توفي يوم 30 أكتوبر 2020 المرحوم أحمد أمسروي بلحسن، ابن عائلة سوسية أمازيغية مشهورة بالثروة والمال والأعمال، أسرة استثمرت في الصناعات الغذائية والمشروبات الغازية مبكرا، وتربعت على عرش الاقتصاد الصناعي بسوس وباقي ربوع الوطن، حيث تخصصت في بعض الصناعات الغذائية والتحويلية. ونظرا لما ساهمت به هذه الأسرة الأمازيغية الطيبة والخيرة في تطوير الاقتصاد الوطني وفي مجال صناعة الثروة وتوفير مناصب الشغل للشباب والنساء والأطر العليا (أصبح عددها اليوم حوالي 4500 منصب شغل)، وما تميزت به من خصال حميدة في التضامن الاجتماعي والإنساني والدعم الثقافي والرياضي، والابتعاد عن استغلال السياسة لكسب المال؛ فإنها تستحق منا الاهتمام البالغ في التدوين والكتابة والاعتراف. الفقيد أحمد أمسروي هو ابن المرحوم الحاج محمد أمسروي بلحسن، مؤسس المجموعة الاقتصادية الكبرى، لا نعرف عنه الكثير من المعلومات، خاصة ظروف وسياقات نزوله بمدينة أكادير وبداياته الأولى في مجال التجارة والتصنيع، بالكاد جمعنا معطيات قليلة حول هذا الشخص العبقري والأسطوري، الذي توفي سنة 2013، في انتظار الحصول على المزيد من الوثائق والمعطيات؛ لأن هذه الشخصية تستحق الكثير من الدراسة والبحث، باعتبارها شخصية وطنية قدمت الكثير للاقتصاد الوطني وللوطن وللمواطنين بشكل عام. كما أنه يعتبر شخصية ثقافية وتاريخية ستبقى راسخة في ذاكرة المغاربة، مواطنين وتجارا ومستثمرين؛ فهو ينتمي إلى طبقة الأثرياء الكبار، لكن اسمه يعشقه الفقراء كثيرا وتلوكه ألسنتهم كل يوم، ويبحثون عنه في الأسواق باستمرار. "بْلْحَسَنْ" اسم يفرح ويحزن له الجميع، بكل بساطة؛ لأن اسمه مقرون باسم الزيت الذي يفطر به جل المغاربة خاصة في سوس. فجميع أسر وبيوت سوس والصحراء في المدن والبوادي تجد على موائدها "زيت الزيتون واد سوس" التي ينتجها بلحسن، ومنذ أزيد عن 40 سنة يعرفها الناس فقط بهذا الاسم. إذن، إن هذا الشخص ينتمي إلى طينة خاصة، كشخصية ومسار وتجربة وثروة. إن سوس يعج برجال المال والتجار الكبار؛ لكن "بلحسن" ينفرد عنهم جميعا بمميزات وخصال واختيارات. فهو ينحدر من قبيلة آيت عبلا، (عبد الله) وبالضبط من دوار "أسدرم" وهي أحد مكونات كونفدرالية إيلالن بالأطلس الصغير، تابعة إداريا لإقليم تارودانت وإلى جهة سوس ماسة. ولكي يكون حديثنا وفهمنا شموليا ووافيا لشخصية الحَاجْ مُحْمَدْ المؤسس الفعلي لمجموعة بلحسن، ولفهم الكثير من الأصول الثقافية والاجتماعية والتاريخية لهذا النجاح الاقتصادي والمالي الباهر الذي حققه شخص بسيط نزل من الجبل بمفرده في وقت عصيب جدا إبان الحماية الفرنسية وشق مساره الأسطوري بمعاناة وصبر وعمل واجتهاد إلى أن أصبح من بين أثرياء سوس والمغرب، لا بد من التطرق ولو بشيء من الاقتضاب إلى الجذور التاريخية لقبيلته "آيت عبلا". تقع قبيلة آيت عبلا/ عبد الله وسط جبال الأطلس الصغير المعروف ببلاد جزولة، تمتاز تضاريسها بحدة الارتفاع، تتخللها قمما جبلية معروفة؛ منها "أزرار