من يتأمل مهنة المحاماة من الخارج يتكون لديه انطباع راسخ بأنها أكثر المهن المساعدة للقضاء تنظيما وحضورا. ومن يعرف خبايا للأمور ويعيشها يوميا، يتحسر لما آلت إليه وضعية هذه المهنة العريقة، التي أعطت وما تزال نساء ورجالا حملوا أعبائها بكل أمانة، وناضلوا من أجل ترسيخ وتزكية الأعراف والتقاليد النبيلة التي أسست عليها مند القدم. فمبادئ الاستقلال والتجرد والنزاهة والكرامة والشرف وما تقتضيه الأخلاق الحميدة، خصال يشب عليها المحامي ويموت، منذ أن وجد من يرتدي البذلة السوداء ليدافع عن حقوق الناس وحرياتهم. ولأن الأنظمة الديمقراطية تؤمن بسيادة القانون ومساواة الجميع أمامه، ولزوم الامتثال له، فإن دور المحاماة في تعزيز هذه السيادة وتحقيق الأمن القضائي لا محيد عنه، وهي بذلك تساهم في تحقيق العدالة من موقع متميز. فهل مهنة المحاماة في مستوى هذه التحديات العظمى، وهل هي مؤهلة لأداء مهمتها على أحسن وجه ؟ إن عدد المنتمين للمهنة يفوق حاليا العشرة آلاف، وهو عدد يفوق مرتين ونصف عدد القضاة، وأكثر من عشر مرات عدد الموثقين أو العدول. إلا أن الإقبال الكبير على المهنة الذي نسجله منذ ثمانينات القرن الماضي لم يعد عليها بالنفع، بل كان سببا في تدهور مستواها معرفة أخلاقا، واندثار كل المبادئ التي بنيت عليها مند القدم، لدرجة لم يصبح معها السكوت ممكنا. ونظرا لضيق المجال، فإننا نلخص مكامن الخلل في ثلاث نقط أساسية، وهي التكوين والتخليق ومظاهر التسيب التي تطبع المهنة. - مشكل التكوين: لما كانت أعداد المحامين تحسب بالعشرات في كل هيئة، كان من الممكن الاقتصار على ندوات التمرين التي تشرف عليها الهيئة، ويؤطرها قدماء المحامون لفائدة المبتدئين من زملائهم. ومع تعدد أفواج المتمرنين لم تعد ندوات التمرين كافية، وتعقدت المعادلة مع بروز قوانين جد متطورة كقوانين الأعمال والقوانين ذات الصبغة المالية، مدنية كانت أم جنائية، والقوانين ذات الصلة بالتطور التكنولوجي و الإلكتروني واكتساحه لميدان المعاملات التجارية، ودخول مفاهيم جديدة فرضها التطور الهائل الذي يعرفه مجال الحقوق والحريات. فأصبح المحامي غير مسلح بما فيه الكفاية لمواجهة التحول السريع الذي يعرفه المجال التشريعي على جميع المستويات، ولا أدل على ذلك من جديد مدونة الأسرة، والمسطرة الجنائية والقانون الجنائي، ومدونة التجارة، والتعديلات التي أدخلت على قانون الالتزامات والعقود الذي بقي محصنا من كل تغيير مهم طيلة تسعة عقود كاملة. هذه الوضعية أخذها بعين الاعتبار مشرع الظهير الشريف رقم 162-93-1 بمثابة قانون بتنظيم مهنة المحاماة الذي صدر في 10 شتنبر 1993، حيث تم التنصيص في المادة 6 منه على أن شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة تمنح من طرف معاهد جهوية للتكوين، تحدت وتسير وفق الشروط المحددة بمرسوم. إلا أن إحداث هذه المعاهد الجهوية بقي حبرا على ورق حتى يومه رغم صدور نصين تشريعين، الأول في 14 أكتوبر 1996 غير وتمم ظهير 10 شتنبر 1993 ( القانون 96-39 ) ، والثاني وهو القانون 28-08 الذي وضع نظاما جديدا لمهنة المحاماة ( الجريدة الرسمية عدد 5680 بتاريخ 6 نونبر 2008). عشرون سنة مرت إذن من دون أن يعنى أحد بضرورة تكوين المحامي وتهيئيه لتحمل أعباء المهنة. ولعل