لا مندوحة في القول إن رقص المغاربة مع الإسبان قديم جدا، وفهمه معقد ولا يمكن الميل فيه إلى تقييم معين. إن طبيعة العلاقات المغربية الإسبانية مسألة تأثير وتأثر، تخضع دائما للظروف والسياقات الجيو-سياسية والجيو-استراتيجية والسياق الدولي العام الذي يلقي بظلاله على قرارات حكام البلدين. لعل ما ذكرناه سابقا مجرد تمهيد للقول إن القرب الجغرافي والتاريخ المشترك بحلوه ومره يضفيان جاذية خاصة تستدعي الحوار دائما، سواء أكان في حالات الحرب أم في حالات السلم. لقد كان هناك دائما من يقرب وجهات النظر بين المملكتين، لكن في الوقت نفسه كان هناك أيضا، على النقيض من ذلك، من يشعل نار الفتنة. ففي الأيام الأخيرة أقدم بابلو اغليسياس، زعيم حزب بوديموس الإسباني، في خرجة غير محسوبة العواقب، عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، ليطالب رغم جهله بالتاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا وعلم الأعراق...، بإجراء استفتاء في الصحراء المغربية من أجل تقرير مصير الشعب الصحراوي، متناسيا أن هذا الإجراء أصبح حلا غير واقعي، ولم يكن يوما كذلك، على اعتبار أن الصحراويين عنصر أساسي من نسيج مكونات الشعب المغربي وثقافته. بل إنهم مغاربة ووطنيون حتى النخاع، لا سيما منهم الوحدويون وهم الأكثرية، أكثر مما هم عليه الكطلان الإسبان، الأكثر تطرفا في موقفهم الانفصالي عن العاصمة الإسبانية مدريد. لكن يبقى السؤال هل حكومة الائتلاف الإسبانية التي هو نائب رئيسها تتفق عمليا معه على الأرض، أم هو مجرد رأي شخصي قاصر لا يعبر إلا عما يفكر به صاحبنا؟ على خط متصل بكلامنا، في المضمار ذاته، ووفقا للدينامية الإيجابية المتسارعة لسلسلة النجاحات الباهرة في ملف الصحراء المغربية، نجد أن الدبلوماسية المغربية التي حققت نجاحا ملحوظا قبل وبعد تدخل الجيش المغربي لتأمين معبر الكركارات، ما فتئت تواصل نجاحها في إقناع دول عديدة من العالم كانت إلى يوم قريب آخر القلاع والحصون التي تحتضن الجبهة الانفصالية وتتعاطف معها، من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي والإعلامي لها، كما هو الحال مع إسبانيا التي أدركت أخيرا أن المراهنة على البوليساريو تثقل كاهلها منذ عقود خلت، ولا يأتي من جانبهم إلاّ النّحس والخسائر الفادحة. وهكذا فالموقف الإسباني صار متناغما تماما مع الموقف المغربي بإجراءات عملية للغاية، تُضيّق الخناق على الجبهة الانفصالية في الداخل والخارج. فخارجيا، وفي الإطار نفسه، فقد تكللت العلاقات المغربية الإسبانية بعقد شراكات جديدة والدخول في استثمارات متجددة وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية والثقافية التي تشمل الصحراء المغربية، لعل آخرها ما سيعقد في 17 من شهر دجنبر ضمن ما يعرف بالاجتماعات عالية المستوى (RAN) الدورية، التي ترسم الخطوط الاقتصادية العريضة وكذا خطط التعاون والتنسيق الأمني والتقارب الثقافي والإنساني بين الشعبين. هذه الاجتماعات انطلقت منذ عهد فيليبي غونزاليس، رئيس الحكومة الإسبانية السابق سنة 1993، وتوقفت منذ 2015 في عهد ماريانو راخوي، نتيجة الظروف الصعبة التي كانت تعصف بالمشهد