لا يختلف اثنان حول أهمية العمل النقابي باعتباره آلية أساسية في النضال السياسي والاجتماعي، وأيضا باعتباره رافعة للاحتجاج المدني المدافع عن قضايا الفئات الاجتماعية المختلفة. غير أن الاتفاق المبدئي حول هذه الأهمية لا يعفينا من التأشير على أن العمل النقابي إذا لم تتوفر شروطه ومفرداته الأساسية فقد يصير إلى عكس الأهداف النبيلة التي يقوم عليها. فالكثير من النقابات لا تعكس تطلعات الفئات الشعبية التي تمثلها، والكثير منها منخرط في عمليات "تسييس" مفرط للعمل النضالي في سياق توازنات السلطة والقوى التمثيلية. وسأسعى هنا، وبشكل مختصر، التعبير عن موقفي المخالف لمختلف المواقف "الرومانسية" تجاه العمل النقابي. والفرضية التي يتأسس عليها البناء الحجاجي هنا، أن الموقف والفعل النقابيين يشترطان قبليا الوعي النقابي المتجذر في صفوف المنتمين والمتعاطفين معه، وهو الأمر الذي سنوضح كيف يغيب في كثير من الحالات عن العديد من التعبيرات النقابية. الحجة الأولى التي تثبت أزمة العمل النقابي عندنا تكمن في ما يسمى في أدبيات "الفكر النقابي" بالتعدد النقابي، الذي هو في أصله من طبيعة العمل النقابي في العديد من التجارب التاريخية ، وهو التعدد الذي يطبعه، في حالتنا المغربية، الانقسام الذي صار بمثابة العائق أمام تماسك مطالب القوى العاملة وصلابة موقفها تجاه القضايا الأساسية، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى التوظيف "السلطوي" تارة، والتوظيف الحزبي أو الفئوي تارة أخرى. ولعل عدم اتفاق المركزيات النقابية على أجندة واضحة في التفاوض مع السلطة ضمن لقاءاتها الحوار الاجتماعي يعكس بوضوح هذه الأزمة. الحجة الثانية تعكسها بشكل واضح أزمة النضال المبدئي لدى العديد من المنضوين تحت لواء العمل النقابي. ذلك أن أيام الإضرابات، التي تقوم بها النقابات، لا تعدو أن تكون، من منظور الملاحظة السوسيولوجية، سوى أيام عطلة بالنسبة للعديد من المنضوين فيها، في حين أن الأصل في يوم الاضطراب أنه يوم احتجاج ونضال وشل لحركة المؤسسات، والتأثير على السير العادي لجميع المرافق العمومية وحتى الخاصة، من أجل التحسيس بقضايا المنتمين إليها. كما أن الإكثار من الإضرابات، كما وكيفا، قد أفقد الإضرابات عنصر الفجائية باعتبارها عنصرا أساسيا في العملية النضالية (فبفعل تعود المجتمع على الإضرابات أصبح المواطن يقول: سأذهب لقضاء أموري الإدارية يوم الخميس لأن يوم الجمعة هناك إضراب). الحجة الثالثة أن النقابات تطالب دائما بالزيادة في الأجور و تتناسى مطلب ربط الأجور بالأسعار، الأمر الذي يعكس، في كثير من الأحيان، ضبابية في سلم أولويات العمل النقابي. فمعلوم أن الحكومات كلما أرغمت على الزيادة في الاجور إلا و أعقبت ذلك بزيادات في أسعار السلع والخدمات، إذ تأخذ بيسارها ما تقدمه بيمينها. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الزيادة في الأجر لاتهم غير الموظفين وهم لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من الشعب المغربي، بينما يكون التأثير في زيادة الأسعار والخدمات على جميع المغاربة. ولذلك نتساءل: أليس من الذكاء النقابي أن تكون الأولوية لمطلب تخفيض الأسعار الذي ينعكس على جميع المواطنين بدل مطلب الرفع من الأجور الذي يهم الموظفين فقط؟! الحجة الرابعة أن العمل النقابي، في بعض الحالات، قد يعكس قيم الفساد المالي والسياسي، من سيادة للمحسوبية والرشوة، مما يضرب في عمق المبدئية النقابية. الحجة الخامسة غياب قانون ينظم الإضراب يدفع الكثير من الموظفين للإضراب مع مختلف النقابات، مما يفيد منطق "توسيع" دائرة الفرصة والاستفادة، وهو ما يكرس أيضا أزمة الانتماء والمبدئية النقابية. فما معنى أن يضرب الموظف مع جميع النقابات؟ ألم يكن من الصائب أن يقتصر إضراب الموظف مع نقابته التي هو منتم إليها، على أساس أن هذه الأخيرة تدعو يوم الإضراب إلى أشكال احتجاجية سواء في الشارع العام أو في أماكن العمل، مع ما يترتب على عدم المشاركة في الاحتجاجات من جزاءات وتدابير كالإنذار والإقصاء؟. أخذا بعين الاعتبار أن الموظف الذي يضرب مع غير نقابته عليه أن يتحمل مسؤوليته ويتم الاقتطاع من أجره، مما يعيد الاعتبار لمفاهيم المسؤولية والالتزام النقابيين. فضلا عن أنه لا يعقل أن يستمر المغرب في حالة الاستثناء المتمثلة في عدم الاقتطاع من الأجر في حالة الإضراب، فجميع الدول الديمقراطية يرتبط الأجر فيها بالعمل، وعلى كل من يقرر الإضراب أن يتحمل مسؤوليته المالية والمعنوية في قراره، في الوقت الذي تتكفل فيه المركزية، التي يضرب العامل بناء على دعوتها، بتغطية يوم أو أيام عمله التي اقتطعت من راتبه. وهنا ستتحقق مجموعة من الأهداف وأهمها إعادة الاعتبار للعمل النقابي من خلال تشجيع الانخراط في النقابات مع رفع المساهمة المادية من أجل ذلك، مما يسهم في إغناء ميزانية النقابات من جهة، و إعادة الاعتبار لحق الإضراب من جهة ثانية، فالمركزيات ستفكر مليا قبل اتخاذ خطوة الإضراب ، على أساس أن ذلك سيكلف ميزانيتها غاليا كونها ستعوض الاقتطاعات التي سيتعرض له راتب المضرب عن العمل والمنتمي لصفوفها. تلك إذن، بعض الملاحظات الأولية والتساؤلات حول أزمة العمل النقابي في بلادنا والتي قد لا يتفق معها العديد من "النقابيين". وهي فرصة لتأسيس نقاش حقيقي حول واقع النضال النقابي ببلادنا بما يسهم في تقويته كمساهم في قوة ونضج المؤسسات المدنية والحركات الاحتجاجية ببلادنا في ظل هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم، وليس أن يتحول إلى "عائق" في مسيرة النضال الجماهيري القائم على الالتزام النضالي والوضوح التصوري والمسؤولية المبدئية. فالمراجعة النقدية مقدمة لازمة لتحقيق هذا المقصد، وذلك مبتغانا من هذا القول المختصر. *مهتم بالعمل النقابي و باحث في العلوم السياسية