"التمثيل".. ربما واحدة من أفضل المهن في المغرب.. تضمن لصاحبها شهرة منقطعة النظير.. وصورا مع المعجبين والمعجبات في كل مكان.. وحسابا بنكيا دسما لأولئك الذين صارت وجوههم "ماركة مسجلة" بعدد من الأعمال السينمائية والبرامج التلفزية والإعلانات التجارية.. غير أنها من الجانب الآخر.. تظهر واحدة من المهن السيئة بالمغرب بكل ما يحكى عن مِحن ممثلين مغاربة كُثر اخترقت معاناتهم جدار الصمت.. فتدفقت مقاطع الفيديو التي تصور ممثلة ما باكية غلاء المعيشة وندرة العمل.. وسال المداد كاتبا أخبارا عن ممثل ما يستنجد الخلاص.. معاناة الممثلين المغاربة تبدأ بندرة العمل، خاصة مع قلة الإنتاج الوطني، على اعتبار أن الطلب أكبر بكثير من العرض، لتصل بعد ذلك إلى ما يتعلق بضعف التغطية الصحية وما يرافق ذلك من قصص أليمة لممثلين وممثلات أقعدهم فراش المرض للأبد.. ولا تنتهي سوى مع مشاكل الممثلين التي تربط بعضهم ببعض، وذلك حين يتهم الممثل زميله في المهنة بأنه سارق أدوار بمقومات ليس من الضروري أن تحضر فيها الكفاءة.. كيف هي حياة الممثل المغربي في الواقع؟ أليست حياة مليئة بالألم نظرا إلى إكراهات القطاع؟ وإن كان هذا القطاع فعلا يعاني، فلم نجح الكثير من الممثلين في مسارهم المهني؟ ألا تتحمل الدولة عبر تنظيماتها مسؤولية هشاشة هذا القطاع الذي لا محيد عنه بالنظر لأهمية السينما والدراما كفنون جماهيرية؟.. هي أسئلة تطرح في هذا التحقيق الذي يقدم عبر جزأين: الأول يتحدث عن معاناة شريحة كبيرة من الممثلين المغاربة، والثاني ينشر في الأيام القادمة متحدثا عن نماذج ناجحة، أو على الأقل تقول عن نفسها أنها أفلحت مهنيا بغياب شكواها من عتيّ الأمواج المتقلبة ببحر هذا القطاع.. جواد السايح: شركة وردة للإنتاج ظلمتني في حقوقي المادية. كان الممثل جواد السايح أول من التقيناه.. فتحدث لنا بداية عن كون المغرب جديدا في السينما، وأن إمكانيات السينما المغربية جد متواضعة، وأول من يدفع ثمن هذا التواضع هو الممثل المغربي. وإضافة لهذا التواضع، فقد أضاف أن قطاع السينما والمسرح بالمغرب يعاني من مجموعة من الثغرات: مثل مشكل اختيار أعمال رديئة لا تتماشى مع رغبات الجمهور، على اعتبار أن لجان قراءة السيناريوهات سواء بالمركز السينمائي المغربي والقنوات التلفزية تقبل مجموعة من الأعمال الرديئة التي يجد الممثل نفسه مجبرا على العمل داخلها لعدم وجود البديل، خاصة ما يتعلق بالإنتاجات الرمضانية التي يتحمل فيها الممثل الوزر الأكبر من الانتقاد، في حين ليس له من خيار سوى العمل داخلها وإلا البقاء عاطلا طوال باقي أيام السنة. وحمل جواد السايح بعض شركات الإنتاج مسؤولية تهميش الممثلين، وأعطى مثالا بشركة وردة للإنتاج التي قال أنها لا تقدم للفنان مستحقاته المادية، حيث أنها لم تقم بتعويضه عن حادث تعرض له أثناء تصويره للجزء الأول من سلسلة "حديدان" وأفضت إلى كسر.. موردا بأن ذات التصوير مر في ظروف مزرية وقاسية، مما جعله يتغيب اضطراريا عن الجزء الثاني من نفس السلسلة.. كما تحدث عن الكثير من شركات الإنتاج التي تشغل ممثلين غير معروفين لكي لا تؤدي لهم أجورا في المستوى، مما يحتم على الممثلين المعروفين البقاء في دائرة الظل، داعيا إلى تشجيع الإنتاج الوطني و دخول المستثمرين الخواص إلى هذا القطاع للحفاظ على الهوية المغربية التي يبدو أنها ستضيع مع هذا الزحف الكبير للمسلسلات الأجنبية.. وكل هذا على حد تعبير السايح. حوار جواد السايح مع هسبريس: مصطفى الزعري: رغم المعاناة، فأنا لم أطلب الصدقة يوما.. قال الكوميدي