قال الصحافي والكاتب الأمازيغي عبد الله بوشطارت إن "مصادر مكتوبة بالعربية ظهرت، بعد دخول الإسلام، تتحدث عن بعض جوانب تاريخ سوس، لاسيما ما يتعلق بالأنشطة الاقتصادية والزراعية التي كان السوسيون يزاولونها، أهمها النشاط المعدني والتجاري"، مستدلا بقول أبوعبيد البكري إن "أهل السوس وأغمات أكثر الناس تكسبا وأطلبهم لرزق يكلفون نساءهم وصبيانهم التحرف والتكسب". وأشار بوشطارت، في مقال بعنوان "ما سر تفوق السواسَة في التجارة والسياسَة؟"، إلى أن ما ساعد أهل سوس على الكسب وطلب الرزق "ما تزخر به المنطقة من خيرات وموارد فلاحية، من أشجار وكل أنواع الفواكه والموارد الأخرى كالسكر والزيوت، وهذا ما يفسر كون الإمارات السياسية التي انبثقت من جبال سوس وصحرائه تكون إمارات تجارية ومعدنية بالأساس". وفي حديثه عن سر تفوّق "السواسة" في السياسة، أكّد المتحدث أن "سوس كان بمثابة المنقذ من الحالة المزرية التي عاشها المغرب خلال القرن 11 الميلادي، بإنتاج بديل سياسي استطاع توحيد المغرب كله، عبر تأسيس جهاز المخزن الذي لا يزال مستمرا إلى اليوم كنظام سياسي". وأكّد عبد الله بوشطارت أن سؤال: ما سر تفوق السواسَة في التجارة والسياسَة؟، "مهم وجدي، ويحتاج إلى دراسة علمية دقيقة وشاملة، لأنه سيفيدنا في إنتاج نظرية في علم الاقتصاد الاجتماعي والأنثروبولوجيا السياسية"، معربا عن أسفه من كون "الدارسين والباحثين في علوم الاقتصاد والسوسيولوجيا والتاريخ وعلم النفس لا يشتغلون على هذه الأوراش البحثية والمواضيع الجادة، نظرا لعدم وجود اهتمام داخل بنيات البحث بتجديد الطرح وتعميق السؤال الإشكالي في العلوم الإنسانية". وهذا نص المقال: "ما سر تفوق السواسَة في التجارة والسياسَة؟" سؤال مهم وجدي، ويحتاج إلى دراسة علمية، دقيقة وشاملة، لأنه سيفيدنا في إنتاج نظرية في علم الاقتصاد الاجتماعي، والأنثروبولوجيا السياسية. للأسف، الدارسون والباحثون في علوم الاقتصاد والسوسيولوجيا والتاريخ وعلم النفس لا يشتغلون على هذه الأوراش البحثية والمواضيع الجادة، نظرا لعدم وجود اهتمام داخل بنيات البحث بتجديد الطرح وتعميق السؤال الإشكالي في العلوم الإنسانية، واقتصاره على نقل واجترار نفس القضايا المدروسة والمقتولة بحثا من قبل الدارسين الأجانب، وطغيان الاتجاه والتوجه نحو الدراسات التقنية وعلوم الحساب والتدبير، وتهميش مواضيع التحليل والتفكيك البنيوي ذات الصلة بتحولات المجتمع المغربي. على سبيل النموذج؛ فالفيلسوف والمفكر الألماني ماكس فيبر انطلق من نفس الظاهرة التي نحن بصدد مناقشتها في هذه المقالة، وأنتج من خلالها نظرية علمية ذات جدية وقيمة كبيرة علميا ونظريا وفلسفيا، ساهمت بشكل منقطع النظير في تطوير البحث العلمي. وهي أطروحة خلقت نقاشا واسعا في العالم وفرضت نفسها بالمنهج والتحليل والمقاربة، حين درس في مؤلف عظيم موضوع "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، وهي دراسة قدم فيها ماكس فيبر النظرية التي زعزعت كثيرا نظريات ماركس في الاقتصاد والتاريخ والإنتاج الرأسمالي ونوعية الصراع. وفي نفس الاتجاه، اطلعت على دراسة مهمة جدا لفرانسيس فوكوياما في كتاب بعنوان "الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي"، وهي دراسة يمكن أن نقيس عليها سؤال: لماذا نجح السوسيون، وخاصة جزولة، المشهورون ب"إبودرارن" في التجارة والسياسة ولم ينجح غيرهم؟ نقصد هنا سيطرة السوسيين على تجارة القرب في جل مدن المغرب، فقراءة فصول كتاب فوكوياما توحي بأنه يتحدث عن تجار سوس ودورهم في خلق الثروة بكونهم يسيطرون على التجارة بالتقسيط والجملة في جل المدن والمداشر، كما استطاعوا تطوير رأس المال التجاري بالاستثمار في قطاعات الصناعات التحويلية وفي المجالات الأخرى، وذلك ناتج عن تميزهم بمجموعة من الخصال والميزات التي تساعدهم على ذلك، فيها ما هو ثقافي وتاريخي، وما هو مرتبط بطبيعة شخصيتهم وروابطهم الاجتماعية، خاصة عنصر "الثقة" ودوره في الاقتصاد والتجارة والثروة، وهذا ما يصبو فوكوياما إلى استبيانه. تاريخيا، أمازيغ سوس/ جزولة يتميزون بحيوية تاريخية تتميز بالقدم والعراقة والتطور، فبالرغم من وجودهم في غرب القارة، فقد استفادوا كثيرا من الانفتاح على المحيط، في المتاجرة مع أقوام الحضارات القديمة، وحتى إذا ما اعتبرنا أن الاكتشاف العلمي، الذي خرج مؤخرا في ألمانيا بكون جزيرة "أطلنتيس" كانت تقع في سوس، يكتنفه بعض الغموض، فإن سوس توجد به مؤشرات على وجود علاقات قديمة بين الأمازيغ القدماء وشعوب أخرى مختلفة، قدمت من المحيط، ولعل ما يكشف ذلك أنهم كانوا يتاجرون مع الفينيقيين بالمعدن بواسطة المقايضة والصباغات البحرية. وهذا يدل على قدم الاستغلال المنجمي والمعدني في سوس، وعلى تطور الصناعات، خاصة الصباغات والزيوت. ويؤكد هذا الكلام ما تم اكتشافه مؤخرا في وادي "أساكا" جنوب مدينة سيدي إفني من طرف فريق بحث أركيولوجي مغربي- إسباني، عثر على بقايا معمل للصباغة والألوان النادرة استخراجها من الصدفيات البحرية، خاصة المعروفة في منطقة آيت باعمران ب"تانݣروزت". وأيضا ما تم اكتشافه من نقوش صخرية عبارة عن رسوم مصبوغة في واد "أزݣر" بنواحي طانطان، وذلك ما يظهر بشكل جلي تطور الصناعات الصباغية في التاريخ القديم، وهذا التطور ساهم بشكل كبير في انتعاش التجارة والاحتكاك بالأقوام الأخرى، التي اشتهرت بممارسة الملاحة والتجارة العابرة للمحيط. أما بخصوص المراحل التاريخية الوسيطية، بعد دخول الإسلام، فقد ظهرت مصادر مكتوبة بالعربية تتحدث عن بعض جوانب تاريخ سوس، لاسيما ما يتعلق بالأنشطة الاقتصادية والزراعية التي كان السوسيون يزاولونها، أهمها النشاط المعدني والتجاري. يقول أبوعبيد البكري (توفي 1094م) في هذا الصدد: "أهل السوس وأغمات أكثر الناس تكسبا وأطلبهم لرزق يكلفون نساءهم وصبيانهم التحرف والتكسب". يساعدهم على ذلك ما تزخر به المنطقة من خيرات وموارد فلاحية، من أشجار وكل أنواع الفواكه والموارد الأخرى كالسكر والزيوت. وهذا ما يفسر كون الإمارات السياسية التي انبثقت من جبال سوس وصحرائه تكون إمارات تجارية ومعدنية بالأساس، كتارودانت، واتمدولت، ونول لمطة. ونفس الأمر ينطبق على المرابطين والموحدين والسعديين والسملاليين، وآخر هذه الإمارات المعروفة ب"مملكة تازروالت"، وكانت إمارة أسست عرشها على التجارة، وكانت إليغ عاصمة تجارية دولية كبيرة تتاجر مع أهم الدول الأوربية، وتربط جنوب المغرب بالسودان. فأسباب قيام الدول الكبرى بسوس تعود أساسا إلى الرغبة في التوسع التجاري والتحكم في استغلال المناجم المعدنية، التي تنتشر في سوس وبلاد جزولة إلى الصحراء، ويبقى صنهاجة الصحراء، الذين تحكموا في ممالح تاغزى/ تيوغزى الواقعة في موريتانيا الحالية، نموذجا ساطعا على أن الإمارات الأمازيغية كانت إمارات تجارية ومعدنية في بادئ عهدها، لكن يتم تغليفها بالدعوة الدينية والمذهبية، خاصة من طرف كتاب وفقهاء السلاطين الذين يكتبون التاريخ لإعطاء شرعية دينية وسياسية للحاكمين. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن سوس كان بمثابة المنقذ من الحالة المزرية التي عاشها المغرب خلال القرن 11 الميلادي، بإنتاج بديل سياسي استطاع توحيد المغرب كله، عبر تأسيس جهاز المخزن الذي لا يزال مستمرا إلى اليوم كنظام سياسي، وإن كان المرابطون، الذين يتشكلون من صنهاجة، صعدوا من الصحراء، فإن دولتهم تأسست بفعل فكرة "وݣاݣ أوزلو ألمطي"، وبفعل الدهاء الأيديولوجي والتنظيمي لعبدالله بن ياسين الجزولي، و"جزولة يجاورون لمطة" كما يقول ابن خلدون، وكلها مجموعات تنتمي حاليا إلى الفضاء الثقافي والتاريخي لسوس. إذن من أجل فَهم أُسس العمل السياسي عند أمازيغ سوس، قديما وحديثا، لا بد من فهم معنى ودلالة مفهوم "المخزن" كنظام سياسي وجهاز إداري بيروقراطي تأسس في تراب سوس، ومقتبس من نظام أݣادير/ إݣودار، الذي ينتظم وفق قوانين وضعية أمازيغية صارمة، تعرف عند فقهاء سوس ب"ألواح جزولة"، وهي موضوع أطروحة علمية لوالد سعد الدين العثماني، المرحوم الفقيه محمد العثماني، نشرها بعنوان "ألواح جزولة والتشريع الإسلامي"، وهو أستاذ وفقيه ينتمي إلى أسرة جزولية تمارس الدين والسياسة منذ القدم، خاصة أسرة الݣرسيفي. وفيما يخص إمبراطورية الموحدين، فقد كشفت الدراسات الأركيولوجية الحديثة في مقر سكن المهدي بن تومرت على قمة جبل "إݣليز" بمنطقة تاغمرت بقبيلة أرغن بقايا وآثارا تؤكد أن منزله كان بمثابة معمل لإنتاج زيت أرݣان، واستهدفت حركته في الأول التحكم في محاور التجارة بالأطلس الكبير، التي تؤدي إلى أغمات ومراكش، حيث استقر بتينمل على وادٍ معروف يربط سهل سوس بالحوز عبر تيزي ن تاست. فهي دولة وإن تأسست على عصبية امصمودن، إلا أن زعيمها الروحي والأيديولوجي كان من قبيلة أرغن بجبال الأطلس الصغير، الذي يعتبر وطن جزولة، وتاكيزولت هي ناحية منطقة، وهي قبيلة أو أقبيل أو اللف بمفهوم روبير مونتاني، وتعني أيضا جزولة "النحلة" بتعبير المختار السوسي، أي ما يعني تحالفا سياسيا على شكل حزب بالمفهوم الحاضر. وجزولة أيضا، وسوس بصفة عامة، هي التي صعدت إلى واجهة الأحداث خلال نهاية القرن 15 وبداية القرن 16م لإنقاذ المغرب مرة أخرى من المد الإبيري، خاصة البرتغال، الذي احتل أهم الثغور المغربية ووصل إلى سوس، ولم يكن الرجل المنقذ إلا متصوفا من عمق جزولة، أسس حركة صوفية كبيرة أدت إلى قيام دولة السعديين، بمساعدة سيدي محمد بن مبارك الأقاوي، وصلحاء آخرين أسسوا الدولة في قرية تيدسي بضواحي تارودانت، على قدم جبال الأطلس الصغير، وكانت بيعة ملوك السعديين مشروطة بالدفاع عن سوس ومطاردة احتلال البرتغال، وكانت البيعة شفوية بالأمازيغية. وبعد انقراض عهد السعديين بسبب صراعات سياسية داخل العائلة الحاكمة بعد موت أحمد المنصور الذهبي سنة 1603، نهضت جزولة من جديد وأسست إمارة جديدة. وهذه المرة قاموا بتشييد عاصمتهم السياسية وسط جبال جزولة، وسط هبط تازروالت، وهي مدينة إليغ عاصمة إمارة إسملالن، الدولة السملالية، التي كان لها تاريخ عظيم، وعاشت عهد الازدهار والنماء، وربطت علاقات وطيدة مع بلاد السودان وبلدان كثيرة في أوروبا، وتحكمت في المحور التجاري: تاصورت/ الصويرة وتومبوكتو إلى ما وراء الصحراء. وكانت إمارة تجارية بامتياز، والدليل على ذلك عدد التجار الذين استقروا بإليغ من اليهود والأمم الاخرى. وللأسف الشديد، تم