إن مفهوم العلمانية لا ينحصر في عزل الدين عن السياسة على مستوى الدولة، بل يمتد ليشمل فصل العقيدة عن الشريعة على مستوى خطاب الفقهاء. فالفقيه العلماني همه الوحيد هو الحديث عن الشعائر التعبدية، والأحكام المتعلقة بالزواج والطلاق، أو عن الغيبيات كالجنة والنار، والملائكة والجن، ونحو ذلك. ويعتبر الفقيه الرسمي هو الترجمة الفعلية للفقيه العلماني، لأن هذا الأخير لا ينضبط بالدين بل ينضبط بالسياسة والتوجهات العامة للدولة، فهو تابع غير متبوع، والفتوى التي يصدرها ينبغي أن يراعى فيها عدم مخالفتها لثوابت الدولة، وليس الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وقد تم تخريج هذا النوع من العلماء عن طريق مؤسسات تعليمية صالحة لإنتاج الفقيه العلماني، وتم توجيههم بعد ذلك عن طريق المجالس العلمية. وهكذا نجد الحسن الثاني يؤكد في كثير من خطاباته على تحديد وظيفة الفقيه العلماني، فيقول في خطابه الموجه إلى المجلس العلمي الأعلى بتاريخ: 18يوليوز1982م: إن دروس العلماء ليست دروساً للسياسة، حينما أقول السياسة، أقول السياسة اليومية، لا أقول سياسة التخطيط، وسياسة النماء، وسياسة التحرير، وسياسة الحرية، وحرية الفكر البناء، لا، أقول السياسة الظرفية، إياكم الدخول فيها، لا يعنيكم إذا ارتفع سعر الوقود أو سعر الدخان. ويقول في خطاب آخر لسنة: 1984م: ..... فإذا أنتم أحكمتم سلوككم وطريقتكم في العمل ستكونون بجانب العامل عن الإقليم ورئيس المجلس العلمي للإقليم بمثابة ذلك العالم الذي يستنكر المنكر ولكن بقلب. أما السلطة التنفيذية فهي للعامل على الإقليم، فهو الذي طبقاً للقانون يمكنه بل يجب عليه أن ينهى عن المنكر بيد، هذا ما نسميه بفصل السلط ثم يضيف لا نغلق أندية، ولا نغلق مسابح، ولا نرجع إلى الوراء أبداً، أنا أتكلم فيما يخص العبادات والمعاملات والسيرات لا تهمكم، لا تهمكم السيرة في الأزقة والعربدة في الطريق وغير الحشمة في الطريق. فالحسن الثاني يحذر الفقهاء من الدخول في السياسة الظرفية، والحديث عن ارتفاع سعر الوقود أو سعر الدخان، وقس على ذلك غلاء المعيشة وتدني الأجور والبطالة والعدالة الاجتماعية، فالفقيه العلماني لا يعنيه الشأن العام سياسة واقتصاداً وثقافة وخدمة اجتماعية، وبهذا يكون الفقيه العلماني قد احترم ما يسمى بفصل السلطات. أما إنكار المنكر فليس من اختصاصه، وإن كان فينبغي أن ينحصر في الإنكار القلبي. أما واجبه أمام الصور العارية والتبرج فهو أن يبين للناس أن هذه المظاهر أصبحت اليوم من زينة الأرض، لأن تعداد زينة الأرض في القرءان-حسب الحسن الثاني- ليس تعداد حصر، يقول رحمه الله: .... عوضاً من أن نأخذ بيد العامل مثلاً في مدينة ما ونريه لافتة أمام سينما فيها امرأة ربما بلباس السباحة ونقول هذا منكر، ويصبح حقيقة دور العالم أنه غائب لا يزيد على أنه أصبح مقدماً لحومة، اللافتات لا، ليس هكذا سنحارب المنكر، هذا شئ لا بد منه أصبح في باب الفقهيات مما يشوب الماء الذي يصلح للوضوء. حياتنا هي هذه، وهذا ما أراد الله ولكن علينا أن نظهر للناس هذه المظاهر هي أصبحت اليوم من زينة الأرض، وحتى تعداد زينة الأرض في القرءان ليس تعداد حصر. ولاشك أن هذا يؤدي إلى تعطيل قانون الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وتعطيل قانون الدين النصيحة، وتعطيل الأمر الإلهي بالعدل والقسط واتباع الصراط المستقيم. وتتجسد علمانية الفقهاء في مجموعة من الهيئات التي تم تأسيسها بمباركة من السلطة السياسة، والتي تهدف أساسا إلى المساهمة في علمنة الدين، ويمكن اختزالها في ثلاث هيئات رئيسية: - الرابطة المحمدية لعلماء المغرب. - جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية. - المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية. وأهداف هذه الهيئات لا تختلف كثيراً عن بعضها البعض، فاهتمامها واشتغالها لا يخرج عن المجال العقدي والروحي والأخلاقي. وعلمنة الدين تتجلى بوضوح في الضوابط التي وضعتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على مستوى مضمون خطبة الجمعة، وكذلك في دليل الإمام الذي تم توزيعه على جميع أئمة المساجد، فقد تم التركيز فيهما على جعل الدعوة في خدمة الدولة. أما على مستوى الواقع فإن الفقيه العلماني لا يستطيع أن يخوض في مجموعة من المجالات، نذكر منها: - تزوير الانتخابات. - الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. - الفساد الإداري. - الفساد المالي. - الفساد السياسي. - الفساد المؤسساتي....وهلم جرا. ولذلك لما تحدث الدكتور رضوان بنشقرون رئيس المجلس العلمي المحلي لعين الشق بالدار البيضاء عن الفساد الأخلاقي وبالذات عن مشاركة إلتون جون المعروف بشذوذه الجنسي في مهرجان موازين بالرباط، صدر في حقه الإعفاء مباشرة من طرف الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى بدعوى أن بنشقرون تجاوز مهامه المحصورة في دائرته الترابية. وفي عهد الحكومة الملتحية تم توقيف الشيخ عبد الله النهاري من إلقاء دروسه، لأنه تحدث عن مقاطعة المهرجان الدولي للرقص الذي يشرف عليه عدد من الصهاينة، وانتقد بشدة دنيا باطما المغنية المشاركة في مسابقات أراب آيدول.... وأريد أن أضيف أن الفقيه العلماني دائما يتعامل مع الأفعال التي تصدر عن أفراد المجتمع أو مع الفتاوى بمكيالين، فهو لا يهمه الفعل أو الفتوى هل تخالف الشرع الإسلامي أم لا، بل ينظر إلى الفتوى هل تتماشى مع السياسة التي رسمتها الدولة لنفسها أم لا، وأقرب مثال يجسد هذه الحقيقة عجز المجلس العلمي الأعلى عن إصدار فتوى الفوائد البنكية الجاري بها العمل في المؤسسات المالية رغم الأسئلة المتعددة والمتكررة التي بلغت المئات، ورغم رغبة المواطنين في معرفة الحق من الباطل؟؟.