قامت عصابات البوليساريو هذا الأسبوع بالعبث بمقر قنصلية المغرب بمدينة فالينسيا Valencia الإسبانية، بشكل مستفز وصارخ، كما قامت بتمريغ العلم الوطني في التراب، بعد اقتلاعه من أعلى بناية القنصلية، وتعويضه ب"علم" المرتزقة، في تحد سافر لحرمة هذه المؤسسة الدبلوماسية، وعبث بقداسة العلم الوطني، ولامبالاة بشروط الإقامة فوق تراب بلد أجنبي؛ وذلك كرد فعل متهور وغير محسوب النتائج من طرفها، في أعقاب عملية التدخل والتمشيط والإخلاء الناجحة التي نفذتها القوات المسلحة الملكية للمعبر الحدودي الكركرات، من فلول المرتزقة وأذنابهم، مع إقامة حزام آمن، يضمن سلامة وانسيابية عبور الأشخاص والسلع والعربات من وإلى بلدان غرب إفريقيا والمغرب. حدث كل هذا دون أن يوجد في المكان رجل أمن إسباني واحد بإمكانه أن يمنع هذه الإساءة الهمجية، التي لحقت بمقر دبلوماسي له حرمته المتعارف عليها دوليا، ومن المفروض أن يكون محروسا ومحميا على الدوام من طرف أمن الدولة المستضيفة؛ فالقنصلية كانت مجردة وعارية تماما من كل حماية أمنية، ما يطرح سؤالا جوهريا بشأن هذه اللامبالاة الإسبانية المطلقة بأمن مقر بعثة دبلوماسية، وسلامة العاملين فيها والمترددين عليها، وما إن كان ذلك يُعد تواطؤا مفضوحا من السلطات الإسبانية، التي عودتنا على إطلاق يد المرتزقة كي يعيثوا فسادا كلما تعلق الأمر بالتشويش على المصالح الوطنية فوق أراضيها؛ ناهيك عن تمكينهم من المساعدات المختلفة ووسائل العمل والتحرك للإضرار بهذه المصالح. والحقيقة أنه لا يمكن فهم هذا التقاعس الإسباني المشبوه والمُريب في حماية مقر القنصلية المغربية سوى بكونه نوعا من التواطؤ الفاضح مع البوليساريو، والتغاضي عن أفعالهم البلطجية؛ وذلك بالنظر إلى أن مقررات القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961، التي تعد أولى الوثائق الدولية المقننة بشكل شامل لقواعد حماية البعثات الدبلوماسية، وكذا اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لسنة 1963، واضحة في هذا الباب، وتلزمها بتوفير الحماية الكاملة للمقر المذكور؛ غير أنها لم تبال بذلك ولم تهتم، ليس لأن هذه الاعتبارات غائبة عن أذهان المسؤولين الإسبان، ولكن لأن هناك نوايا مبيتة لديهم بتعمد إحراج المغرب، والإمعان في التشويش على قضيته الوطنية.. ولا عجب، فقد اعتادوا استخدام هذه الورقة متى ما استهدفوا الضغط على بلادنا، والرغبة في انتزاع تنازلات أو مكاسب معينة منها، في مختلف جوانب العلاقات المتشابكة معهم. لقد ذكرني هذا الحاث في المقابل بالإجراءات الأمنية الصارمة والمبالغ فيها التي يخصصها المغرب، لا أقول لمقرات البعثات الدبلوماسية كالسفارات والقنصليات فقط، فمثل هذه المؤسسات تحظى بحماية أمنية بالغة، قد تصل أحيانا إلى إغلاق شوارع أو ممرات راجلين بكاملها أمام المواطنين، وفي أسوأ الحالات إحاطتها بحواجز معدنية واقية، وربما أسلاكا شائكة، ناهيك عن المرابطة الدائمة لرجال الأمن في محيطها وأمام بواباتها؛ ولكن يُخصِص هذه الإجراءات الأمنية حتى للمعاهد اللغوية والمراكز الثقافية العادية لبلدان بعينها، وخاصة منها فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة وكندا.. مع أن هذه المؤسسات الثقافية والتعليمية ليست في الأصل بعثات دبلوماسية، حتى يتم تخصيصها بمثل هذه الحراسة والحماية الدائمة ليل نهار. وهكذا فإن من الأمور المثيرة حقا في تعاطي المغرب مع أمن مؤسسات هذه البلدان تلك المبالغة في توفير الحماية لمقرات معاهد لغوية أو ثقافية أو تعليمية عادية، كالمعهد الفرنسي Institut français مثلا، أو المركز اللغوي الأمريكي American Language Center، أو المعهد الإسباني Instituto Español.. حيثما وجدت، وفي أي مدينة من مدن البلاد، ومهما كان عدد هذه المقرات وملحقاتها، حيث نجد رجال أمن مغاربة مرابطين أمام بواباتها على الدوام، في سيارات شرطة أو داخل مراكز حراسة قارة، على مدار اليوم بكامله، ليله ونهاره، أثناء أوقات العمل وخلال أيام العطل، صيفا وشتاء؛ علما أن عملية إحصاء بسيطة تكشف حجم الكلفة الفاحشة التي تكبدها هذه الإجراءات الأمنية للبلاد، والجيش العرمرم من رجال الأمن الذين تتطلبهم العملية. والحقيقة أنني لا أفهم ما الذي يجعل مسؤولينا يتصرفون بمثل هذا الإذلال وهذه الدونية التي لا يحسدون عليها، حينما يتعلق الأمر بطبيعة هذا التعاطي مع أمن مؤسسات بلدان بعينها (فرنسا – إسبانيا..)، حتى التي لا تصنف منها مؤسسات دبلوماسية، في وقت لا تولي نفس هذه البلدان أدنى اعتبار للجانب الأمني للمؤسسات الدبلوماسية لبلدنا. ولنا في حادث فالينسيا المثال الصارخ. فلا يخفى على أحد أن سيادة الدول تبدأ من فرض الاحترام المتبادل لمؤسسات كل طرف، وتستوجب في حال غياب أو اختلال هذا الاحترام اللجوء إلى المعاملة بالمثل، وإلا فستكون العلاقة التي تميز وتجمع الطرفين هي علاقة سيد بمسود أو تابع بمتبوع، وليست علاقات متكافئة بين دولتين تتمتعان باستقلال وسيادة واحترام. زرت قبل حوالي سنة من الآن مقر إحدى القنصليات المغربية بباريس، وتحديدا بكولومب Colombes، وكنت أعتقد قبل الوصول إليها أنني سأجد مقرا محترما، يعكس الصورة التي نريدها لوطننا، مُحاطاً بإجراءات أمنية كافية، أسوة بما هو عليه الأمر عندنا، لكن مفاجأتي كانت كبيرة لما وجدت عليه حال مقر تلك القنصلية من بؤس وترد كبير. مقر قديم مهترئ ومتآكل، يقع في قلب حي سكني شعبي متواضع، في شارع ضيق للغاية، حتى لا أقول زنقة صغيرة مهملة؛ لا يتمتع بأي حراسة تذكر كيفما كان نوعها، حتى في حدودها الدنيا (وشكون داها فيه كاع)، مكتظ بمواطنين في حالة فوضى عارمة (وهذا ليس موضوعنا الآن). كم كانت خيبتي كبيرة وعارمة لما وجدت عليه حال تلك المؤسسة التمثيلية الدبلوماسية، التي تعتبر مرآة الوطن في الخارج، من تهميش ولامبالاة شبه كاملة، لا من طرف أهلها من المغاربة، ولا من طرف مستضيفيها من الفرنسيين.! وإن هذه الواقعة لا يمكن سوى أن تؤكد سياسة التهميش الممنهجة التي تتعرض لها بعثاتنا الدبلوماسية من طرف بعض البلدان المستضيفة بعينها، التي نخصها عندنا بعناية واهتمام أمني زائد عن اللزوم. والتي جاء في سياقها حادث فالينسيا المذكور. وإن حادث الاعتداء على قنصلية بلادنا في الواقع، على محدوديته، يدعو إلى طرح السؤال بخصوص قيمة ومكانة بعثاتنا الدبلوماسية ومختلف مؤسساتنا الموجودة خارج التراب الوطني فوق أراضي البلدان المستضيفة، ومنها إسبانيا، وما إن كانت رخيصة وتافهة إلى هذا الحد الذي يجعلها عرضة لعبث العابثين من أعداء وطننا، من دون أن تتوفر لها الحماية والحصانة الأمنية التي تقرها الاتفاقيات والقانون الدولي، التي من شأنها أن تحافظ لها على حرمتها الدبلوماسية وسلامتها اللازمة. هذا في وقت يتم التعامل من طرف مسؤولي وطننا مع المؤسسات المختلفة لهذه البلدان، حتى التافهة منها، وغير المندرجة ضمن البعثات الدبلوماسية، على قدر كبير من الاحترام والحرص على أمنها وسلامتها، واستمرارية أداء مهمتها في ظروف أمنية باذخة، وتحت حراسة مستمرة ليل نهار، مع أنها تكون طول الوقت فارغة تماما سوى من الجدران والكراسي والطاولات والوثائق. ينبغي في الواقع لمثل هذه المعادلة المتناقضة، في ما يخص التعاطي مع الاعتبار الأمني للبعثات الدبلوماسية والمؤسسات التمثيلية، بالنسبة لوطننا في علاقته ببلدان أخرى، إما أن تتغير ويعاد فيها النظر بالشكل الذي يضمن احترام هذه البعثات ومختلف مؤسسات ووطننا وشعبنا، أو ينبغي اللجوء إلى المعاملة بالمثل في هذا الباب، حفاظا على الاحترام الواجب لبلدنا. إن من الأمور المثيرة والمستفزة