موعد الخروج من هذا النفق اقترب بعد أن أفصح السيد وزير العدل والحريات خلال العرض الذي تقدم به أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب يوم 28 مارس المنصرم عن مخطط الوزارة للإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة، والذي خصص النقطة 33 من باب" المبادرات الإستراتيجية المهيكلة" لمشروع مرسوم تطبيق المادة 6 من قانون المحاماة بأحداث مؤسسة تكوين المحامين خلال سنة 2012. نتمنى إذن أن تعرف السنة الحالية تحقيق هذا الحلم القديم، وأن تفتح مراكز التكوين الجهوية وتعمل بما يجب من فعالية ونجاعة للرفع من المستوى المهني للمحامي. - مشكل التخليق: لقد اهتز الرأي العام الوطني أكثر مرة لقضايا تطاول فيها محامون على ودائع زبنائهم، بأن بددوا أموالا كانوا مؤتمنين عليها وخانوا الأمانة الموكولة إليهم والثقة الموضوعة فيهم. إلى أن تدخل المشرع من خلال المادة 57 من القانون 28-08 المنظم لمهنة المحاماة الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1-08-101 المؤرخ في 20 أكتوبر 2008 ، والتي بمقتضاها يؤسس على صعيد كل هيئة حساب ودائع وأدائات المحامي ، يديره مجلس هذه الهيئة ، وتودع به لزوما المبالغ المسلمة للمحامين المنتمين لهذه الهيئة على سبيل الوديعة. وتتم بواسطته كل الأدائات المهنية التي يقوم بها المحامي لفائدة موكليه أو الغير. كما تودع بهذا الحساب كل المبالغ العائدة لموكلي المحامي والناتجة عن تنفيذ المقررات القضائية من لذن مصالح التنفيذ ، والمفوضين القضائيين ، والإدارات العمومية وشبه العمومية، والمؤسسات والشركات. ولأن عرف تأسيس حساب الودائع هذا بعض الاخلالات على مستوى بعض الهيئات، الأمر الذي يستدعى اعتماد نظام موحد على الصعيد الوطني، فإن هذه التجربة، المنقولة على النظام الفرنسي، قد ساهمت بقسط كبير في الحد من ظاهرة التلاعب في أموال الناس، وتخليق المهنة وتحسين صورتها داخل المجتمع. ويبقى على الأوساط المعنية أن تتصدى لباقي جوانب الانحراف الأخلاقي التي تعاني منها المهنة، بتفعيل مساطر التأديب المنصوص عليها في قانون المهنة ، وأن يتحمل كل نقيب مسؤولياته كاملة إزاء المهنة ،بمعالجة الشكايات المحالة على هيئته بما يلزم من سرعة وتجرد، وتحريك المتابعة التأديبية كلما اقتضى الحال ذلك، وتعليل قرار الحفظ بما يلزم من مسؤولية وجرأة عوض ترك الأمور تؤول إلى قرار ضمني للحفظ ، رعاية لمصالح الناس ، ولسمعة وشرف المهنة . - مشكل التسيب: لقد اخترت هذه العبارة عن قصد لإثارة الانتباه لما تخلفه التحالفات الانتخابية من أضرار بمصالح المهنة ، إذ تهيمن المصالح الفئوية والذاتية، وتعقد التحالفات ، وتعطى الوعود للحصول على الأصوات كلما حلت مواعيد انتخاب أجهزة الهيئة. ولمدة ثلاث سنوات يعتبر بعض النقباء وبعض أعضاء مجالس الهيئات أنفسهم مدينون لمن ساندوهم خلال الحملة الانتخابية، فتتكون ولاءات يستغلها البعض لقضاء حاجاتهم تحت المظلة التي هيئوها لأنفسهم، فتهدر حقوق الناس، وتضرب مصالح المهنة في العمق. وعلينا أن نراجع أنفسنا وطرق تدبير أمورنا المهنية، قبل أن يتدخل المشرع مرة أخرى لمعالجة الوضع. *محامي بهيئة الدارالبيضاء ونائب رئيس فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب