كل سنة تورد قائمة مجلة “فوربس” إسم عزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري في الحكومة المنتهية ولايتها ورئيس حزب “التجمع الوطني للأحرار”، وتضعته في مراتب متقدمة بين أثرياء العالم والمغرب بثروة بلغت 1.4 مليار دولار(أي أكثر من 1100 مليار سنتيم). وحسب نفس المجلة الأمريكية فإن ثروة أخنوش تأتي أساسا من مجموعة “أكوا”، وهي تجمع لشركات تستثمر في قطاعات الطاقة (أفريقيا غاز، وأفريقيا لتوزيع المحروقات، وماروك أوكسيجن)، كما يستمد ثروة عائلته من الاستثمار في قطاع العقار عبر شركة “أكوا إيمو”، والسياحة من خلال تحالفه مع مجموعة “إكور” الفرنسية ومجموعة “فرو سيزنس” لصاحبها الأمير السعودي الوليد بن طلال. كما لعائلة “أخنوش” استثمارات في قطاع الاتصالات والصحافة. كما أن زوجة عزيز أخنوش، سلوى أخنوش، لها شركتها الخاصة التي تعمل في قطاع “الفرانشيز”، وهي التي تملك “مروكو مول” ومجموعة من العلامات التجارية، من قبيل “غالري لافييت” الفاخرة و”فناك” المتخصصة في المنتوجات الثقافية وغيرها. في هذا التحقيق يعود عبد الجليل بيشا، وهو باحث في تاريخ المغرب، إلى جذور تكوين ثروة “آل آخنوش” مع والدهم أحمد أولحاج أخنوش، لرسم مسار بناء ثروتهم. “تحولت تافراوت مع مر السنين إلى مدينة صغيرة حمراء مغبرّة “. (من رواية محمد خير الدين: أسطورة وحياة أكَونشيش، 1984، ص. 17.) من أين الثروة؟! نحتاج قبل الإجابة عن السؤال المُعَلَّق: «أين الثروة؟!»، الوارد في خطاب العرش لسنة 2014، والموجه في اعتقادنا إلى أطراف في الدولة، الإجابة عن سؤال أعمق؛ هو: «من أين لك هذا؟!»، أو بعبارة أخرى: «من أين جاءت الثروة؟!»، تلك المِلكية الجماعية التي تتركز اليوم في يد أقلية لا تتجاوز نسبتها في أعلى تقدير 5% من مجموع ساكنة البلد، أوليغارشية تتشكل من عدة لوبيات أبرزها اللوبيان الفاسي والسوسي، تتصارع حينا وتتصاهر حينا آخر، لتتناسل من جديد. وقد حصرنا دراستنا هذه حول «اللوبي السوسي»، الذي تعد عائلة أخنوش أبرز وجوهه في العقود الستة الأخيرة، تتبعنا خلالها مسار أحمد أولحاج أخنوش، ذلك الرجل الغامض الذي حفر اسمه عميقا في سجل « صناعة الثروة بالمغرب». تافراوت.. وريثة تازروالت ظلت «دار إليغ» بتازروالت شرقي تزنيت، ولعقود طويلة، المركز التجاري الأكبر بسوس والأطلس الصغير، أو بلاد جزولة (إكَزولن) بحسب التوصيف التاريخي، كما كانت إحدى أهم قلاع المقاومة ضد الاستبداد المخزني في سوس الأقصى جنوبي المغرب، بزعامة أسرة آل أُهاشم السملاليين، أهّلها موقعها الحصين جغرافيا من أن تجتذب بحكم إشرافها على موسم (أمكَار) وزاوية سيدي احماد أُموسى؛ القوافل التجارية الرابطة بين تومبوكتو عاصمة السودان الغربي (مالي والنيجر) وميناء الصويرة، بوابة الجنوب الجديدة التي عوضت ميناء أكادير منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والذي ظل طلية القرن الذي يليه في قبضة «تجار السلطان»، أي العائلات اليهودية الكبيرة بالصويرة، والذين كان تجار تازروالت «سماسرتهم» الحذقون. أحداث كبرى أضرت بتازروالت ومكانتها الاقتصادية والسياسية بالجنوب المغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان أبرزها انهيار تجارة الصويرة في أعقاب الاحتلال الفرنسي لتومبوكتو، والحملات المخزنية المتكررة نحو سوس، واستقرار آل الشيخ ماء العينين في تزنيت بداية من 1909، ثم الحروب والمجاعات المتكررة التي مرت منها المنطقة في ظل ما سمي “زمن السيبة”، بالإضافة إلى نزيف الهجرة نحو المدن الشمالية. كانت هجرة الشلوح (قبائل سوس وفق الدراسات الفرنسية)، قد اقتصرت قبل الحرب العالمية الأولى على مدن شمال المغرب والغرب الجزائري، حيث امتهن غالبيتهم البِقالة وبعض المهن الموسمية، ومع نهاية الحرب وصلت أعداد هامة منهم إلى باريس ونواحيها للعمل في المصانع المختلفة، بل وسُجل وصول أفراد منهم إلى القارة الأمريكية منذ العشرينات من القرن الماضي. في ظل تلك الأحوال المضطربة، أفل نجم تازروالت ليسطع نجم جارتها تافراوت (الميزاب)، البلدة الجبلية الواقعة على بعد 107 كيلومترات شرقي تزنيت، سطوع أخذ في التجلي منذ 1937، حين بدأت نقابة السياحة بأكادير تمد اليد إلى المراكز السياحية بالأطلس الصغير وفي مقدمتها تافراوت، الميزاب الذي تدفق منه اللوبي السوس نحو كبريات المدن المغربية ونحو العاصمة الفرنسية باريس. في تافراوت، ذلك المركز الجبلي البهيج المشيد في وسط دائرة من الجبال الجرانيتية الوردية، والذي يحتضن اليوم ساكنة هي نحو ضعف ما تحتضنه تازروالت وفق إحصاء 2014، بدأت حكايتا أخنوش وأكَونشيش (جذع الشجرة الميتة)، الشخصية التي اختارها الأديب محمد خير الدين عنوانا لروايته باللغة الفرنسية التي قدمنا بها هذه الدراسة، حكايتان تتداخلان في الزمان والمكان، وتختلفان في الشخوص والعقدة والأحداث. أحمد أولحاج.. بائع الوقود بالتقسيط (1932-1943) أضحت الدار البيضاء منذ الإحتلال الفرنسي لها سنة 1907، القبلة المفضلة لشباب سوس المهاجر بمن فيهم أهل تافراوت، الذين عبَر بعضهم التراب المغربي نحو الجارة الجزائر منذ منتصف العشرينات، حيث نافسوا المزابيين في محلات البقالة بوهران، كما وصل أفراد منهم إلى ضواحي باريس. ولأن وثائق عهد الحماية الفرنسية بالمغرب، لا تبوح كثيرا بمعطيات حول منطقة سوس، فإن ما سمح به الوقت والجهد من معلومات لم تسعفنا في معرفة الظروف التي غادر فيها أحمد أولحاج في 1932، قريته «أكَرض أوضاض» (كتف الخروف)، البلدة الجبلية الواقعة على بعد كيلومترين جنوبي تافراوت، ووجهته هو الآخر الدار البيضاء، رئة المغرب في العهد الاستعماري. لم يكن أولحاج يوم هاجر قد جاوز الثالثة والعشرين من عمره (ولد سنة 1909)، حينها كانت آثار الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929، قد فعلت فعلتها في المغرب، أما الأطلس الصغير فكان لا زال يبدي مقاومة للاحتلال الفرنسي انطلاقا من كردوس تحت إمرة مربيه ربو بن الشيخ ماء العينين، قبل أن يصدر القرار من باريس بوجوب تصفية آخر معاقل المقاومة المغربية المسلحة مطلع 1934، بغية فتح المجال لاستغلال خيرات المنطقة لتجاوز الكساد الاقتصادي الكبير الذي كانت فرنسا هي الأخرى