السياسي الإسباني وما عرفته البلاد من أضرار جسيمة بسبب فيروس كورونا الذي فتك بالبلاد وشل حركته. هذه القمة التي تعرف نسختها الثانية عشرة، سيترأسها هذه المرة رئيس حكومة المغرب، السيد سعد الدين العثماني، وستعرف حضور وفد إسباني على رأسه السيد رئيس حكومة إسبانيا بيدرو سانشيز ووزيرة الخارجية لايا أرانتشا وعدة وزراء ورجال أعمال. وقد علمنا من وكالات الأخبار الإسبانية، منها "EFE"، أن الهدف من هذه اللقاءات هو التشاور والتباحث في سبل مواجهة الهجرة غير الشرعية نحو جزر الكناري، ومناقشة إعادة النظر في الدعم الهزيل وغير الكافي الممنوح من الاتحاد الأوروبي للدول التي تتصدى للهجرة غير الشرعية، والتي من ضمنها المغرب، لكي تستطيع حماية سواحل أوروبا من موجات هذا النوع من الهجرة التي تهدد مستقبلها. كما يتضمن جدول أعمال هذه اللقاءات فرصة عقد صفقات واستثمارات جديدة بين الدولة المغربية وإسبانيا التي سيكون على رأسها انطونيو غاراميندي، رئيس أعلى هيئة اقتصادية في إسبانيا المعروفة ب "الكونفدرالية الإسبانية لمنظمات الشركات" (CEOE). أما في شأنها الداخلي، فقد كانت لها مواقف لم نعهدها من قبل تؤكد أن إسبانيا لم تعد تقيم أي وزن للجبهة الانفصالية وتقوم فعليا بتهميشها، بل وإلغائها على نحو واضح وصريح للغاية. ولنا خير مثال على ذلك في القرار الرسمي لوزارة الشؤون الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون، الصادر في يوم 13 من شهر فبراير المنصرم، الذي جاء على يد قنصلها في الرباط، السيدة سيلسا نونيو جارسيا، التي أصدرت فيه مذكرة بعثتها إلى جميع القنصليات في المغرب، تخبر كل الصحراويين الحاملين للجوازات الإسبانية أو أوراق الإقامة الذين كانوا يقضون مصالحهم، من إرساليات وعمليات استقبال لهذه الأخيرة، ومن مصادقات وتوقيعات للوثائق، وكذا طلبات تأشيرات شينغن، وكل الوثائق ذات الطابع الإداري في ملحقة السفارة في العيون، المعروفة ب "كاسا إسبانيا"، قد تم وقف نشاطها وإغلاقها على الفور وبشكل نهائي، وتأمر كل من له مصلحة في هذه الإدارة بالالتحاق بسفارة إسبانيا بالرباط. إن هذا القرار سقط كالصاعقة على انفصاليي الداخل والخارج المستترين بين 12000 صحراوي مغربي من حاملي الجنسية الإسبانية الذين-عهدوا هذا المرفق الإداري طيلة أربعين سنة ونيف-عليهم التوجه الآن لعاصمة البلاد لقضاء أغراضهم الإدارية. وتجب الإشارة إلى أن هذا القرار تم اتخاذه بعد سلسلة اجتماعات سابقة جمعت وزيرة الشؤون الخارجية الإسبانية أرانتشا كونزاليس لايا ووزير الداخلية فيرناندو غرانديمارلاسكا مع قناصل إسبانيا في المغرب في الإقامة الخاصة بالسفير الإسباني بالرباط بتاريخ 24 يناير 2020. هذا الإجراء يراه المختصون أكبر اعتراف مباشر من إسبانيا أمام المجتمع الدولي بسيادة المغرب على صحرائه، ويضع البوليساريو في موقف لا تحسد عليه. توالت الأمور لكنها لم تقف عند هذا الحد، بل تم بعث رسائل أخرى مفادها أن إسبانيا تقف بجانب المغرب وتسانده في أطروحته، وهو ما ظهر جليا عندما شاركت وزيرة الشؤون الخارجية والاتحاد الاوروبي والتعاون، أرانتشا كونزاليس لايا، صورة