هدم إليغ مرتين، وتم تسطيحها وبناء مدينة تيزنيت كمحل لخليفة السلطان لمراقبة سوس وسواحله، وأيضا مراقبة جبل جزولة وسملالة (انظر كتاب المختار السوسي "إليغ قديما وحديثا"، وكتاب جوستينار حول مملكة تازروالت، ثم دراسات بول باسكون وآخرين). ولا حاجة لذكر آخر إمارات سوس، التي خطت مسارا، للأسف، لم يكن صحيحا بفعل غياب قراءة دقيقة للسياق التاريخي والمعطيات الميدانية، من قبل زعيمها أحمد الهيبة، الذي واجه الفرنسيين ودخل مراكش ولم يسمع نصائح رجالات جزولة وفقهائها، خاصة كاتبه الخاص سيدي الحاج الحبيب التانلتي، رحمه الله، فاندحرت حركتهم في رمشة عين بسيدي بوعثمان بأحواز مراكش أمام قوات الاستعمار الفرنسي سنة 1912، التي واجهتهم بالمدافع والقنابل. السياسة في سوس هي كالماء تخرج من الينابيع بقمم الجبال، وتسير في جميع الأودية والأنهار. حاجة الأمازيغ في سوس إلى السياسة، هي نفسها حاجتهم إلى الخبز، هي مغروسة في التاريخ منذ أبعد الفترات، ويبدو للقارئ أن أهل سوس يمارسون السياسة بالدين، وهي ضرورة اجتماعية، كما فصل فيها ابن خلدون حين تحدث عن حاجة العصبية إلى الدعوة عند الأمازيغ لتأسيس الدول. ولكن في العمق، يؤسس السوسيون الدول لسبب اقتصادي محض، هو التحكم في التجارة والمناجم. فسوس هي بلاد المحاور التجارية وخطوط القوافل منذ القدم، وهي بلد المناجم. المرابطون تمكنوا من الانطلاق كحركة سياسية بعد احتلالهم ممالح تيغزى في موريتانيا الحالية، وغزوهم سجلماسة كأول مدينة في المغرب، بالرغم من كونها مدينة إسلامية، وبعدها مباشرة زحفوا نحو أغمات، واتضح أن هدفهم الأسمى هو احتلال مراكز التجارة والتحكم في مواردها والصعود نحو أسواق الشمال، واحتلال السعديين منجم الفضة بضواحي تامنارت واستغلال موارده، حسب ما جاء عند التمانارتي، يذكرنا بما قام به المرابطون في تامدولت، والموحدون في زݣندر. التجارة حرفة السوسيين والجزوليين منذ القدم، وقد فهمت فرنسا هذا جيدا، فساعدتهم على الهجرة إلى المدن الصناعية كالبيضاء وغيرها، وإلى فرنسا لمزاولة تجارة التقسيط في البداية داخل الأحياء الصناعية التي بنتها الإدارة الكولونيالية بالمدن الساحلية، ونصحت المخزن بضرورة فتح أبواب التجارة الواسعة للسوسيين خارج مناطقهم، وضرورة تشجيع سياسة التهجير في صفوفهم، واستقطابهم في العمل السياسي المراقب والمتحكم فيه. وهذه السياسة كانت تدبر بموازاة سياسة فرنسا في اغتصاب أراضي القبائل واستغلال مناجمها. تاريخيا، بلاد سوس دائما ما تعطي بدائل سياسية، حين يدب الوهن بالمركز ويعاني من العياء والترهل. وبعد الاستقلال أسس السوسيون حزب الاتحاد الوطني المنشق عن حزب الاستقلال المحسوب على الأوساط الفاسية والرباطية، وبقيت سوس قلعة للتيار المعارض تعطي أصواتها للاتحاد الاشتراكي طيلة سنوات معارضته للحكومة، إلى درجة أن زعيم الحزب عبدالرحيم بوعبيد ترشح في الانتخابات التشريعية سنة 1977 بمدينة أكادير وهو ابن مدينة سلا. وحين تم تدجين الاتحاد بزعامة اليوسفي، هرب السوسيون من الاتحاد واحتموا بحزب سياسي آخر كان يظهر بأنه معارض، وأعطوه أغلبية مطلقة في جميع الجماعات والأقاليم، هو حزب العدالة والتنمية. وحين ظهر أن هذا الحزب هو الآخر "مدجن" وطغت عليه الاسترزاقية والوصولية، ولا يهتم حقيقة بالمشاكل والأزمات التي يعاني منها سوس، جبلا وسهلا وصحراء، بدأ أهل سوس يتهربون منه. فأين سيتجه أهل سوس مستقبلا في ظل عدم وجود بديل حقيقي؟