تئن تحت وطأته. في الدار البيضاء، سيبدأ أولحاج – وفق بعض الدراسات التي يظهر أنها اعتمدت أساسا على بعض الروايات الشفهية – مشواره الطويل في عالم المال والسياسة، حيث افتتح بداية محلا لبيع الوقود بالتقسيط، كان يبتاعه من شركة النفط الأمريكية “سوكوني- فاكيوم”، التي ستحمل فيما بعد إسم “موبيل”. وفي ظرف قياسي لم يتعد عشر سنوات استطاع أن ينمي ثروته، حيث تمَلّك ست محلات أخرى لتوزيع الوقود بالمدينة، وإن كنا نعتقد أن الظرفية الاقتصادية والسياسية التي كان يمر منها المغرب آنئذ والمتمثلة في آثار الأزمة الاقتصادية العالمية، مجاعة 1937، الأزمة السياسية الناجمة عن ضرب سلطة الاحتلال للحركة الوطنية، اندلاع الحرب العالمية الثانية، لم تكن لتسمح بمثل هذا التراكم السريع للثروة، خاصة وأن الوقود كان من أكثر المواد فَقْدا في ظل الحرب. في أكَادير.. الجمع بين المال والسياسة (1943-1952) في سنة 1943، سينتقل أولحاج للاستقرار بأكادير، المدينة التي استعادت دورها التاريخي كبوابة لسوس والصحراء بعد أن سحبت البساط من تحت قدمي الصويرة، ومما يثير الاستغراب أن الرجل بمجرد قدومه إلى المدينة، عُين باللجنة البلدية المختلطة حديثة التأسيس بها، وصار من يومها الممثل الأبرز لمسلمي المدينة طيلة فترة مقامه فيها، على اعتبار أن للجماعة اليهودية وفق القانون المنظم للعمل البلدي يومئذ ممثلها الخاص في تلك اللجنة، فهل كان هناك من يدعم الوافد الجديد؟!. كانت أكادير يوم استقر بها أولحاج، قد بدأت للتو تحتضن أولى ورشات تمليح السمك، التي شجعت سلطة الاحتلال إنشاءها في محيط منطقة أنزا، لسد الخصاص الكبير في الغذاء بفرنسا إبان الحرب، كانت تلك فرصة سانحة لأمثال أولحاج للاستثمار في مدينة صغيرة في طور التشكل، فقام رفقة شخص آخر يدعى عباس القباج (والد طارق القباج)، بإنشاء ورشة تمليح للسمك بعد أن اقتنيا مركبين صغيرين للصيد الساحلي. مع نهاية الحرب، بدأ الانتعاش الاقتصادي يدب في أوصال أكادير نتيجة تدفق الرساميل الفرنسية نحوها، وقد سعى الرجلان أثناء ذلك إلى تأسيس شركة للرخام (شركة مراخم سوس)، لكنهما سرعان ما اختلفا لأسباب مادية ربما، مما حذا بأولحاج إلى البحث عن «شريك» جديد. هكذا نجده يتقرب من محيط القصر، ويربط الصلة بالحسن بن يوسف أخ السلطان وخليفته في تزنيت، حيث أهداه عدة أسهم من شركته تلك، التي كانت قد شرعت في تصدير الرخام نحو إيطاليا، ثم دخلا بعد ذلك معا في شراكة مالية، أسسا خلالها رفقة مستثمرين فرنسيين شركة جديدة حملت إسم « الشركة الفرنسية المغربية لمراخم أكادير ». من جهة أخرى، شارك أولحاج في تأسيس شركات فرنسية-مغربية مشتركة، حيث كان مساهما كبيرا في شركتين مجهولتي الاسم كانتا قيد التأسيس بالمدينة، تخصصت الأولى في تغليف الفواكه، أما الثانية واسمها « آيت سوس »، فتخصصت في التجارة العامة، وشاركه إدارتها أيضا القباج قبل خلافهما، وكانت أسهمها موزعة بين فرنسيين ومغاربة بالتساوي. في تلك الآونة، كانت العلاقة بين القصر ونظام الحماية، في بداية “مرحلة القطيعة”، إثر الزيارة التي قام بها