إفسفاس" وقمة "أزكور" "آيت عبلا" تحدها من جهة الشمال الغربي قبيلة "إيدوسكا أوفلا" وقبيلة أملن من الجنوب الغربي، ثم تاسريرت، وإيسافن من جهة الجنوب الشرقي، وغربا تحدها قبيلة "آيت تيفاوت". ويظهر من خلال هذا التوطين أن آيت عبلا تحتل مجالا جبليا وصخريا عنيدا يسود فيه مناخ شبه صحراوي. وتتوزع تشكيلات القبيلة إلى ثلاث وهي "إمي ن كردال"، و"طارافان"، و"أفراوا"، كما تستقر الساكنة في حوالي 22 دوارا ينتشرون على السفوح ومواقع قريبة من الماء والعيون والآبار. تاريخ "آيت عبلا" يكتنفه الكثير من الغموض بسبب وجود بياضات كثيرة، وعدم توفر أبحاث جدية حول المنطقة، وشح المادة والمعلومات التاريخية، إلا ما وصلنا من شذرات قليلة موزعة على المتون. فهذه الأخيرة تجمع على أن أصل هذا التجمع الذي يحمل اسم "آيت عبلا" (تكتب في الأوراق الإدارية هكذا: آيت عبد الله) نزح من "تامدولت" بعد خرابها على إثر هجوم كاسح قاده "محند أوعلي أمنصاك" خلال القرن الرابع العاشر الميلادي. وتشير بعض الأبحاث إلى أن ل"أيت عبلا" جذورا من "إمجاض" بسبب استمرار روابط القرابة الاجتماعية بين الأسر والتي لا تزال تحافظ على تبادل الزيارات البينية بين المنطقتين من "آيت عبلا" نحو إمجاض. وكيفما كان القول في شأن الأصول، فإن جل قبائل الأطلس الصغير تنتمي إلى جزولة، إيكيزولن، التي قد يقصد بها الاسم القديم "الجيتول" في بعض الكتابات الأجنبية، والتي لها استقرار طويل بالمنطقة، دون إغفال عوامل الاستيعاب التي تميزت به جبال جزولة خاصة في علاقتها مع بطون صنهاجة الصحراء الذين صعدوا إلى الشمال في مراحل متفرقة بعد قيام دولة المرابطين وانهيارها. ولعل انتشار ظاهرة الصلاح والتجارة وطلب الإمارة في جبال جزولة لدليل ساطع على هذا التمازج التاريخي القوي بين ايزناگن وايگيزولن. إن أهم ما يبرهن على عراقة "آيت عبلا" وجيرانهم في الأطلس الصغير هو انتشار إيگودار أو المخازن الجماعية بشكل لافت للانتباه، وهي مؤسسات سياسية واجتماعية عتيقة جدا، كانت تؤدي وظائف كثيرة منها ما يوازي وظيفة البنوك حاليا، وتؤطرها منظومة ثقافية ومرجعية حضارية في غاية الأهمية حابلة بالقيم وبالنظم الفلسفية التي تتوارثها الأجيال شفهيا منذ حقب سحيقة في التاريخ، لا يعرف أولها. كما تستند أيضا إلى مرجعية قانونية مكتوبة يسميها الفقهاء ومدونو التاريخ المحلي في سوس بالألواح (انظر كتاب ألواح جزولة لمحمد العثماني)، وهي في الواقع بمثابة دساتير لا يوجد لها مثيل في العالم؛ ولكن للأسف الشديد ما دام أنها دساتير أمازيغية فإنها قوبلت بالرفض والإنكار داخل أوساط "النخبة" التي تأثرت بالثقافة العربية الإسلامية "العالمة" التي تصنف كل ما هو أمازيغي ضمن "عوائد البربر وبقايا الجاهلية لا قيمة له". هذه الدساتير اليوم التي تسمى "الألواح"، وهي عبارة عن قوانين وضعية تم اكتشاف أقدمها إلى حد الآن في قبيلة "آيت عبلا"؛ وهو المعروف بلوح "أكادير أوجاريف" الذي يعود تقريبا