أمَا عاد جلِيّا أننا أهملنا قراءة صفحات ماضينا؟ أما كان هذا الإهمال بمثابة بذور لأشواكٍ غطّت بفروعها مسالك دروب مستقبلنا؟ نعم! إننا أصبحنا اليوم نُداوم على قراءة ماض كتَبه الآخرون، ماض خطّط له المستعمِرٌ ورسمه على مقياس أطماعه التوسعية فكريا وسياسيا واقتصاديا؛ أطماع تُشرف على حمايتها مؤسسات عالمية بالوكالة كصندوق النقد والبنك الدوليين اللذين باتا يتحكمان في قرارات أعلى هرم السلطة في دول العالم الثالث. ولعلّنا نختزل بصيص أملنا الوحيد في الرجوع إلى تاريخٍ -خصوصا الحديث منه - تَحفَظُه كتب مثقفين متحررين في فكرهم، فلنقرأ الحقيقة التي أحرجت مؤرخين يُحسَبون على المكتبات الرسمية لمستعمرات القرنين الماضيين، ليكتفي هؤلاء بذكر ما تيسر من السطحي من تاريخ بلدانهم. إنها الحقيقة المرّة التي ناضل المثقفون المفكرون حاملو الرسالة النبيلة من أجل إظهارها، والتزموا بثقل الأمانة قصد إيصالها كما هي إلى قُرّائهم من المواطنين وتحفيزهم بأفكار القيم وحِفظ الهوية والتحرر من التبعية في الحاضر لأجل رسم آفاق ورُؤى تخدم مستقبلهم. وهنا أستحضر كلمات وازنة في عمقها جاء بها المفكر الدكتور المهدي المنجرة في إحدى محاضراته، حيث قال "كيف لك أن تحدد وجهتك المستقبلية إذا كنت لم تدر من أين أتيت، خصوصا إذا كنت محاصَرا من جنود الغرب يمينا وشمالا وهم من يحددون اتجاهك وإلا ستسقط؟". لقد كُتِب الكثير عن تحديات القراءة الصحيحة للتاريخ وما طاله من تحريف ومن إضافة أو نقصان مزيّفَين، ومنه لا نِيّة لي في التوسع في هذا الباب، لكني أحبذ - من خلال هذه الورقة - الوقوف عند بعض النقاط الفارقة والتي تهم تبعيات تسلّط وعدوان غاشمين منذ فترة ما قبل الحماية الفرنسية عبر مفاوضة الإهانة - إيكس ليبان - إلى حالة الفقر والجهل الذي عمّ البلاد والعباد اليوم. مناداة نقرأها من شهادات وصفحات كتب ومذكرات رجالات المقاومة والمفكرين المغاربة معبرين عن استيائهم من التوقيع على استقلال بشروط تبعية استعمارية وبِهَيمنة اقتصادية. وإنا لنرى في ذلك تحفيزا على قراءة سليمة لماضينا لعلّه يجد مَنفَذا إلى ما يطالعه شبابنا - ثمرات الغد - وحتى لا يُدفن برهان التاريخ وحقائقه في ذاكرة النسيان، ولكي نصبر نصابر ونشدّ على حبل نجاةٍ من شأنه إعفاء أحفادنا من إرث ثقيل عنوانه المذلّة والمهانة" داخل مستنقع الخضوع والخنوع والفراغ الفكري المعرفي، تحت سياط مخلفات الاستعمار وتبعيات مغرَبة الاستعمار منذ سنة 1956، ولا حرّية دون نضال ولا نضال دون ثمن. ما كان لأجدادنا وآبائنا مِن مَن عايشوا فترة الاستعمار لِيَنسى ولو للحظة واحدة الإذلال العميق الذي أحسّ به الشعب، بكل شرائحه من جراء حماية مزيفة وبطش مستعمِر جائر، وإذا انتقصنا من قيمة جرح هذا الشعب الذي لا برء له أبدا، يستحيل علينا أن نفهم تاريخ المغرب منذ العام 1912 حتى أيامنا هذه. فرنسا اقترفت أبشع الجرائم في حق المملكة ودمّرت الإنسان وأحرقت الأرض، وما كانت لتبني لها إلاّ لتهدم لنا وما لتزرع في أراضينا المغتصبة إلاّ لتنهب ثرواتنا ولتستغل خيراتنا. فرنسا أهانت السلطان وقمعت المقاوِم بقوة السلاح وأذلّت البسيط منّا، زرعت في أوساط المقاومة جواسيس وصنعت عملاء يحمون مصالح المستعمر ليمثلوا ما سماه المفكر عابد الجابري ب"القوة الثالثة" كطرف بين فرنسا من جهة والملك محمد الخامس وحزب الاستقلال من جهة ثانية خلال مفاوضة الخداع والإهانة، والتي