السلطان محمد بن يوسف إلى طنجة ما بين 9 و11 أبريل 1947، وإلقائه خطابا طالب فيه علنا ولأول مرة باستقلال المغرب، وهو النداء الذي كان يتماهى ومطالب «حزب الاستقلال»، الذي تمكن في السنة ذاتها، من تأسيس خلاياه الأولى بإقليم أكادير، بإشراف من القباج وأولحاج بعد المصالحة التي جرت بينهما بوساطة من محيط السلطان، وبتوجيه من الفاطمي، باشا تزنيت واليد اليمنى للأمير الحسن خليفة السلطان هناك، مما لا يدع مجالا للشك في أن تأسيس خلية الحزب بأكادير تمت بإشراف من سلطة المخزن بتزنيت. اتصال أولحاج بالقصر سيتقوى إثر الزيارة التي قام بها على رأس وفد من سوس إلى الرباط لملاقاة السلطان في شهر ماي من ذات السنة، بوساطة من ذات الأمير، وقد رجع وفي جيبه أمر بافتتاح “مدرسة تالبرجت”، التي أنشأها الحزب بأكادير في إطار “معركة المدارس الخاصة”، بعد تلكأ السلطات الفرنسية بالمدينة في الاستجابة لطلب افتتاحها، بالرغم من موافقة مندوب التعليم. وتذكر تقارير للاستخبارات العسكرية الفرنسية، أن أولحاج كان يُنعت في موطنه تافراوت ب «دكتاتور سوس»، بسبب تصديه لنشاط الأحزاب الأخرى هناك وبالأخص لنشاط حزب الشورى والإستقلال، الذي كان ينشط في مجال قبيلة أيت امريبط المجاورة، كما قاد حملة شرسة ضد الحزب الشيوعي المغربي بالإقليم، ووضع حدا لنشاطه في مركز إنزكان وفي صفوف فلاحي تارودانت، حيث أقسم في أبريل 1947، أنه في غضون شهرين لن يبقى شيوعي واحد في الإقليم، مستغلا الإرادتين الداخلية والخارجية في تصفية الشيوعية بالمغرب، فداخليا قامت سلطة الاحتلال بحملة ضد الحزب في ظل ما كانت تشهده فرنسا من صراع سياسي، أما خارجيا فكانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدةالأمريكية قد اندلعت للتو. هكذا، وفي ظرف وجيز، أصبح حزب الاستقلال القوة السياسية المهيمنة بالإقليم، عمل خلاله على تسجيل الأعضاء المنسحبين من الحزب الشيوعي بإنزكان في لوائحه، وعلى استمالة أغلب التجار بالمدينة وبالقبائل المجاورة رغبا ورهبا، حيث تذكر ذات التقارير؛ أن أولحاج كان يهدد كل من كان يرفض الإنخراط في الحزب، ومن جهة أخرى، دخل والقباج في صراع مرير مع إبراهيم الحيحي، باشا أكادير يومها، بسبب ابتزازه للجميع وانحشاره إلى صف القيادة العسكرية في التضييق على نشاط الحزب بالمدينة، ولم تفلح وساطة القائد بوشعيب، قائد هوارة، في التقريب بين الطرفين، والواقع أن صراع الرجلين والباشا كان انعكاسا للصراع المحتدم وقتئذ بين القصر والإقامة العامة، ذلك أن أولحاج والقباج كانا يتلقيان الدعم من القصر، بينما كان الباشا يجد دعما من المقيم العام الجنرال جوان، دعم سيتوقف وينقلب خصومة بين الطرفين بعد أن انخرط الباشا في صفوف حزب الاستقلال، حيث سيقوم الجنرال بعزله من منصبه مطلع 1950، في سعي منه إلى «تقويض سلطة المخزن»، كما احتج بذلك حزب الاستقلال لدى الأممالمتحدة. عُوض الحيحي بأحمد بلمدني بن حيون، قائد أيت الصواب، وأحد البشوات الذين وقعوا على وثيقة عزل ونفي السلطان ابن يوسف صيف 1953، والذي سيصبح السند القوي لسلطة الاحتلال بالمدينة