؤهم بالتقاتل.