في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، بتاريخ 25 مايو 2020، بهدف الاحتفال بيوم إفريقيا، تضمّنت في إطارها كل أعلام الدول الإفريقية الأعضاء في الاتحاد الإفريقي باستثناء علم الجمهورية الإلكترونية العربية الديمقراطية الصحراوية الوهمية. والأمر لم يُختتم هنا، بل امتد إلى المحكمة الإسبانية العليا التي منعت منذ شهر يونيو الفائت وجود أعلام البوليساريو بجانب علم إسبانيا أو أي دولة أخرى، سواء بشكل عرضي أو دائم في أي مؤسسة حكومية أو غيرها. ووجهت المحكمة العليا أيضا صفعة شديدة في وجه آمال البوليساريو المولودين في الصحراء المغربية، المستعمرة الإسبانية السابقة، بإلغاء القانون الذي يستند إلى المرسوم الملكي الإسباني رقم 7619/2258، بتاريخ 10 أغسطس، اعتمادا على المادة 17.1c من القانون المدني الإسباني المنظم لجواز إعطاء الجنسية الإسبانية التي لا يستوفي الصحراويون شروطها. وهكذا بالتالي، فقد قضت الجلسة العامة للغرفة المدنية للمحكمة العليا (بتاريخ: 29- 05- 2020) في قضية فحواها أن المولودين في الصحراء الغربية قبل عام 1975 لا يعطى لهم الحق في الحصول على الجنسية كإسبانيين أصليين، حيث لا يمكن اعتبار أنها كانت أرضاً وطنية خلال الاستعمار، فكان هذا قرارا قطعيا منها بشكل نهائي، يمنع إعطاء حق الجنسية للصحراويين. الحقّ أنّ الصّفعات لم تنته هنا، ولعلّ رقصة الديك المذبوح التي تظهرها البوليساريو هنا وهناك لم تأت من فراغ لأنّ الحد لم يوضع لها تماما مع أنها تستدعيه لتقف عنده؛ إذ ما زالت مستمرة كما فعلت في الاقتحام الأخير لرابطة جمعيات دعم الشعب الصحراوي المزعومة لقنصلية المغرب في مدينة فالنسيا الإسبانية التي حاول مرتزقوها إزالة العلم المغربي فيها وتنصيب علم الجمهورية الوهمية بدله، كاحتجاج كسيح على تحرير المغرب لمعبر الكركرات وطردهم منه. وهو ما تفاعلت إسبانيا إيجابا معه لصالح المغرب، في ردّها الناري الذي كان بتاريخ 15 نونبر 2020، عبر بيان عنيف اللهجة من لدن وزارة الشؤون الخارجية، حيث ندد بمثل هذه التصرفات المستهجنة وشجب هجماتها المستنكرة التي تغتصب وتخرق كل الأعراف والمواثيق الجاري بها العمل، ثم متابعتهم قضائيا، ما قضى على ما تبقى لهم من ود واعتماد لدى الإسبان. لا شك أن بين المغرب وإسبانيا مشاكل تاريخية لم تحل بعد كالمدن والثغور المحتلة منذ قرون، والمطالبة بها قائمة لم ولن تنتهي حتى يتم استرجاعها، لكن ومع الظروف الداخلية الصعبة التي يعيشها البلدان تم تجميدها من أجل الصالح العام. فالجاران اليوم قررا تكثيف الجهود وتوحيد الرؤى والاستثمار الكبير وتثبيت مزيد من الثقة بينهما، غير أن العبء الأكبر يقع على إسبانيا التي عليها السعي إلى تحويل خطاب الدفاع عن المغرب اقتصاديا بتسهيل عبور منتجاته إلى الاتحاد الأوروبي، بدل منعها وعرقلتها. كما أنها مدعوة إلى الاجتهاد والبرهنة على رسائل المحبة والرغبة في الاهتمام به من خلال تسليط الضوء على الحضارة المغربية وعقلية المغاربة وقيمهم وأخلاقهم وتاريخهم المشترك، عوض التعتيم المستمر والممنهج في وسائل الإعلام والغياب التام لصورته الإيجابية في المقررات المدرسية والتعليمية الإسبانية. *باحث مغربي