في ضرب نشاط الحزب، في لحظة بلغ فيه الصدام ذروته بين الإقامة العامة والقصر، الذي أُجبر حينها على فك ارتباطه بالحزب. في ظل ذلك الصراع المحتدم، سيتم القبض على كل من أولحاج والقباج وسيسجنان في كَلميم (210 كلم جنوبا) وبعدها في بويزكارن، قبل أن يجري نفى أولحاج نحو موطنه تافراوت. العودة إلى البيضاء.. من «شركة أفريقيا» إلى «هولدينغ أكوا» (1959-1994) حينما عاد أولحاج إلى أكادير في الأيام الأولى للاستقلال سنة 1956، وجد تجارته قد انهارت، فقرر الارتحال مجددا نحو الدار البيضاء، ليبدأ من نقطة الصفر. هناك، عاود ممارسة حرفته السابقة، فافتتح بداية محطتين لتوزيع الوقود، قبل أن يؤسس أفريقيا « الشركة المغربية لتوزيع المحروقات »، بشراكة مع صهره محمد واكريم في 1959، تزامنا مع نشأة «الشركة المغربية-الإيطالية المحدودة للصناعة والتكرير» (سامير). توسعُ أداء الشركة الوليدة سيبدأ بعد أن تغلبت على مشكل التخزين، حيث امتلكت ثاني أكبر مخزن للبترول بالبلد بداية من 1962، قبل أن تشرع في توسيع نشاطها ليشمل الغاز بداية من 1965، وإذذاك غيرت اسمها إلى «أفريقيا غاز»، ثم جاوزته بعد ذلك إلى توفير زيوت التشحيم بداية من 1972. تثير العودة السريعة لأخنوش – اللقب الذي سيحمله أولحاج بعد الإستقلال – إلى عالم المال والأعمال، عبر الشركة الوليدة الكثير من الشكوك مجددا، مما يدفعنا إلى التساؤل: هل ربط الرجل الصلة مجددا بالقصر في «العهد الحسني»؟! عمل الملك الحسن الثاني (1961-1999)، مبكرا على استكمال «التحرير الاقتصادي » للبلد من قبضة الشركات الأجنبية، فوضع عدة مخططات اقتصادية كان أبرزها المخطط الإقتصادي الخماسي (1973-1977)، الذي تبنى خلاله المغرب سياسة «مغربة» القطاعات الاقتصادية، التي كان من أهدافها العمل على استرداد الأراضي من الأجانب، ومراجعة شاملة لقانون الاستثمار، مع العمل على تحفيز المبادرة المحلية الخاصة. كان قطاع النفط واحدا من القطاعات التي حرصت الدولة على مغربته، بُغية سحب البساط من الشركات الأجنبية التي كانت وقتئذ المزود الرئيسي للسوق المغربية من المحروقات، وفي مقدمتها شركات شال وطوطال وموبيل، وتزامن نداء مغربة القطاع مع خصاص كبير في المحروقات بسبب الأزمة البترولية العالمية التي تفاقمت في تلك السنة، إثر اندلاع «حرب رمضان» بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني. وجد المغرب في الاتحاد السوفياتي ضالته لتجاوز أضرار تلك الأزمة، خاصة وأن العلاقات السوفياتية المغربية قد تحسنت بعد زيارة الحسن الثاني لموسكو في نهاية أكتوبر 1966، بعد توتر استمر ثلاث سنوات بسبب حرب الرمال مع الجزائر سنة 1963، وما تلاها من اختطاف الزعيم المهدي بن بركة سنتين بعدها، وقد أثمرت تلك الزيارة عن “مساعدات اقتصادية” في إطار « النفط مقابل الحوامض ». يومها كان أخنوش قد وطد علاقته بسفير موسكو بالرباط منذ 1962، لذلك حينما تفجرت تلك الأزمة النفطية، قام الحسن الثاني باستدعائه إلى قصره سنة 1974، وكلفه بتموين البلد بحاجياته من المحروقات، بعد أن وضع خزانات الدولة تحت تصرفه، وما