والممثل مصطفى الزعري إنه لا يسعى إلى الأدوار عن طريق الوساطة والتوسل و"لْحِيسْ الْكَابَّة" و طلب الصدقة، وهذا هو سر ظهوره النادر في الساحة الفنية، إضافة لكون شركات الإنتاج هي من تتحكم في رأيه بعملية اختيار الممثلين، حيث شبهها ب "عصابات صغيرة للمافيا" تتعامل مع مجموعات معينة من الممثلين يوافقونها في أهواءها ورغباتها، وليس مع الجميع. وتابع حديثه بمرارة عن أنه حاليا لا يمتهن أية مهنة من غير التمثيل التي بدأها منذ 47 سنة، وهي نفس مهنة زوجته رشيدة مشنوع، علما أنه كان قد اشتغل في فترات متقطعة من حياته كمحافظ عام في تصوير الأفلام بورزازات، وهو ما انقطع عنه بسبب تقدمه في العمر، بحيث يعيش حاليا هو وأسرته جوا من الخوف من تقلبات الزمن، ويحاول ما أمكن توفير المداخيل القليلة التي يتلقاها من حين لآخر بسبب مشاركة محتشمة في عمل ما، منتقدا عدم وجود ضمان اجتماعي وتقاعد للممثل المغربي، وأعطى مثالا بأحد أصدقائه الممثلين الذي يعيش بشكل غير لائق على سطح إحدى العمارات. ورغم كل هذه المشاكل، فقد تحدث مصطفى الزعري عن كونه يريد قضاء بقية حياته في مهنته المفضلة ولا يريد الابتعاد عنها، داعيا المخرجين إلى الاهتمام بالممثلين الكبار في السن وعدم نسيانهم، كما أثنى على عمل النقابة التي تقوم بعمل جيد رغم تحفظه على بطاقة الفنان التي لا تقدم شيئا يذكر. نعيمة بوحمالة: من لديه الوساطة، هو من ينجح ماديا في هذا القطاع.. تحدثنا مع نعيمة بوحمالة مباشرة بعد انتهاءها من تصوير بعض حلقات السلسلة الرمضانية "ياك حنا جيران"، حيث كان صوتها منهكا بسبب تعرضها لواقعة إغمائها أثناء التصوير طالتها عن تأثيرات مرض السكري الذي تعاني منه.. غير أن هذا لم يمنعها من الحديث عن معاناتها المتجسدة في قلة الطلب على أدائها الفني، وأوردت أن المخرجين قليلا ما يستعينون بالممثلين ذوي الخبرة، ويفضلون ممثلين وممثلات ضعاف المستوى، وأعطت مثالا بمخرج أعطى دور البطولة لفتاة التقى بها في الشارع عوضا عن ممثلة حقيقية.. وانتقدت بوحمالة ولوج "من هبّ ودبّ" لميدان الإخراج، حيث صار على حد تعبيرها ب "الْبَابْ لِي مَا عْنْدُو قْفْلْ وْلِّي جَا كَيْدْخْلْ" بتشجيع من القنوات الوطنية التي تدعم مخرجين غير أكفاء وتتحيز لأسماء معينة كي تقصي أسماء أخرى، خاصة فيما يتعلق باختيار مشاريع الأعمال الدرامية.. وهو ما يحكم على أغلب هذه الأعمال بالرداءة وفق تعبير نعيمة بوحمالة دوما. وتابعت الممثلة، التي كانت تشتغل سابقا ممرضةً مساعدة في المصحات قبل أن تتفرغ للفن، بأن مورد التمثيل وإن كان ضعيفا فهو يكفيها ما دام أبناؤها يساعدونها على المصاريف، خاصة الكراء.. مشيرة لوجود بعض الممثلين يتباكون على التلفاز وعلى صفحات الجرائد من أجل تقوية علاقاتهم مع أشخاص نافذين، ومن أجل التحايل على المجالس البلدية للحصول على أموال الدعم المخصصة في الأساس لتمويل تظاهرات معينة، غير أنهم يضعونها في جيوبهم. وردا عن سؤال متعلق بمسؤولية الممثل في عدم تطوير ذاته وملكاته، ردت بقولها إن "اليْدْ الطْوِيلَة هِيَ لِّي كَتَاكُلْ اللّْحْمْ" في إشارة للممثلين الذين نجحوا في ظرف وجيز بسبب ما قالت أنها وساطات ومعارف قوية، داعية المخرج حميد بناني إلى تأدية ما عليه من مستحقات لها إثر مشاركتها في أحد أعماله، وذلك كي لا يصل الأمر إلى القضاء. فيديو سابق تتحدث فيه نعيمة بوحمالة عن معاناتها: عائشة ماه ماه: لولا عائلتي.. لكنت أتسول في الشارع. عائشة ماه ماه، والتي كان قد نشر لها فيديو سابق تتحدث فيه عن معاناتها وسط منزلها مع