يعيش المشهد السياسي المغربي في الوقت الحالي دينامية لم يسبق لها مثيل، وذلك بفعل تفاعل مختلف الأحداث والتحولات دوليا وإقليميا ومحليا، مما يغذي الحركات الاحتجاجية في كل مكان، والتي تنادي بمطلب واحد وهو إقرار العدالة الاجتماعية وتحسين ظروف العيش وإقرار الكرامة والديموقراطية. وقد انعكس هذا الأمر من خلال حدث يعد من بين أهم ما جاء به الإصلاح الدستوري الأخير، وهو الجلسة التي عقدها رئيس الحكومة المغربية الحالي السيد عبد الاله بنكيران، لمناقشة السياسات العمومية مع نواب الأمة وتحت الأنظار المباشرة للشعب المغربي... حيث عرف النقاش أثناء الجلسة جرأة غير معهودة وتناولت قضايا عديدة ومختلفة وكذلك آنية، ولعل أهمها هو النقاش حول مسألة التوظيف والتشغيل في المغرب، تطرق من خلالها بنكيران بجرأة وقوة للاختلالات التي يعرفها هذا المجال مشيرا إلى الفائض الذي يعرفه القطاع العام على مستوى الموظفين والذي يكلف خزينة الدولة بطبيعة الحال الملايير من الدراهم.... والتحدي المقرون بعقلنة هذا المجال عبر ضرورة عقلنة التوظيف في القطاع العام وحصر الولوج إليه فقط من باب المباراة،...السؤال المطروح هنا هل مسألة استنزاف ميزانية الدولة مرتبطة فقط برواتب موظفين من الطبقة المتوسطة (سلم 10 و 11)، لماذا لم تتم الإشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى الاستنزاف الذي تعرفه ميزانية الدولة بسبب الأجور العالية والخيالية بالنسبة للبعض من الموظفين السامين في الوزارات والمؤسسات العمومية.. رئيس الحكومة لم يتطرق لهذا الموضوع رغم الوضع الحرج الذي تعرفه مالية الدولة خصوصا أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات وتقارير أخرى لجمعيات ومنظمات غير حكومية تقوم بتتبع أداء القطاع العام بالمغرب، بينت بالأرقام وأعطت الدليل أن المسؤولين في هذه الإدارات والمؤسسات لم ينجحوا في تدبير المؤسسات العمومية التي يشرفون عليها إن لم نقل متورطون في اختلالات كبيرة تحتاج لعرضها على القضاء ليقول كلمته فيها. إن التعاطي مع مشكل التوظيف في القطاع العام وتخصيص ميزانية مهمة لذلك، يحتاج إلى رؤية متكاملة يتداخل فيها ما هو قانوني وما هو سياسي بما هو سوسيو اقتصادي، أما التركيز على جانب واحد وجعله مركز التحرك الحكومي قد لا يكون حلا مناسبا في ظل الوضع الانتقالي والمرحلة الاستثنائية التي تدبر فيها الحكومة قضايا الشأن العام. والأكيد ان رئيس الحكومة حريص على عدم صرف المال العام إلا في إطار الحكامة الجيدة، ولئن كان أحد المطالب الشعبية والرئيسة التي كانت ضمن الملفات التي ناضل من أجلها حزب العدالة والتنمية طيلة تواجده في موقع المعارضة والتي طرح من خلالها حلولا و إجراءات كالتخفيض من الأجور العليا والعلاوات الشهرية والدورية والسنوية التي يحصل عليها كبار الموظفين خاصة في وزارة المالية وبعض القطاعات الحكومية الأخرى، فإن الحكومة الحالية -والتي يتحمل حزب العدالة والتنمية قيادتها - يجب أن تتعاطى مع مسألة الأجور العليا بنفس الوضوح والقوة والجرأة التي يعبر بها رئيس الحكومة عن موقفه من ملف التوظيف المباشر حتى يكون هناك نوع من الانسجام والمصداقية في الخطاب الحكومي. تجدر الإشارة إلى أن رئيس الحكومة وبعض وزرائه خاصة من حزب العدالة والتنمية بادروا لجملة من التدابير -التي اعتبرت مشرفة في بداية تسلمه ملف التسيير الحكومية- لعقلنة نفقات ومصاريف الوزارات التي يشرفون عليها من قبيل التخفيض من الميزانية المخصصة للسفريات والفندقة والسفر في القطار، عبر الاحتفاظ كذلك بالمساكن واستعمال سياراتهم الشخصية وغيرها من الاجراءات التي قد تساهم نسبيا في التقليص من نفقات الميزانية، غير أنها ليست كافية إذا ما قورنت بموضوع الرواتب العليا ، التي سيكون من الإيجابي جدا أن يقدم بنكيران بجرأته المعهودة على تناولها واتخاذ ما يلزم في اتجاه تصحيح هذا الاختلال الذي يترك ثغرا كبيرا في ميزانية الدولة، و للأسف ولحد الآن لم نلمس شيئا من هذا ولم نر مؤشرا على اتخاذ إجراءات في هذا السياق. خصوصا في هذه المرحلة التي نلاحظ فيها أن بعض الدول الاوربية التي تعيش أزمة حقيقية تهدد بانهيار الاتحاد الاوربي، والتي عرفت انتخابات واختيار حكومات جديدة خاصة في اسبانيا وبريطانيا التي سارع فيها المسؤولين الحكوميين إلى التقليص من رواتبهم لصالح الميزانية وذلك حتى لا يكلفوا ميزانيات دولهم مبالغ مالية يمكن استثمارها في التقليص من حدة الازمة التي يعيشونها. وكان