إلى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي حوالي 1498م، وهذا فيه دلالة كبيرة وعميقة جدا لفهم الكثير من الإشكالات الراهنة. وقد جمع الباحث حفيظ أشافي معلومات قيمة ونادرة في بحث غير منشور اطلعنا عليه، حول هذا الدستور الأمازيغي "أگادير أوجاريف". وتجدر الإشارة أيضا إلى أن قبيلة "آيت عبلا" كانت لها عاصمة تجارية ومعدنية كبيرة، نافست مدنا كثيرة خلال عصر الوسيط كمدينة تارودانت وغيرها من المدن التجارية، وهي مدينة "تازالاغت" التي كان يوجد بها منجم للنحاس يعتبره المؤرخ عمر أفا (مؤلف كتاب مسألة النقود في تاريخ المغرب) من بين أهم المناجم القديمة بالمغرب، والذي ذكره المؤرخون خلال العصر الوسيط ومنهم المؤرخ المراكشي. وقد تحدث عن هذه المدينة أيضا صاحب "ديوان قبائل سوس" الذي عاصر السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي واشتغل معه وأعد له ديوانا خاصا بالقبائل يفصل فيه حصص الضرائب والجباية التي يجب على كل قبيلة أن تؤديها للسلطان. مدينة "تازالاغت" تحدث عنها الكثير من المؤرخين والرحالة وأجمعوا كلهم على كونها مدينة منجمية مزدهرة يوجد بها سوق تجاري كبير مشهور يقصده التجار من كل الآفاق، لا يقل أهمية وحيوية عن المدن التاريخية المعروفة بسوس، كنول لمطة وتارودانت وإگلي، وماست، وإليغ... إن ما يهمنا في هذا الصدد هو التعرف على الجذور التاريخية للحياة الاقتصادية لقبيلة آيت عبلا وتجذر الممارسات والمعاملات التجارية في تاريخها المحلي عقب فترات زمنية طويلة، دون إغفال قضية استغلال المناجم من قبل ساكنة البوادي والجبال في تاريخ المغرب؛ فقد لاحظ الرحالة شارل دوفوكو خلال أواخر القرن التاسع عشر الذي زار المنطقة أن العمال مستغلي هذا المنجم كانوا ينزلون تحت الأرض إلى عمق يترواح بين 200 و300 ذراع، وكانوا يرتدون لباس الجلد. وقد تأكد عمر أفا، من خلال كتابه حول النقود في تاريخ المغرب، أن منجم تازالاغت ظل يعمل إلى حدود سنة 1930. وتمت إعادة اشتغاله بعد الاستقلال مرات عديدة إلى أن تم استنزافه، ويقال إن النحاس الذي يتم استخراجه من هذا المنجم يكون ممزوجا بالذهب. أما مدينة تازلاغت فقد اندرست ولم يبق منها إلا اسم يطلق على دوار صغير. واشتهرت قبيلة "آيت عبلا" أيضا خلال النصف الأول من القرن العشرين بكونها كانت آخر الجبهات الصامدة والمقاومة للاحتلال الفرنسي؛ فقد تصدت المقاومة الأمازيغية للجيوش الفرنسية ببسالة شديدة، ولم تستسلم إلا في اللحظات الأخيرة حين قصفت فرنسا الأبطال المقاومين بالطائرات في الجبال سنة 1934. وكان يتزعم تلك الملاحم الشعبية المقاوم أمغار عبد الله أزاكور الذي قال قولته المشهورة، حين حاصرته الطائرات والغارات الفرنسية: "إتما الرصاص إتما واوال" (نفد الرصاص وانتهى الكلام). وتجسد مقاومة "آيت عبلا" إحدى الحركات المرجعية التي يستند إليها الخطاب الأمازيغي المعاصر؛ لأنها كانت حابلة بالروح الجماعية والقيم الثقافية في التضامن والمقاومة التي تمتاز بها "الشخصية الأمازيغية" عبر