هي إلا أسابيع حتى كانت 200 ألف طن من البترول السوفياتي تملأ تلك الخزانات، إثر صفقة وقعها الرجل مع الروس ضمن صفقات أخرى جعلت «أفريقيا» تَتَسيّد قطاع المحروقات بالمغرب إلى يومنا هذا. واجه المخطط الخماسي معيقات عديدة، كان أبرزها اندلاع حرب الصحراء سنة 1976، بعد أقل من سنة من تنظيم «المسيرة الخضراء»، التي تزعم بعض الروايات أن أخنوش، وبدافع «الحس الوطني»، مون القطارات والشاحنات بالمحروقات مجانا لنقل ثلاثمئة وخمسين ألف متطوع فيها، كما واجه المخطط معضلة غلاء أسعار النفط في السوق الدولية، في أعقاب اندلاع حرب الخليج الأولى، ما دفع بالمغرب مجددا إلى تبني المخطط الخماسي (1983-1987)، الذي توجه إلى دعم منتوجات الطاقة، وهو المخطط الذي جاء في صالح «أفريقيا غاز»، التي ستحقق خلاله طفرتها التاريخية كما سنبين لاحقا. في ثنايا تلك المخططات الاقتصادية، ولدت اللوبيات المالية الكبرى بالبلد، والتي لا زالت إلى اليوم تتحكم في مصيره، وفي أرزاق أهله وترسم مستقبل أبنائه وأحفاده. وفي ثناياها أيضا، تأسست العديد من «الأحزاب الإدارية» كما كانت تصفها القوى اليسارية التي واجهها القصر بشراسة منذ 1965، بسبب موالاتها لهذا الأخير، والتي سعى في تأسيسها رجال مال وأعمال مقربون منه، وفي مقدمة تلك الأحزاب «حزب العمل» 1974، «التجمع الوطني للأحرار» 1978، «الإتحاد الدستوري»1983، «الحركة الشعبية» في نسختها الثانية 1986، بالإضافة إلى حزب أخنوش الجديد. عندما حل الحاج أحمد ثانية بالبيضاء سنة 1959، كان حزب الإستقلال الذي كان بنفسه أحد من مؤسسي خليته بأكادير كما أسلفنا، قد انشطر نصفين، ويبدو أن أخنوش من يومها لم تعد تربطه أي صلة به، فانكب على تنمية تجارته نائيا بنفسه بعيدا عن السياسة، إلى أن ظهر فجأة عشية الانتخابات البرلمانية التي كان مزمعا إجراؤها في شهر أكتوبر 1975، كما أعلن عن ذلك الملك الحسن الثاني في شتنبر 1974، بعد لقائه بعبد الرحيم بوعبيد زعيم الاتحاد الاشتراكي منتصف السنة، قبل أن يقرر تأجيلها سنة كاملة بسبب تفجر قضية الصحراء. يومها، أقدم أخنوش وبعض كبار صناعيي الدار البيضاء من الشخصيات السوسية، على تأسيس «الحزب الليبرالي التقدمي»، الذي أعلن في بيانه التأسيسي صراحة أنه حزب ملكي ينسجم برنامجه الاقتصادي وتوجهات الحكومة، وأن “أبوابه مفتوحة أمام جميع الطبقات الاجتماعية”، أملا منه في تجنيد جيل ما بعد الاستقلال في صفوفه. اتخذ الحزب من «العدالة»، الجريدة الأسبوعية الناطقة باللغة العربية منبرا إعلاميا له، وركز نشاطه في جهة أكادير، حيث انضم إليه العديد من التجار النفعين بالمنطقة، فظل بذلك حزبا فئويا صغيرا ذو طابع جهوي (سوس)، كما تضرر من ارتباطاته العرقية بهيئات سياسية تعتبر اليوم الروافد الرئيسية ل«التيار الأمازيغي» بتشكيلاته المختلفة، وبالأخص حزبي «العمل» الذي تشكل هو الآخر نهاية 1974، من قبل بعض رموز المقاومة الريفية وفي مقدمتهم إدريس بن محمد عبد الكريم الخطابي، و«الحركة الشعبية» التي شكلت قبائل زيان القاعدة التي تأسست عليها في فبراير 1959، والتي اعتبر