آخرها فرنسا التي عرفت صعود الاشتراكي هولاند إلى سدة الرئاسة في الانتخابات الأخيرة، هذا الاخير ووفاء بالالتزامات التي قطعها على نفسه في الحملة الانتخابية فقد أعلنت المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية الجديدة عقب انعقاد الجلسة الأولى لمجلس الوزراء ٬ أنه سيتم تخفيض راتب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزراء الحكومة بنسبة 30 في المائة ابتداء من اليوم الخميس. وبموجب مرسوم تمت المصادقة عليه في هذا الإطار ٬ فإن الراتب الخام للرئيس ورئيس الحكومة الفرنسية سينخفض إلى 14 ألف و910 أورو بدل 21 ألف و300 أورو حاليا ٬ في حين سيتم تخفيض رواتب الوزراء إلى 9 آلاف و940 أورو عوض 14 ألف و200 أورو٬ وإلى 9 آلاف و443 أورو بالنسبة لكتاب الدولة الذين كانوا يتقاضون راتبا يقدر ب 13 ألف و490 أورو. هذه الخطوة الجريئة تنم عن وعي عميق واحساس واقعي وعملي بمسالة التضامن التي يجب أن يتمتع بها المسؤول الحكومي والتي تجعل الشعب الذي منح صوته للرئيس الجديد ينخرط في إنجاح برامج الإصلاح المعلنة،ومن جهة أخرى تعزيز جو الثقة بين المواطن والدولة. في المقابل نجد أن المغرب لازال يرصد ميزانية ضخمة لتغطية الأجور العالية وفي ذلك استنزاف حقيقي لموارد مالية يمكن صرفها في تغطية جزء مهم من المال العام لتوفير مناصب شغل إضافية. وعلى سبيل المثال نشير إلى نفقات أعضاء الحكومة ، والتي يفصل فيها الظهير الشريف رقم 331-74-1 الصادر بتاريخ 23 ابريل 1975 المتعلق بوضعية الحكومة وتأليف دواوينهم -وهو بالمناسبة غير منشور في الجريدة الرسمية– يحدد المرتب الشهري الإجمالي لأعضاء الحكومة باستثناء كل أجرة أو تعويض أخر غير منصوص عليهما في هذا الظهير وذلك على الشكل التالي: الوزير الأول-حاليا رئيس الحكومة: 32000 الف درهم- الوزراء000 26ألف درهم كتاب الدولة 16000الف درهم،علاوة على ذلك يتقاضى أعضاء الحكومة تعويضا عن التمثيل يخصص لتغطية بعض المصاريف الخاصة ومجموع التكاليف المرتبطة بمهامهم وتحدد مقاديره الشهرية كما يلي: رئيس الحكومة: 18000 الف درهم- الوزراء 14000 الف درهم- كتاب الدولة 10000 الف درهم،بالإضافة إلى هذه التعويضات يخول أعضاء الحكومة خلال مزاولة مهامهم الحق في تعويض شهري عن السكنى بنسبة شهرية تقدر ب 15000 الف درهم ،ويستفيدون من تعويض شهري إجمالي قدره 5000 الف درهم عن صوائر التأثيث والأواني والأدوات الزجاجية والفضية،ومن جهة اخرى تتكفل الدولة بنفقات الماء والتدفئة والإنارة وتوفير 3سيارات لرئيس الحكومة وسيارتان رهن إشارة الوزراء كما أن أعضاء الحكومة بمناسبة كل تنصيب يتقاضون تعويضا يحدد مبلغه في 20000الف درهم بالنسبة لرئيس الحكومة و10000درهم بالنسبة للوزراء،وعند انتهاء مهامهم يتلقون تعويضا خاصا يعادل مرتب عشرة أشهر. هذه بعض المعطيات المالية الخاصة بأجور وتعويضات أعضاء الحكومة دون التطرق للميزانيات المخصصة لأعضاء دواوين الوزراء والمكلفين بمهمة، ورواتب مدراء المؤسسات والمقاولات العمومية الأخرى والموظفين السامين و البرلمان وغيرها، وهي ميزانية ضخمة تكلف الدولة اعتمادات مالية تجعل المرء يتساءل عن الكفاءة والاستحقاق -التي يتحدث عنها رئيس الحكومة في كل مناسبة- لمثل هذه الأجور مقارنة مع النتائج والمردودية و بالنظر للإكراهات التي تعاني منها الميزانية والتي تتطلب جرأة من رئيس الحكومة في مراجعتها، خصوصا أن الاستاذ عبد الإله بنكيران في كثير من لقاءاته كان يستكثر مثلا على الاساتذة الجامعيين الأجر الذي يتقاضونه بمقابل ما يقدمونه من عمل ويضرب المثال دائما بمصر ومستوى الأجور فيها. وأنا اتساءل في ظل الوضعية الراهنة والخصاص الكبير في موارد الميزانية، ومن اجل إعطاء إشارات إيجابية وتكريسا لنهج التوازن والاعتدال وفي أفق توحيد نظام الأجور وتحقيق نوع من العدالة والمساواة بين موظفي الدولة، ورغبة في بعث إشارات مطمئنة على صدق النوايا وأخذا للعبرة والقدوة من الرئيس الفرنسي الجديد خاصة وأننا تعودنا من المسؤولين الحكوميين تقليد واتباع فرنسا في كل شئ نتمنى أن يقدم رئيس الحكومة على مراجعة نظام الأجور والتعويضات الخاص بوزرائه ومن ثم إعطاء النموذج لباقي المسؤولين في المؤسسات العمومية وسيكون بالفعل رئيس حكومة يستمع لنبض الشارع ويحقق التضامن اللازم مع ملايين الفقراء بوطننا الحبيب، ويمكن أن يدفع بالمحتجين من الأطر العليا في الشارع إلى شيء من الاقتناع بالموقف الحكومي من قضية التشغيل.