كثيرة هي المعارك الضارية التي يقيمها العلمانيون ضد دعاة الإسلام ورموزه، بل ما أكثر ما تكون معاركهم هذه حملات لمحاربة الدعاة إلى التمسك بالشريعة الإسلامية، ومحاصرة ما تبقى من مظاهر الإسلام في بلادنا، بحيث لا يتركون فرصة تمر إلا وأكثروا العويل والضجيج في محاولة دنيئة وخسيسة للتشهير بالعلماء والدعاة والإسلاميين. ويطيب لي قبل الحديث عن آخر هذه المعارك أن أذكر بأبرزها، والتي استهدفت تضخيم تفسير الدكتور المغراوي لآية عِدّة المرأة التي لا تحيض أو لم تبلغ المحيض، فتنادوا حينها من كل كهف وجحر، واجتمعوا على المكر بالليل والنهار، وبشتى الوسائل والحيل، حتى استجاب لهم الذين يهمهم استكمال عملية تعطيل منابر الخطاب الإسلامي من أصحاب النفوذ والسلطة ذوي التوجه العلماني، فتمت مصادرة حقوق الجمعيات التي تعنى بتحفيظ القرآن الكريم ونشر السنة النبوية الشريفة. فأسفرت معركة المكر العلماني هذه عن إغلاق قرابة السبعين دارا للقرآن والجمعيات المؤطرة لها. أما آخر معاركهم فهي البيان الذي صدر عن حركة "اليقظة المواطنة" تحت عنوان: "تصريحات المغراوي منافية لأسس الدولة الديمقراطية ولثوابت الدستور"؛ والذي صدر بعد أن طالب الدكتور المغراوي حكومة بنكيران بنصرة الإسلام وقضاياه إن هو أراد أن يبقى حزبه على رأس الحكومة لأطول مدة، فعبر عنها بجملة مشهورة تفيد المبالغة ولا يقصد معناها وهي "إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها" فادعوا أن الدكتور المغراوي يورث الحكم لحكومة بنكيران. وسنجمل التعليق عن البيان في الملاحظتين التاليتين: الملاحظة الأولى: حول تصور أصحاب اليقظة محرري البيان لأسس الدولة الديمقراطية وثوابت الدستور. فقد ذكر البيان عبارة "أسس الدولة الديمقراطية وثوابت الدستور" ثلاث مرات، فهل يحترم العلمانيون الإسلام ما دام الدستور يعتبره من الثوابت وعليه تبنى مؤسسة إمارة المؤمنين ومراسيم البيعة؟ أم أنه مجرد إلزام للخصوم وقراءة مؤدلجة لمضامينه؟ فتعالوا بنا نلقي نظرة على موقف أصحاب اليقظة المواطنة من الإسلام. فأحمد عصيد أبرز مؤسسي حركة "اليقظة المواطنة" يعتبر الدين إذا تجاوز صبغته الفردية مزعجا للبشرية ومصدر ضرر بالغ إذ يتساءل في إحدى مقالاته في معرض حديثه عن الإسلام: "هل يمكن لأي دين أن يتجاوز اليوم حدود الإشباع الروحي والاعتقاد الباطني الشخصي والفردي دون أن يكون مصدر ضرر بالغ وإزعاج للبشرية وإهانة لذكائها؟" أحمد عصيد/أسئلة الإسلام الصعبة الجريدة الأولى عدد 506. فأين ادعاء العلمانيين المتكرر بأن العلمانية تحمي الدين؟ وأية حماية للإسلام تبقى مثلا إذا عطلنا العمل بأحكام الشريعة الإسلامية في البيع والشراء والقضاء والزواج والميراث والحكم، وأبقينا عليه مجرد اعتقاد شخصي وفردي، لا تتجاوز ممارسته الجماعية جدران المساجد، وإن خرج لا يسمح له إلا بالذهاب إلا المقابر لتشييع الجنائز، ثم يرجع مهرولا كي لا يزعج البشرية بأحكامه المانعة للربا والقمار ومعاقبة اللواطيين، وكي لا تؤذي النساء المسلمات بنقابهن وحجابهن الشرعي والرجال بلحاهم وجلابيبهم عيون السياح، فيهربوا قافلين إلى بلدانهم فيصاب الاقتصاد الوطني بأزمة -حسب التهويل العلماني طبعا-. إذًا، فالحديث عن الثوابت عند العلمانيين لا يشمل الدين إلا كمعطى ثقافي وموروث تاريخي اجتماعي، يجب أن يبقى من الناحية العملية مختزلا في طقوس لا يسمح بممارستها إلا بشكل لا يتعارض بحال مع مفهوم الدولة الديمقراطية الحداثية، أي أن يكون الدين/الإسلام شكليا لا يزاحم العلمانية في ميادين التدافعات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. إذ هذا هو الأساس الذي تنبني عليه الدولة الديمقراطية في نظر علمانيي "اليقظة" وهو معنى فصل الدين عن الدولة الذي يقتضي عدم السماح للعلماء أو الدعاة بممارسة أي نشاط أو دعوة تعارض مفهوم الدولة الديمقراطية الحداثية، ومن ثمة منع كل خطاب يتحرش بهذا المفهوم المقدس لديهم للدولة. عميد العلمانيين "اليقظين" هذا لم يكتف بازدراء الإسلام بل تمادى إلى الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بتصريحه أن عصره صلى الله عليه وسلم لم يكن عصرا ذهبيا بل عرف حروبا فظيعة واقتتالا شنيعا، وذلك عند قوله: "اللحظات