التاريخ، أهمها الدفاع عن الأرض والوطن إلى آخر الرمق، فتأخر دخول الاستعمار إلى آيت عبلا بما يقارب 24 سنة بعد عقد الحماية بين المخزن وفرنسا، كانت كلها فترة المقاومة والحروب المتتالية حقق فيها المقاومون انتصارات كثيرة، إلى أن استعانت فرنسا بالغارات الجوية. هذا التأخر ساهم بشكل كبير في بقاء القيم الأمازيغية واستمرارها، وانغرست في الجيل المعاصر للحماية واشتغل بها أبناء القبيلة الذين هاجروا إلى المدن الكبرى، وطبقوها حرفيا في ميدان التجارة، كما هو شأن الحاج محمد بلحسن. إن التجارة قبل أن تكون معاملة اقتصادية ونقدية فهي ثقافة في مفهومها الشمولي؛ فمعرفة أسرار تفوق "إبُودْرَارْنْ" "أهل الجبل" اليوم في التجارة وميدان الأعمال وسرعة تأقلمهم مع مستجدات العصر يقتضي ذلك الفهم الجيد للبنيات الثقافية والذهنية والتاريخية التي تؤطر حياة "إبودرارن" وتنسج سلوكهم التجاري والاقتصادي والاجتماعي. فكيف يراكم هؤلاء الثروة؟ وكيف يصنعون الرفاه الاجتماعي؟ كيف ينظرون إلى الربح والخسارة؟ كيف ينتقلون من الدكان الصغير إلى مجموعة دكاكين ثم إلى شركة ثم إلى معمل ثم إلى أنتروبول صناعي ضخم؟ ما هي علاقتهم مع المخزن الاقتصادي واللوبي الحزبي؟ كيف نشأوا في اقتصاد القلة والندرة بين السفوح الجبلية المنسية والمهمشة ثم تسلقوا الهرم الاقتصادي والمالي في المدن الكبرى؟ هذه الأسئلة هي في الحقيقة مسارات وممرات إجبارية مر منها الجيل الأول من التجار السوسيين الذين بدؤوا من الصفر وصعدوا إلى المجد والقمة؛ ومن بينهم الحاج محمد بلحسن. ويصعب كثيرا فهم هذه الشخصية الفريدة دون وجود معطيات دقيقة وأرشيف ووثائق وصور وشهادات من أقربائه وأصدقائه وشركائه، وحتى من منافسيه في التجارة والاستثمار الصناعي. وهذه القضايا المرتبطة بتفوق "ابودرارن" في التجارة والمال والاستثمار يسميها جون ووثربوري في كتاباته ب"الظاهرة السوسية"؛ فهي مستعصية على الفهم، وهي ظاهرة قديمة بدأت مع الحماية الفرنسية وهجرة السوسيين إلى المدن الشمالية الصناعية. لذلك، ظهرت كتابات حول هذا الموضوع/ الظاهرة مبكرا، مثل دراسة روبير مونتاني حول الطبقة العاملة بالدارالبيضاء، ودراسة آندري أدام" "Casablanca Les Berbères à" وكتابات الأنثروبولوجي الأمريكي جون واتربوري سواء في كتابه "أمير المؤمنين" أو في كتابه الشيق الموسوم بعنوان "الهجرة إلى الشمال: سيرة تاجر أمازيغي" الذي ترجمه مؤخرا إلى العربية محمد أوبنعل. كما يجب أن ننوه بالمجهودات العلمية الكبيرة التي يبذلها السوسيولوجي إبراهيم لاباري في نشر دراسات قيمة جدا حول المقاولة العائلية بسوس، سواء بجامعة أكادير التي يشتغل بها حاليا أو بفرنسا التي درس بها سابقا؛ وهي لا شك أبحاث ومقالات ستفتح آفاقا واعدة للطلبة الباحثين لإنجاز دراسات جامعية حول "البورجوازية السوسية" حول "ظاهرة إبودرارن". كما نجد إفادات مهمة جدا في كتابات عمر أمرير، خاصة في كتابه "العصاميون السوسيون في الدارالبيضاء"، كما نستند أيضا إلى