أيضا وحقاً في نازلة فالينسيا أن المغرب اكتفى بصب جام غضبه وتنديده واحتجاجه على مرتزقة الجزائر، وذلك على لسان القنصل المغربي بفالنسيا كريمة بنيعيش، وهذا أمر لا خلاف عليه، لكنه لم يكلف نفسه عناء الاحتجاج على الدولة المستضيفة لبعثتنا القنصلية، التي تعرضت لما تعرضت له من انتهاك واعتداء على حرمتها، والمقصود إسبانيا، التي تقع عليها مسؤولة ضمان أمن وسلامة هذه البعثة، وقيامها بأدوارها الدبلوماسية في ظروف عادية وطبيعية. ولا يخفى أن الاحتجاج في مثل هذه النازلة هو عرف دبلوماسي جار به العمل في علاقات الدول في ما بينها، كلما عرض عارض أو طرأ طارئ يمس بمصالحها فوق تراب البلد الآخر؛ وهو أيضا احتجاج لا يفسد للود قضية (هذا إن كان هناك أصلا ود ما، في علاقتنا بجيراننا الإسبان)، ولكنه يرمم الكثير من الأعطاب، ويضع النقط على الحروف بشأن الأمور والقضايا التي قد تفسد هذه العلاقات بين البلدين. ولا يخفى على أحد الدور المتعاظم الذي تقوم به إسبانيا (وهي القوة الاستعمارية السابقة لأراضينا الصحراوية) في دعم الانفصاليين والتغاضي عن أنشطتهم الواسعة المضرة بالمصالح الوطنية في مجموع ترابها. وعليه فلم يكن من الحكمة السياسية والدبلوماسية أبدا أن تترك الأمور هكذا ومن دون تسجيل موقف احتجاج صارم، خصوصا بعد الخرجة البائسة الباهتة للمسؤولين الإسبان، الذين اكتفوا فيها بتقديم وعودهم بعدم تكرار مثل هذه الأفعال مستقبلا، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء محاسبة ومحاكمة ومعاقبة المعتدين، وفق ما تقره قوانين الحماية الدبلوماسية الدولية في هذا الباب. والحال أنه كان ينبغي أن يقوموا إما بمحاكمة المسؤولين عن هذا الاعتداء على مقر القنصلية وإهانة العلم الوطني، أو طردهم من التراب الإسباني، لأن الفعل الجرمي الذي ارتكبوه يرقى إلى مستوى الإخلال بشروط الإقامة فوق التراب الإسباني، ويمس بمقتضيات الحماية القنصلية وحرمة مقراتها؛ ناهيك عن الإضرار بالعلاقات بين البلدين، علما أن انتهاك قواعد الحماية المذكورة لمقر القنصلية قد تم فوق أراضيهم، ما يجعل المسؤولية الدولية تقع على بلدهم كدولة مستضيفة لقنصلية وطننا، خصوصا إذا علمنا أن هناك اتفاقية دولية خاصة أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، بشأن الحماية الدبلوماسية بتاريخ 11/12/1973، تقضي بتنظيم التعاون بين الدول في ما يتعلق بمسائل ملاحقة ومعاقبة ومحاكمة وتسليم الأشخاص المسؤولين عن الاعتداءات الدبلوماسية. ولا يخفى على أحد أن مقرات البعثات الدبلوماسية للبلدان (سفارات – قنصليات..)، حيثما وجدت في بقاع العالم وأيا كان مالكها، تمثل امتدادا طبيعيا للتراب الوطني لهذه البلدان، لا يجوز انتهاك حرمتها، لا بالاقتحام ولا بالتفتيش أو غيره، حتى من طرف الدول المستضيفة نفسها، وأحرى أن يتطاول على العبث بها عناصر من المرتزقة المعادين للوحدة الترابية؛ فهي تتمتع بحصانة دولية تستمدها من العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية.. إنها بذلك تمثل امتدادا طبيعيا لسيادة البلدان واحترامها ومصالحها، لا يجوز التهاون أو التراخي في الذود عن حرمتها وكرامتها وكبريائها. ومن هذا المنطلق فوطننا مطالب بعدم التهاون في التعاطي مع نازلة فالينسيا، وعدم تركها تمر بسلام، بما يعنيه ذلك من تحميل الدولة المستضيفة إسبانيا القسط الأكبر من المسؤولية في ما حدث، وتوجيه رسالة واضحة المضمون إليها. فمن غير المعقول أن يقبل وطننا بتنكيس وتدنيس علمه الوطني رمز السيادة، من دون أن يكون له رد فعل صارم ومناسب، في مستوى حجم الاعتداء؛ وذلك حتى لا يتجرأ المرتزقة على تحويل هذا الفعل الشنيع إلى أمر معتاد، يتكرر حدوثه في أمكنة وأزمنة وبلدان أخرى، بما يعني المساس بسيادة وطننا والتشويش على وحدة أراضيه.