التي تُصوَّر على أنها "عصر ذهبي" للإسلام والتي هي مرحلة النبوة والخلفاء الراشدين كانت أيضا مرحلة حروب فظيعة واقتتال شنيع وأحداث مهولة ولم تكن مرحلة سلم وحضارة وازدهار". أسئلة الإسلام الصعبة/عصيد الجريدة الأولى عدد 506. ثم يستمر تماديه في النيل من دين المغاربة عندما يصرح بأن مشكل معتنقي الإسلام كامن في نصوص الدين الإسلامي نفسها طالبا منهم: "الاعتراف بأن المشكل ليس في المسلمين فقط بل يكمن في صميم الدين الإسلامي وبين ثنايا نصوصه". المرجع نفسه. إننا لا نعجب من صفاقة العلمانيين واعتدائهم السافر والمستفز للمغاربة الأحرار، فهم مجرد ببغاوات يضاهون قول المستشرقين من أعداء الإسلام ولا يأتون بجديد، لكن العجب من المسؤولين على المؤسسات الدينية وخاصة الدستورية كيف لا يجرؤون على إصدار ولو مجرد بيان يدينون فيه هذا الهجوم القذر على مقدسات المغاربة وعقائدهم؟ وكيف لا توجه للعلمانيين تهمة المساس بثوابت الدستور؟ الملاحظة الثانية: التترس بإمارة المؤمنين والمؤسسات الدستورية لتكميم الأفواه واضطهاد العلماء والدعاة. جاء في البيان: "وإذا كنا لا نحتاج للتذكير بأن الدستور في الفصل السابع يصرح بأنه "لا يجوز أن تؤسس الأحزاب السياسية على أساس ديني... ولا يجوز أن يكون هدفها المساس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي، أو المبادئ الدستورية، أو الأسس الديمقراطية..." فإن الخلط المقصود في هذه الخرجات -وأخرى- بين تدبير الشأن الحكومي والطابع الديني للدولة يعتبر ضربا من التحالف بين الحزب الذي يقود الحكومة وهذه التيارات في لعبة لتوزيع الأدوار، لعل هذه الخرجة واحدة من سيناريوهاتها. وهو ما يعتبر مسا مباشرا بالمبادئ الدستورية وبأسس الدولة الديمقراطية، لأن المجال الديني من اختصاص إمارة المؤمنين (الفصل 41). فأول ما يظهر لقارئ البيان أن التقارب والتعاون بين الفصائل الإسلامية أصاب "اليقظين" بالغيظ الشديد حيث لم يستطع الذين صاغوا منهم نص البيان أن يتجنبوا الوقوع في لحن القول الذي أبان عما تخفيه صدورهم من الكراهية والحقد ورغبات الاستئصال. فمتى كان عصيد والرويسي ومن على شاكلتهما من العلمانيين يعترفون بإمارة المؤمنين؟ أليس من العار وانعدام النزاهة لدى أصحاب البيان أن يعترفوا بما يناقض مذهبهم، ويدافعوا عن الملكية وإمارة المؤمنين وهم من دعاة إسقاطهما؟ فهل أصبحت علمانيتهم طيعة بالقدر الذي تقبل تصنيف الناس إلى مؤمنين لهم أميرهم، وكفار خارجين عن إمارة المؤمنين؟ أم هو الاستغلال الظرفي لوضع يجب التعامل معه حتى تحين فرصة القضاء عليه؟ وكيف يرضى أدعياء الحداثة لأنفسهم أن يدافعوا عن سلب حرية التعبير لدوافع إيديولوجية؟ ولماذا يسمحون لأنفسهم بنقد الدين وشريعته، ورمي الإسلام والمسلمين بكل نقيصة ويعتبرون ذلك من صميم حرية التعبير ومن باب الدفع بالبلاد إلى مراقي الحداثة والتنوير، بينما ينتهكون هذا الحق عندما يكون المستفيد غرماؤهم من الإسلاميين والدعاة والعلماء؟ ثم متى كان المجال الديني محتكرا من طرف الحكام والملوك في المغرب؟ وهل يفهم من الفصل 41 من الدستور أن الكلام في الدين نصرة وتعليما ودعوة وردا على الطاعنين فيه محرم على المغاربة لأنه من اختصاص إمارة المؤمنين؟ إن كل هذه الترهات هي من قبيل استغلال مضامين دستورية لتكميم أفواه العلماء والدعاة والإسلاميين وإرهابهم بالسلطة وإمارة المؤمنين حتى يتم عزل الدين في المسجد في محاولة منهم لتهيئة التربة والمناخ المغربيين من أجل استنبات مشروع علماني متطرف لا يعترف بالإسلام ولا بالإيمان ولا بالمؤمنين ولا بأميرهم. ألم يصرح عصيد بأن: "..استفراد السلطة بالدين كأحد وسائل التحكم والإخضاع، حيث لا تسمح السلطة في هذه الحالة لأي طرف آخر بفعل ذلك (ما عدا حلفائها الطيعين)، وتبيحه لنفسها معتبرة ذلك من عوامل سيطرتها على المجتمع عبر إشاعة قيم البيعة والطاعة والولاء التقليدية". عصيد/كيف يصبح الدين من عوامل الإستبداد؟ الأحداث المغربية عدد 4403. فلماذا التناقض والكذب على المغاربة والخيانة للقراء؟ فهل هذا هو نضال الحداثيين والمتنورين؟ لكن ربما كانت هذه هي أخلاق الديمقراطيين الجدد. ففي زمانهم قد ترادف اليقظة الحقد وتطابق المواطنة الاستئصال. * مدير جريدة السبيل.