أنابيب الصرف الصحي التي ضخت ما بها من تحت الأرضية، فقد أكدت أن "السلطات المحلية" تدخلت لإصلاح هذا المشكل، غير أن تبعاته أثرت على صحتها بشكل كبير، حيث لا زالت تتداوى من الحساسية التي سببها لها، كما أنها حاولت تغيير المسكن أكثر من مرة، إلا أن المؤسسات البنكية لم تمكنها من قرض نتيجة لعمرها المتقدم وعدم توفرها على دخل قار. وأضافت أنها، رغم ظهورها المتكرر في الأعمال السينمائية والدرامية، تتوفر على أحوال ماديّة سيئة للغاية، وبأن الطلبة المتخرجين حديثا من نفس الميدان يتجاوزونها من ناحية الأجر، كما أنها كثيرا ما لا تتوصل بتعويضاتها كاملة.. وأعطت مثالا بمسلسل "المجذوب" الذي كان من المفروض أن يتم تصويره في شهر واحد، وأن يتم تعويضها خلال ذلك الشهر ب4 ملايين سنتيم، غير أنها اشتغلت في تصويره لمدة ثمانية أشهر بنفس المقابل الذي لم تتوصل به سوى بعد انتهاء التصوير ودون مراعاة تغير زمن العمل وما صاحب ذلك من ضياع لمجموعة من الأعمال الأخرى، دون احتساب مصاريف الفندق والتغذية والتطبيب. ماه ماه أقرّت أنها لولا عائلتها التي تعتني بها لكانت تتسول في الشارع، وأن المنتجين يتصرفون معها ومع الكثير من الممثلين بمنطق " غِيرْ دْرْتْ فِيكْ خِيرْ". فيديو سابق تتحدث فيه عائشة ماه ماه عن معاناتها: فاطمة وشاي: لا توجد ضمانات في مهنة التمثيل.. قالت الممثلة فاطمة وشاي، إحدى نجمات سلسلة "حديدان"، إن الممثل المغربي يعاني من الاستغلال في غياب أجور قارة وفي إطار قانوني حقيقي يحميه وما دامت الكثير من شركات الإنتاج تتعامل معه حاليا بمنطق "بَّاكْ صَاحْبِي".. وأضافت أن الممثل الذي يشتغل بكثرة يصير وجها مستهلكا لدى الكثير من المنتجين الذين يؤدون له أجورا متواضعة.. فهي بالكاد "تسد رمقها" والدليل على ذلك أنها لا زالت في تسكن في منازل الإيجار بعدما لم تستطع، طوال هذه المدة من العمل، أن يكون لها منزلها الخاص. وأضافت وشاي أن مهنة الفنانين لا تسمح لهم أن يظهروا ببساطة.. فهو مجبر على السكن بشكل لائق واختيار ألبسة ذات شكل راق، مما يستوجب تلقيه أجرا عاليا شيئا ما.. متحدثة عن أنها لا تعرف ما الذي قد يحدث مستقبلا، وأنها تعيش اليوم لليوم، لكن ورغم كل هذا، فهي لا تتذمر من هذه المهنة التي تحبها رغما عن كونها غير متوفرة على ما تستوجبه ممارسة الفنّ. ورأت فاطمة وشاي أنه من الضروري إحداث نقابة جديدة للممثلين التلفزيونيّين كي تهتم بأوضاعهم وتدافع عنهم، ما دامت النقابة الموجودة حاليا، النقابة المغربية لمحترفي المسرح، "غير قادرة على استيعاب جميع المشاكل" تردف وشاي. هل الفنان الفاشل اجتماعيا فاشل فنيا؟ هناك من يآخذ الممثلين المغاربة على "الغرق في التباكي والتشكّي"، ويتحدث عن كون الكثير منهم يبقى حبيس أدوار نمطية لم يتململ منها لسنوات.. ذاكرين ممثلين طوروا من أساليب عملهم، فصاروا نماذج ناجحة فرضت نفسها بقوة على الميدان، كأي مجال من المجالات به الناجحون والفاشلون.. الأكيد أن بعض الوجوه المتموقعة في أوضاع صعبة اجتماعيا وماليا لا يمكن قرنها بالفشل الفني.. كما أنّ الأدوار النمطية أضحت سمة من سمات الممثل المغربي الناجج كما غيره.. ليبقى التساؤل ملتصقا بما قالته نعيمة بوحمالة عمّن "يده طويلة" هو الذي ينجح ماديا في هذا الميدان.. وما أورده الزعري بشأن الميدان الفني الذي يبتسم لمجموعات المافيا الفنية.. وأيضا نطق فاطمة وشاي بعبارة "بّاكْ صَاحْبِي".. وثلة من الأسئلة المفصلية التي ستتم محاولة الإجابة عنها ضمن الجزء الثاني من هذا التحقيق.. *[email protected]