بعض السير الذاتية التي كتبها رجال المال الكبار حول أنفسهم بالرغم من عدم اهتمامهم بالذاكرة والكتابة، مثل كتاب مولاي مسعود أكوزال وسير ذاتية أخرى كتبها باحثون حول بعض الشخصيات المالية الكبرى، مثل كتاب عبد الله كيكر حول الحاج حماد أولحاج أخنوش، والد عزيز أخنوش الوزير حاليا. كما نشرت مقالات ودراسات باللغات الأجنبية خاصة الفرنسية حول بعض العائلات السوسية الكبرى المشهورة في ميدان المال والتجارة والصناعة. وانطلاقا مما سبق، يظهر أن عائلة بلحسن لم تحظَ بالعناية اللازمة على غرار العائلات الأخرى التي أنجزت حولها الدراسات والأبحاث، عدا ما جاء به المؤرخ الفرنسي Pierre Vermeren في كتابه Le Maroc en Transition. والسبب ربما يعود إلى أن عائلة بلحسن تفضل الاشتغال في الظل والصمت والابتعاد عن السياسة والحزبية ولعب أدوار طلائعية عبر البروز والظهور المخطط له وفق البروباكندا والدعاية كما تقوم به بعض الأسر البورجوازية الكبيرة في بعض المدن حيث تكون الثروة رديفة بالريع السياسي؛ فحتى ما تقوم به عائلة بلحسن من عمل اجتماعي في المساعدة الطبية والتضامنية والرياضية والدينية تتحاشى فيه الدعاية، وبالتالي فميزة بلحسن هي الاستثمار النظيف والعمل في الظل. والعودة إلى البدايات الأولى لصناعة الثروة، يتضح أن الحاج محمد بلحسن نزل إلى سوس خلال الأربعينيات من القرن الماضي، لا نعرف السنة بالضبط، فهو ينتمي إلى أسرة ممتدة في دوار "أسدرم" بآيت عبلا، له أربعة إخوة، كان والده يملك قطعانا من الماشية على غرار باقي الأسر في الجبل، فكما رأينا أعلاه؛ فالسكان كانوا يمارسون التجارة والاستغلال المنجمي وأيضا تربية الماشية، وعبر هذه الأخيرة أيضا يتعلمون التجارة، وقد يمارسون الترحال في الجبال، خاصة أن المنطقة مشهورة بوجود ظاهرة "العزيب". الحاج محمد الشاب فطن مبكرا للتغيرات الاقتصادية والمجالية والإيكولوجية التي طرأت في المنطقة بفعل دخول الاستعمار وتبدل الأحوال والأسواق ودخول الآلة، وشق الطرقات وسيادة الأمن وبروز المدن الصناعية في السهول والسواحل وتطور التجارة بتطور السلع وسرعة انتشارها. لذلك، نزل إلى مدينة أكادير واشتغل في التجارة كباقي أبناء البوادي في دكان صغير، ثم انتقل بسرعة إلى ممارسة مهنة توزيع بعض المواد الأساسية خاصة "زيت الزيتون" (زيت العود)، وكان في الخمسينيات يتلقى كميات كبيرة من الزيت من التاجر السوسي عابد أكنيظيف ويقوم بلحسن بتوزيعها في أكادير وأحوازه بدراجة نارية، ثم تطور وكبرت شبكة علاقاته مع التجار الأمازيغ واليهود والفرنسيين، واستطاع شراء رخصة بيع زيت "واد سوس" من تاجر ينتمي إلى إغرم ويقطن في هوارة يدعى أبو القاسم. في هذه الفترة التي لا نملك فيها معطيات كثيرة عن الحاج محمد إلا أنه اشتهر بالعمل الجاد والصبر واكتسب ذكاء خارقا في التعامل التجاري وحسن التدبير والاستثمار، فكان في بدايته لا يصرف أمواله في بناء المنازل في الجبل كما فعل أقرانه الذين تنافسوا في بناء المنازل للتفاخر