حزب أخنوش نسخة جديدة منها، كونهما وظفا معا لضرب حزب الاستقلال، الذي تزامنت وفاة زعيمه علال الفاسي، وتأسيس الحزب الليبرالي التقدمي. أخفى العداء الذي استحكم بين الأحزاب «الأمازيغية» الثلاث وحزب الاستقلال، صراعا رهيبا بين اللوبيين السوسي والفاسي، فأخنوش الذي كان من رموز الحزب بأكادير كما أسلفنا، صار من ألد أعدائه لاعتبارات اقتصادية وسياسية أكثر منها عرقية، فقد رأينا كيف أنه كان صديقا حميما لعباس القباج ذي الأصول الفاسية منذ 1943، إلا أنه من جهة أخرى، كان شديد الحساسية من نفوذ الفاسيين بسوس وقتئذ، حيث وجدناه في سنة 1947، يقود تجار المدينة للاحتجاج على رئيس البلدية، حين أراد تعيين محتسب من أصول فاسية يدعى عبد الهادي بن حسن مزوار (لا نعرف مدى قرابته من وزير الخارجية الحالي)، مقترحين أن يكون من أبناء المنطقة وعارفا بعادات سوس. والظاهر أن القصر لم يكن ينظر بعين الرضى للتقارب بين «الحزب السوسي» الذي كان يقوده أخنوش، و«الحزب الريفي»، و«الحزب الزياني»، فأوعز إليه في نهاية السبعينات بالابتعاد عن كل الجمعيات الأمازيغية ذات الميول القومية، فانكب من يومها على تطوير مجموعته النفطية. مر المغرب مطلع الثمانينات من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة، كان من تجلياتها توالي سنوات الجفاف، ارتفاع الدين الخارجي، انهيار أسعار الفوسفاط، فرض صندوق النقد الدولي لبرنامج التقويم الهيكلي بداية من 1983، ثم انتفاضة 1984، وغيرها من القضايا التي ستدفع الدولة إلى تبني نهج «الخوصصة». وبخلاف كل التوقعات، فقد حققت «أفريقيا غاز» طفرة هائلة في تلك السنوات، مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط بعد اندلاع حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، ففي 1987، أنجزت المجموعة مبيعات بقيمة 1.8 مليار درهم، واستثمرت نحو 117 مليون درهم، وحققت هامش ربح يزيد عن 27 مليون درهم، مما مكنها من منافسة كبريات المجموعات الاقتصادية بالبلد حينئذ، مثل «أونا» و«كوكَيسبار» (الهولدينغ الملكي)، «سهام»، مولاي علي الكتاني، محمد كريم العمراني. في مطلع التسعينات، تم تنزيل الخوصصة عمليا حيث صدرت قرارات، كان من بينها تخصيص شركات المحروقات لملاكيها الأصليين، وحينها ستتحول مجموعة أخنوش إلى شركة قابضة (هولدينغ)، حملت إسم «أكوا» (إختصار للحرفين الأولين من لقبَيْ أخنوش وواكريم بالحروف الفرنسية)، تزامنا مع إلغاء « قانون المغربة » في شتنبر 1993، وتأسيس بورصة القيم، أشهرا قليلة قبل رحيل الحاج أحمد أولحاج نفسه. مضى اليوم، أزيد من عقدين من الزمن على رحيل أخنوش الأب، وقد أضحت «أكوا» من بعده أكبر الشركات القابضة بالمغرب، تمتلك أزيد من أربعين شركة فاعلة في مجال الطاقة والأعمال والصحافة والعقار والسياحة والإتصال، وبرحيله غابت عنا الكثير من أسرار صناعة الثروة في مغرب «سنوات الرصاص» (1958-1988)، وحدها الدراسات الأكاديمية المتخصصة يمكنها أن تميط اللثام عن بعض تلك الأسرار والألغاز، وفي انتظار ذلك، تدفعنا الظروف الملتبسة التي رافقت ميلاد أفريقيا