أفرزت اتفاق أو ما بات يسمى ب"معاهدة إيكس ليبان"؛ بل وذهب الدكتور المهدي المنجرة إلى أبعد من ذلك ليرى في اتفاق إيكس ليبان خيانة من أكبر "الخيانات"، واعتبرها مجرد تسوية بين بعض من الزعماء السياسيين والمستعمر الفرنسي، حيث كان المتفاوضون عن الجانب المغربي، يسعون نظير مناصب سياسية ومواقع النفوذ بعد الاستقلال. بعدها غادرت فرنسا المغرب جغرافيا تاركة وراءها نسبة %90 من الأمية. وفي سنة 1954 كان عدد المغاربة حاملي شهادة البكالوريا لا يتجاوز 590 منذ 1912! لكنها قبل خروجها من المغرب كانت قد صنعت جيلا ضمنت من خلاله حماية مصالح الفرنسيين أكثر من حماية الفرنسيين أنفسهم لمصالحهم هناك. وها نحن اليوم ما زلنا نعاني ِوزر وتبعيات كل ذلك، اقتصاد هشّ، ونقص في عائدات الثروة وهزالة في المشهد الحزبي ومنظومة تعليمية منكسرة وقطاع صحي كارثي، وبطالة تصنع شبابا منحرفا يقترف الجريمة ولا يعير للقيم اهتماما. من يبحث عن الإصلاح أو التغيير دون رؤيا أو تخطيط للمستقبل فهو واهِم، حيث لا تخطيط للمستقبل ممكن دون تحرر كامل من التبعية كلّ المستويات، الفكري منها أو السياسي أو الثقافي. تحرُّرنا يعني مراجعة كل مكون سياسي لحساباته وتوجهاته؛ فما دور الأحزاب إن لم تنب على من تمثلهم من شرائح المجتمع وتجهر بالمطالبة بالتحرر ودحر التبعية بكل أنواعها. هل هناك من نية لإفساح المجال أمام الشباب لتسليم المسؤولية بمنظور ورؤى مستقبلية جديدين. الجاري من الماء نقي، والراكض منه عكر. نحن ما زلنا مستعمرين وربما أقوى ممّا كنا عليه قبل سنة 1956. نعم، ربما نحن في حاجة إلى "ثورة ملك وشعب" ثانية للوقوف أمام امتداد الأطماع التي أفقرتنا وسرقت منا هويتنا ودمرت طموحاتنا واستهانت بفكرنا وثقافتنا. نريد أن نستمرّ في الحياة أحياء كراما ولا لأن نعيش مهانين مقهورين. أين نحن من حقوق الإنسان وتنميتنا الاجتماعية؟ ماذا بعد ما يزيد عن 30 سنة بعد سقوط جدار برلين؟ لا بدّ وأن منظمات حقوق الإنسان العالمية تقيس بمقياس مغاير على ما كان عليه قبل انهيار الشيوعية، ولا حاجة عادت للدول الغربية أن تُوَرَّط في جرائم الاختطاف والتعذيب، ومنه لا حاجة لها في السكوت عن ما يسمح بذلك في البلدان الصديقة كما كان وما زال المستعمر يسميها. ذلك الحدث قد شفع لبعض شعوب العالم الثالث - ومنها المغرب - لتعتمد هذه الأخيرة مواقف ليبرالية ولو أنها ما زالت إلى يومنا هذا لا ترقى إلى الحرية بمعناها الكامل. كما أننا ما زلنا في أمس الحاجة إلى إرادة قوية لأجل القضاء على الفساد والاستبداد بكلّ أشكاله، نحن في حاجة إلى مؤسسات قائمة بذاتها وتتمتع بالاستقلالية في القرار، ولا أفق لذلك في غياب مبادرات سياسية بمشاريع جديدة قصد تكريس ديموقراطية حقيقية تضمنها أحزاب ذات إيديولوجية قوية قادرة على الاستجابة لانتظارات المواطنين، وملتزمة ببرهان التناوب السياسي على السلطة، على أساس التقاطب السياسي الإيديولوجي الواضح تبعا لمعالم أساسها اختيارات وقرارات يحددها المواطن. وهذا يستلزم مكونات سياسية تحظى بنَفَس التغيير الحقيقي وتأتي بمبادرات بدائل قوية دون إقصاء الغير، بل على العكس من ذلك أن تأتي ببدائل تعتمد في ركائزها على ما اتُّفِق عليه بين مختلف المرجعيات وطرح ما اختُلِف فيه جانبا، ما دام الجوهر يعد في حد ذاته بمثابة نضال جديد ومقاومة جديدة لأجل التحرر من التبعية وبناء درب المبتغى في المستقبل. *أكاديمي مقيم بألمانيا