والتنافس بينن التجار المهاجرين (انظر شهادة الحاج إبراهيم سيرة تاجر أمازيغي)؛ فالحاج محمد ركز بشكل كبير في بدايته الأولى على تراكم رأسماله وتوسيع شبكته التجارية والفوز برخص توزيع سلع ومواد غذائية ازداد عليها الطلب والاستهلاك في تلك المرحلة كالمواد الغذائية والمشروبات الغازية. ويروى أن والد الحاج محمد كان يطلب منه العودة إلى البلاد لمساعدة إخوانه الأربعة في شؤون "تامزيرت"، إلا أن الابن يرفض ذلك ويجيب والده بأنه يشتغل ويكد هو في المدينة لكي ينزل إخوانه إليها ويعملون معه في مشاريعه التي ينهمك في بنائها. وفعلا، ذلك الذي تحقق. من توزيع زيت الزيتون "العود" إلى الاشتغال مع "لوسيور" زيت المائدة، ثم توزيع المشروب الغازي "بيبسي" وغيرها. وبعد زلزال أكادير سنة 1960، توسعت ثورة بلحسن مستفيدا من إعادة الإعمار اجتماعيا واقتصاديا واستثماريا. وكان بلحسن من الناجين القلاقل من تلك الفاجعة الأليمة، بفعل علاقاته التجارية الكبيرة في مدينة أكادير وأحوازها، فإنه تنبه بقدوم الفاجعة ربما عن طريق جلساته مع الفرنسيين والتجار الأجانب الذين انتبهوا إلى الهزات التي وقعت قبل ليلة "الخراب الكبير"، حسب ما يروى أن العديد من الساكنة فروا من المدينة مباشرة بعد الهزة الأرضية التي وقعت في صبيحة ذلك اليوم، ومنهم من نصحوا معارفهم وجيرانهم بضرورة مغادرة المدينة، وهو ما حصل مع الحاج محمد الذي فر مع أبنائه إلى خارج المدينة، ربما إلى هوارة. الحاج محمد كسب، خلال الستينيات، تجربة كبيرة وانتقل من التوزيع إلى التصنيع. وبذكائه التجاري الثاقب وحدسه القوي في فهم وإدراك مستقبل الاستثمار الصناعي ومعرفته التامة بتفاصيل وصراع المنافسة بين الماركات التجارية، فقد تفاوض مع شركة كوكاكولا للظفر بصفقة الإشراف على تصنيعها وتوزيعها في الجنوب مقابل التخلي عن علامة "بيبسي"، ونجح في ذلك سنة 1971، وبدأ في معمل صناعة المشروبات الغازية "كوكا" بإمكانيات بسيطة وبعدد قليل جدا من المستخدمين، ثم تطورت بشكل مهول مع مرور السنوات، وأصبحت اليوم تحتكر كل أسواق الجنوب من منطقة أسراتو قرب إمي نتانوت إلى مدينة الگويرة؛ فقد استفاد كثيرا من مغربة الشركات الفرنسية، وقام بشراء الأصول التجارية، وخلق شركات ومعامل خاصة به، انفصل عن لوسيور التابعة للهولدينغ الملكي ONA وأسس شركة "لوسرا"، ودخل في منافسة مع المخزن الاقتصادي. وفي سنة 1977، اشترى "شركة زيت الزيتون واد سوس"، وهي التي بدأت منذ سنة 1948، وهي الشركة التي طورها بلحسن بشكل منقطع النظير، وأصبحت اليوم أضخم شركة في المغرب لصناعة وإنتاج الزيوت، وأكبر شركة مصدرة للزيوت بالمغرب ولم تستطع الشركات الأخرى منافستها بالرغم من التطور الحاصل في صناعات وإنتاج الزيوت، إلا أن مجموعة بلحسن واكبت هذا التطور بتراكم التجارب ومواكبة مستجدات التكنولوجيا الصناعية في هذا القطاع، وأسست المجموعة معامل كبرى في كل من أكادير وعين تاوجطات وفاس... بلحسن معروف أيضا بالاستثمار في صناعة تصبير