المغرب بلد يزخر بالمثقفين من أقصى الشمال إلى أقصى المناطق الجنوبية قالت الدكتورة مريم أيت احمد، أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، إنه آن الآوان لعمل تشاركي جِدّي. يتداخل فيه دور السَّاسة والأحزاب والمؤسسات الحكومية والشركات الاقتصادية.. من أجل المساهمة في تطوير المنتج المَعْرفي في بلادنا. وأضافت أيت احمد ، أنه ينبغي للأسرة أن تُوَجه في إطار خُطط تنموية وبرامج تثقيفية إذاعية وتلفزيونية، كما على الأستاذ أن يُوجِّه طُلّابه وفق برنامج سَنوي يُطلق عليه برنامج النُّهوض بالقراءة، وعلى الخطيب في المساجد أن يُوجه الشباب نحو أهمية "اقرأ" في القرآن الكريم، وذو الدين في تعزيز المعرفة وفق رؤية مَقاصِدية نجلب فيها مصالح تنوير العقل المسلم وندفع فيها مفسدة الجمود. وأكدت أن للإعلام دور في الرقي بالمستوى المعرفي والثقافي للمجتمع، من خلال التكثيف من برامج تفتح شهية المشاهدين على القراءة، وتمنح جوائز للمبدعين من الشباب في مجالات المعرفة والعلوم المختلفة. وأضافت رئيسة مركز إنماء للأبحاث والدراسات المستقبلية، أنه من المفروض دعم دور الشباب وجمعيات المجتمع المدني كقوى فاعلة، بحيث تصبح شريكا مع الجماعات الحضرية والجهات في عملية البرمجة والتخطيط لمجالات الفعل الثقافي والتنموي في المدن، من حيث التحضير لمهرجانات القراءة في الساحات العمومية والمخيمات الصيفية. س: تم الإعلان بحر الأسبوع الماضي عن نتائج الباكالوريا لهذه السنة، حيث يعتبر المعدل المحصل عليه حاسما في توجيه مسار التلميذ الدراسي والمهني، فهل معدل التلميذ- الطالب يعكس حقا مستواه الحقيقي على الصعيد المعرفي والثقافي؟ ج: أولا يسرني تهنئة كافة طلابنا وطالباتنا الأعزاء على نجاحهم في امتحانات الباكالوريا مع تمنياتي للجميع بالتوفيق والسداد في المسار العلمي. أما بخصوص المعدل، فصراحة لا يمكن اعتماده كمكون أساسي في الحكم على المستوى الحقيقي للطلاب، فهناك الطالب المُقتدر الذي يُفْرِز قدراته بغض النظر عن الضغوط النفسية التي يضطرب معها العديد من الطلاب. وعلى العكس يوجد من لديه كفاءة لكن قد يمنعه الارتباك يوم الامتحان من إخراجها وتفعيلها. هذا لا يعني عدم وجود الطالب المتفوق بالمعدل نتيجة استخدامه مهارات فنية في النقل والغش، حيث استفحلت هذه الظاهرة بشكل كبير خاصة بالنسبة للمواد التي يعتبرها الطالب إضافية له، وللأسف غدا الحصول على معدل متفوق ب"النّقلة" يشجع على الاستمرار في الغش إلى ما بعد الباكالوريا، ونعاني في الجامعات من استفحال الظاهرة بشكل كبير... إضافة إلى ذلك، هناك مناهج حديثة تعتمد على الذكاءات الثمانية للطالب في الحكم على مستواه العلمي، ولكن للأسف لازالت بعيدة عن مناهجنا، فالطالب غير المتفوق في الحساب نحكم عليه بالفشل، بينما اعتمادا على مناهج حديثة، قد يتعثر التلميذ في مهارات الحساب لكن ذكاءه يتَوفَّق في الابداع أوالاختراع أوالتكنولوجيا ... والأمثلة عديدة على مهارات التعلم وفق الذكاءات الثمانية. س: هل يمكنك التوضيح أكثر بشأن مفهوم "الذكاءات الثمانية"؟ ج: لو أردنا تعريف الذكاء بصفة شاملة، لوجدنا أنفسنا أمام تعريفات مختلفة تطبق على بعض الحالات الخاصة وربما بَخسنا الكثير من الأفراد الذين لديهم قدرات مختلفة عن ما تتضمنه تلك التعاريف للذكاء، ذلك أن معظم التعاريف كانت مركزة على جانب واحد من جوانب الكيان الإنساني وهو البناء العقلي، وكانت معظم التصورات عن الذكاء أنه النشاط المتعلق بالنشاط الذهني الذي يمكن أن نكشف عنه من خلال التعابير اللغوية الجيدة والقدرة على فهمها أو من خلال القدرة على حل المسائل الرياضية والحسابية... يقول جاردنر، إن الوقت قد حان للتخلص من المفهوم الكلي للذكاء، ذلك المفهوم الذي يقيسه المعامل العقلي، والتفرغ للاهتمام بشكل طبيعي للكيفية التي تنمي بها الشعوب الكفاءات الضرورية لنمط عيشها, ولنأخذ على سبيل المثال : أساليب عمل البحارة في وسط البحار، إنهم يهتدون إلي طريقهم من بين عدد كبير من الطرق، وذلك بفضل النجوم وبفضل حركات مراكبهم على الماء وبفضل بعض العلامات المشتتة. إن كلمة ذكاء بالنسبة إليهم تعني بدون شك براعة في الملاحة. ولننظر كذلك إلى المهندسين والصيادين والقناصين والرسامين والرياضيين والمدربين والتجار وغيرهم. إن كل الأدوار التي يقوم بها هؤلاء ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، إذا قلبنا تعريفاً جديداً للذكاء، باعتباره كفاءة أو قدرة لحل المشكلات أو إنتاج أشياء جديدة، ذات قيمة في ثقافةٍ ما أو مجتمع ما من المجتمعات. إن كل الكفاءات والقدرات التي يُظهرها هؤلاء في حياتهم وعملهم تعتبر بدون شك شكلاً من أشكال الذكاء الذي لا يقتصر على المهارات اللغوية أو الرياضيات والمنطق، والتي طالما مَجَّدتها اختبارات الذكاء واحتفظنا بها في قاموسنا العقلي كتعبير منطقي عن الذكاء .... وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار أن الإنسان لديه مجموعة من القدرات والتي يمكن أن نسميها بالذكاءات وليس معنى واحد للذكاء نحصره فيه. وليس من الضرورة أن تظهر كل أشكال هذه الذكاءات في الإنسان الواحد أو الفرد لكي يكون ذكيا لأن البيئة الثقافية التي يعيش فيها تحدد إلى مستوى بعيد ما يمكن للفرد أن يمتلكه من هذه الذكاءات، وإذا امتلك الفرد ذكاء واحدا يمكن اعتباره إنسانا ذكيا ..وهذا يجبر نظام التعليم على إعادة صياغة التعليم والتعلم بناء على توفير احتياجاتنا من هذه الذكاءات وعدم التركيز على النظرة التقليدية للذكاء التي تحصره في الذكاء اللغوي أو الرياضي والهندسي... س:لطالما اكتظت مقرراتنا الدراسية بالمعلومات، وطُلب منا الحفظ ثم الحفظ، حتى غدا أقوى التلاميذ ذاكرة هو التلميذ المتفوق، فماذا تقولين على هذه الطريقة التي تقتل مَلَكة الإبداع في التلميذ منذ صغره؟ ج: كنت أناقش ظاهرة الغش التي سببها الرئيسي، إلزام الطالب بمقرر يحفظه ويعيده كما هو، من دون استيعاب أو فهم أو تحليل أو نقد، وهذا يقتل ملكة الابداع ومهارة السؤال والتمحيص والتدقيق والاستقراء لدى الطالب. حقيقة هناك بعض المقاييس لدى الأساتذة الذين لم يتخلصوا بعد من عقلية أن الأستاذ مصدر وحيد للمعرفة،علما أنه اليوم تعددت مصادر المعرفة مع وسائط تكنولوجيا الاتصال، وأصبح الطالب بفعل تنوع المعارف شريكٌ للأستاذ في تصميم وهندسة الدرس، فكيف يعقل أن يتمادى منهج الحفظ واستبداد سلطة نص المقرر التي تُحول عقول الطُّلاب إلى مجرد صناديق سوداء كالتي تُستعمل في الطائرات لحفظ المعلومات؟ أظن أن بعض مناهج التدريس التي تُغيب ترشيد مهارات وكفايات نفسية ومعرفية لدى الطالب، تساهم بدور كبير في إنتاج عقلية الاتكال والامبالات لدى العديد من طاقات إبداعية خلاقة، كان ممكن أن تستثمر بفعل التحفيز وتنمية القدرات وتطوير المهارات، لكنها تجَمدت وتكَلَّست لأنها لم تجد احتراما كافيا لعقولها، وهذا الواقع يجده الطالب في مناهج التعليم كما يجده في الإعلام الذي يساهم في تسطيح وتمييع المعرفة لديه. فحين تسأله بعض القنوات نهاية عرض مسلسل مكسيكي بالسؤال التالي :هل (ألكسندرو) كان يلبس قميصا أبيضا أم أزرقا ؟ ،فهل تحترم هذه الأسئلة حدود ذكائه ومهاراته؟ وللقارئ أن يحلل كيف يساهم مثل هذا الإعلام في تسطيح المعرفة لدى جيل مستقبل الغد. س:من منطلق كونك أستاذة جامعية، هل أصبحت الجامعة المغربية ثانوية كبيرة؟ ج: صراحة أنا لا أساير الأحكام العامة على مستوى الجامعة المغربية، لا يمكن الحكم بالكمال وفي نفس الوقت لا نحكم بنظرة سوداوية على مستقبل جامعاتنا المغربية. هناك نسبة تلج الجامعة المغربية وهي أصلا مدمرة نفسيا من عدمية المخرج التعليمي وقيمة الشهادة في الحصول على وظائف، ولكني أعترف أنني أينما ذهبت وقد حاضرت في بلدان كثيرة وجامعات حول العالم، وبكل اعتزاز وفخر أُقِر بأن الطلاب المغاربة أذكياء جدا، حين يُفسح لهم مجال استخدام المهارات وتحفيز إرادتهم نرى منهم العجب. حُسن طرح السؤال، حُسن تقديم العروض، مهارات عالية في استعمال وسائل التكنولوجيا في البحث، ارتجالٌ بلغة سليمة وشخصية قوية فوق منصات المدرجات... هذا الخير ينبغي أن نستثمره، ونوجهه للتفعيل للعطاء المعرفي . فحين يقوي الأستاذ عزيمة الطالب ويرفع من إرادته وهمته مهما كان مستواه يجتهد ويحاول أن يبدع، لكن تخيلي لو أن أستاذا يبدأ المحاضرة بالتنقيص من قدرات الطلاب ونعتهم بالعبث، فالنتيجة أكيد أنها ستكون المزيد من الاتكال وعدم المبالاة بالدراسة إن لم يكن كراهية المعرفة ككل. س: ما هو تقييمك للطالب الجامعي على مستوى الثقافة والوعي؟ ج: في الحقيقة هذا سؤال صعب، هناك تراكمات تاريخية واجتماعية وَلَّدت نوعا من عدم اهتمام نسبة كبيرة من الطلاب بالمجال الثقافي والمعرفي، ومن بينها عدم المساهمة في نشر الوعي التثقيفي لدى الطلاب، بحيث يمكننا استبدال الاعتماد على مقررات جاهزة بتوجيه الطلاب نحو قراءة وتلخيص 5 إلى ست كتب تهتم بمحور مادة المقرر، بالإضافة إلى مشكلة الانزواء في قالب التخصصات، فالطالب في العلوم لا يهتم كثيرا بثقافة الآداب، والفلسفة والقضايا الفكرية المعاصرة. والطالب في الآداب لا يحاول البحث في مجالات التطور العلمي والمعرفي، وبالتالي تكون الحصيلة تقليص نسبة المثقف العضوي في المجتمع، المثقف الذي يحمل هم تنمية مجتمعه وقيادته نحو المنافسات المعرفية والثقافية والعلمية والتكنولوجية العالمية. س: إلى ماذا يعزى في نظرك تراجع نسبة القراءة في البلدان العربية عموما على الرغم من كوننا أمة "اقرأ"؟ ج: حتى لا نقف كثيرا عن أسباب العزوف عن التوسع المعرفي والثقافي والتي يعرفها الكل،( سيادة ثقافة الفرجة، وتهميش ثقافة التنشيط الاجتماعي للأحياء، وغياب دور الأسرة والمجتمع والمدرسة والجمعيات.......). في اعتقادي أنه لا يمكن الحديث عن أسباب الخروج من الأزمة دون الوقوف عند دور الماضي والحاضر في البناء المعرفي لأمة اقرأ. فلنبدأ بماضينا خلال الطفولة. فالطفل في عيد ميلاده نأتيه بلعبة بدل قصة أو رواية ،ويفتح عينيه ليرى أن العائلة تجتمع مساء حول التلفزيون لمشاهدة المسلسلات والفرجة، وأن الوقت المخصص له بعد العودة من المدرسة، يكون اللعب أولا ثم الواجب ثم الفرجة ثم النوم، هذا بالنسبة لطفل في أسرة متعلمة. أما الطفل في أسرة أمية أو فقيرة فإما العمل بعد المدرسة في بيع الأكياس في الأسواق ثم اللعب فالنوم. نأتي للحاضر لنجد أن الشاب حينما يكبر في أجواء بيت لا يحمل قدوته فيه كتابا، ولاتوجد فيه مكتبة، ولا يُلزمه المنهج الدراسي بالاختبار في عدد من الكتب المختلفة عناوينها ومواضيعها، يجد نفسه أمام فضاءات شاشات الفرجة بشتى تلاوينها، من مئات القنوات الفضائية إلى مئات البرامج للعب في الكمبيوتر، إلى عرف الجلوس على المقاهي للدردشة ومتابعة الكرة وتشجيع الفرق العالمية...فمتى سيخصص الوقت الكافي للقراءة؟ س: وكيف السبيل إلى إعادة الاعتبار للمثقف المغربي الحقيقي؟ ج: كل ما ذكرناه لاينفي وجود مثقف مغربي واعي ومميز، يُشهد له بالحضور المعرفي عربيا ودوليا، لا من حيث العطاء المعرفي الممنهج، ولا من حيث الكفاءة في طرح البدائل بعقلية استشرافية نابعة من بيئته وموقع الاستراتيجي المنفتح على الثقافات المتعددة. فهناك مثقف مغربي عالي الكفاءة لكنه إما بسبب عدم قربه من الدوائر التي تصنع النخب وتلمع الكفاءات، تبقى قدراته حبيسة قاعات التدريس أو الكم الهائل من الإنتاج المعرفي الذي لم يجد طريقا لنشره، المغرب بلد يزخر بالمثقفين من أقصى الشمال إلى أقصى المناطق الجنوبية؟. إلا أن هناك معيقات تقف دون الوصول إلى أفكاره وأطروحاته الفلسفية والفكرية وإبداعاته العلمية، فهناك حُرقَة دور النشر التي تلعب بمشاعر الكتاب والمبدعين، باحتكار أفكارهم والتحجير على حق الكاتب في عدم تناول نفس الموضوع مقابل 50 نسخة إن هو حصل عليها، بالإضافة إلى سعر الكتاب الذي ليس في متناول النخب المثقفة التي تقبع في منطقة الوسيط بين مطرقة تحمل أعباء الضربات الاقتصادية، وسندان حمل هم تنمية وتطوير المجتمع المغربي ثقافيا ومعرفيا..