وتغوُّلِ أكوا من بعده، إلى التساؤل: هل كانت المجموعتان مِلكا خالصا لأخنوش الأب؟! أم أن الرجل كان فقط يشغل وظيفة “تاجر السلطان”؟! عناد أكَونشيش.. و”جشع” أخنوش أكيد أن أخنوش ليس هو أكَونشيش، فالأخير كان شخصية دونكيشوطية ظلت تقارع طواحين الهواء أملا في العثور على قتلة شقيقته (هويته)، والحفاظ بالتالي على هوية تافراوت أمام زحف الحداثة الرأسمالية الغربية، قبل أن يركبه اليأس ويقفز من على ظهر بغله الذي صاحبه طوال حياته، ويركب أول حافلة متجهة نحو الدار البيضاء ويتيه وسط الزحام بعد أن «مَاعَ في هوية المدن الكبرى… وأصبح رجلا عاديا» (خير الدين، ص. 159)، أما أخنوش فمنذ أن ركب ذات الحافلة وتوجه نحو ذات المدينة، قرر أن يساير الأحداث ويركب الموجة الرأسمالية، حيث أدرك مبكرا أن الشاحنة والحافلة التي طالما اعتبرها أكَونشيش خطرا على هوية تافراوت مفضلا عليهما البغل والحمار، كانتا وسيلتا النقل في العهد الجديد، وأن “علفهما” ليس هو التبن والشعير إنما النفط ومشتقاته، فأسرع يُحضِره لهما من مطامير خاصة، وسريعا عرف كيف يكون « رجلا إستثنائيا ». لم يكن هدفنا في هذه الدراسة / التحقيق التي تزامن تحريرها والذكرى الستون لاستقلال المغرب، التعريض بتافراوت وأهلها، أو بعائلة أخنوش التي تصنف اليوم في المراتب الأولى ضمن الأسر الأكثر ثراء بالمغرب، إنما أردنا أن نشرك الجميع فيما توصلنا إليه، من معلومات قد تجلو الكثير من الغبش الذي يكتنف المشهدين السياسي والاقتصادي بمغرب 2016، واللذان سُقيت جذورهما في الفترة التي تلت توقيع وثيقة الاستقلال في 2 مارس 1956. إن «داء العطب قديم»، على حد تعبير السلطان عبد الحفيظ بعد توقيعه معاهدة الحماية سنة 1912، مقولة تختزل الكلام في القول أن كوارث اليوم هي من جنايات الماضي، لذلك وجدنا أنفسنا ملزمين بالبحث عن أخطاء الأمس القاتلة التي قد تنسف غدنا القريب، فوجدناها في ثروة البلد التي قسمت ولا تزال تقسم بطريقة غير عادلة، وكان المدخل إلى ذلك الإجابة عن السؤالين المفتاحين: من أين لك هذا؟!. واين الثروة؟! كان «درس الشهيد محسن فكري»، مليئا بالعظات والعبر، وإن أول ما يستفاد منه بعد درس «الحكَرة »، هو درس «إعادة توزيع الثروة»، لأنها في نهاية الأمر هي ملك للشعب وهو الآمر بصرفها، سرقت منه مرات عديدة منذ فجر الاستقلال، تحت يافطات وحيّل متعددة، تارة باسم «المقاومة وجيش التحرير» وثانية باسم «الاستقلال الاقتصادي»، وثالثة باسم «مغربة بعض الأنشطة»، ورابعة باسم «القضية الوطنية الأولى» وخامسة تحت مسمى «الخصخصة»، وسادسة بحِيلة « درهم رمزي »، وسابعة بتوأمها «خدام الدولة».. سرقت منه وهو يقاوم وهو يقاتل وهو يناضل وهو يحارب وهو يكابد وهو يصابر وهو يصطبر.. ومن حقه الآن أن يعرف من أين جاءت؟ وكيف صُنعت؟ ومتى بُددت وكيف؟ ومن بددها؟ وأين هي الآن؟.. وإذ ذاك يأتي السؤال عن الاستقرار الاجتماعي، استقرار يسعد فيه الجميع أو يخسَره الجميع، أو على حد تعبير أكَونشيش في نهاية الرواية: « عندما يندثر كل شيء، لم يعد هناك ما يُخشى ». عبد الجليل بيشا نشر في لكم