السمك والصناعات التحويلية للمنتوجات البحرية، وهو القطاع الذي بدأ من الثلاثينيات في مدينة أكادير وانتشر فيها بعد الحرب العالمية الثانية، واستفاد بلحسن من سياسة المغربة واقتحم هذا المجال في سنة 1963 باسم شركة التصبير واد سوس، وانتشرت معامل بلحسن في كل من أكادير وطانطان والداخلة، وتفرعت منتجاتها في تصبير المنتوجات البحرية، كالأسماك السطحية والتونة ودقيق الأسماك وزيوتها، الذي يستعمل في صناعة الأعلاف وغيرها، هذا الأخطبوط الصناعي الكبير في قطاع تصبير الأسماك تحول في سنة 1999 إلى "المركب الصناعي بلحسن" CIBEL.. باختصار، فمجموعة بلحسن الصناعية اقتحمت تصنيع وإنتاج العديد من الماركات والمواد الغذائية الأساسية والمشروبات الغازية؛ مثل كوكاكولا، وزيت واد سوس، وليو، ولوسرا، ومعجون الطماطم، والشاي، والقهوة، وإنتاج البرتقال، والصوجا، والزبدة، ومؤخرا تم افتتاح معمل كبير لصناعة البلاستيك في مدينة أكادير، وبالتالي أضحت مجموعة بلحسن من أضخم المجموعات الاقتصادية الصناعية الكبرى في المغرب. ولم تنفتح المجموعة على الاستثمار العقاري إلا بشكل محتشم في السنوات الأخيرة، حيث بدأت المجموعة تستثمر في العقار والسكن. كما أنه استثمر في الفلاحة أيضا بامتلاكه ضيعات كبيرة في منطقة هوارة، ويقال إنه بالرغم مما راكمه الحاج محمد في التجارة والصناعة فإنه ألح أن تكون إحدى ضيعاته الفسيحة مرتعا لقطعان من الماشية من الماعز والغنم. إن الأهم هنا هو دراسة السلوك الاقتصادي عند بلحسن، الذي يستنبطه ويستمده من المعارف الأمازيغية ومن الخلفية الثقافية والحضارية التي تؤطر ذهنية التاجر الأمازيغي بشكل عام؛ لأنه ظل وفيا للمرجعية والقيم الأمازيغية، ونلاحظ ذلك في اعتماده على ذاته وعلى عرق جبينه، فقد رأينا أنه انتقل من كل المراحل الإجبارية التي يمر منها التجار السوسيون الأوائل، وعلى غرار ما علمناه من مسار التاجر عابد السوسي الذي انتقل من دكان صغير بجانب ضريح سيدي بليوط بالدارالبيضاء سنة 1900 إلى أكبر التجار والصناع في البيضاء وطنجة، وكذلك مسارات مشابهة مثل أباعقيل ومولاي مسعود أكوزال الذي استثمر هو الآخر في إنتاج الزيوت وكذلك حماد أولحاج أخنوش.... فالحاج محمد بلحسن لم يلج قط إلى المدرسة، وإنما أصبح هو بنفسه مدرسة قائمة في مجال خلق الثروة والاقتصاد والصناعي. الحاج محمد بلحسن يشتغل بنظيمة "تيوزي"؛ فقد سهر على خلق منظومة إنتاج "عائلية مغلقة" تنتمي إلى نفس قبيلته "آيت عبلا"، أدمج إخوانه وأبناءهم في مشروعه، تزوج من عائلة الباعيسي من دوار "تيزي إمليل" واندمجت العائلة في المشروع الاقتصادي والصناعي، وزوّج ابنته المرحومة للحاج أوباري من دوار "بوكوزول" الذي أصبح هو الآخر قطبا صناعيا داخل المجموعة، فكلما يكبر المشروع الاقتصادي لبلحسن إلا وتكبر معه هذه الشبكات العائلية المتداخلة التي تنتمي إلى القبيلة نفسها، وأصبح القطب الصناعي يتشكل من المثلث أسدرم وتيزي ن امليل وبوكوزول... وهذه الخطاطة رسمها بعناية الحاج محمد بلحسن، فلم يسع يوما إلى ربط علاقات مصاهرة مع بيوتات فاس على شاكلة بعض السوسيين في البيضاء ومراكش وطنجة وحتى في أكادير الذين يتهافتون على المصاهرات السياسية لاقتحام الصالونات العائلية والسياسية والمالية الضيقة، بل كان حريصا على الحفاظ على البنية "العائلية الأمازيغية الممتدة" في مجال الاقتصاد والاستثمار. ومعروف أيضا على بلحسن حبه واعتزازه بالثقافة الأمازيغية والحديث بها أينما حل وارتحل، ويظهر ذلك في أبنائه الذين يتحدثون بالأمازيغية ويدافعون عنها ويعتنون بمساعدة وتمويل الأنشطة الثقافية الأمازيغية وحفظ التراث، خاصة ابنه المرحوم عبد الله وكذلك المرحوم أحمد، ويسير على النهج نفسه حاليا أخوهما حسن الذي يساند كل الأعمال الرامية إلى حفظ الذاكرة والتراث والتاريخ في سوس. وإذا شئنا، فيمكن تلخيص الأسس الثقافية والاجتماعية التي بني عليها الفكر الاقتصادي عند بلحسن في: العمل المستمر والصبر لخلق الرأسمال، وهي ثقافة الشعوب الأمازيغية المستقرة في الجبال سواء كانت زراعية أو رعوية، والتي تعاني من قلة الموارد ومن اقتصاد الندرة بسبب ضيق مساحة الأراضي المغروسة والتقلبات المناخية مما يولد لدى المجتمع "ثقافة تدبير الندرة" والإيمان بقوة العمل واستمراريته؛ روح الجماعة والعائلة الممتدة، وهي فلسلفة مستوحاة من قيم "الجْماعْت" التي تتأسس على تيوزي/ التعاون، اتضح ذلك في تركيبة المجموعة الاقتصادية كما أشرنا إليه أعلاه؛ فالمستثمر يرتكز في توسيع مشاريعه على روابط القرابة والدم والعائلة ثم القبيلة، وهي التي يرمز إليها ب"أفوس" أو الفخذ في القبيلة، و"گيد أفوس" بالأمازيغية تعني طلب المساندة والتعاون؛ الثقة وهي الرأسمال الكبير عند السوسيين، خاصة منهم الجيل الأول الذين يتعاملون ماليا وتجاريا برابط الثقة والكلمة؛ فالثقة هي سحر صناعة الثروة داخل الأوساط التجارية السوسية، بفضلها يتمكن تاجر مبتدئ من الاشتغال في دكان ما أو في متجر ما بدون أن يمتلك الرأسمال، يشترط فقط أن يحظى بسمعة طيبة؛ البركة وهي التي يؤمن بها كل التجار السوسيون وكبار المستثمرين والأثرياء، يسعون إلى امتلاك كل تجليات المقدس وخاصة البركة؛ فبلحسن يمول الكثير من المدارس العتيقة بالمواد الغذائية، ويمون أيضا المواسم الدينية في الكثير من المناطق والبوادي، ويكرمون ويعتنون بالمساجد والفقهاء والطلبة. خلاصة القول إن عائلة بلحسن تستحق المزيد من العناية والكتابة؛ لأنها تقدم النموذج الأمازيغي في الاقتصاد والاستثمار النظيف، هي عائلة محترمة لدى الجميع، لها المسافة نفسها مع جميع الأحزاب السياسية. المجموعة الاقتصادية تشغل عددا كبيرا من اليد العاملة في المدن التي تستثمر بها، كما ساهمت أيضا في الصندوق الجهوي لتمويل ودعم المخطط الجهوي للتسريع الصناعي بمبلغ مالي ضخم جدا يناهز 50 مليار سنتيم. وهي كذلك، فإننا نتمنى لها كامل النجاح والتوفيق ونتوسم منها المزيد من الاهتمام بالثقافة واللغة والحضارة الأمازيغية، خاصة في بوادي سوس.