أيها الباحثون عن جثمان المهدي بنبركة، ألازلتم تظنون ولو مجرد ظن نسبته واحد بالمائة أنكم ستحصلون على نتيجة؟ فإن كنتم كذلك، فاعلموا أنكم «بسطاء فكريا» و»مغفلين سياسيا»، ألا تعلمون، بل ألستم متيقنين، أن ملف قضية اغتيال المهدي قد كونت، رغم تقادمها، إشكالية معقدة حلها أصعب من «خرط القتاد» كما يقال؟ أتعرفون لماذا؟ بكل بساطة لأن «الضالعين» فيها ولا أقول «المتهمين» أطراف هي من لاتزال سياساتها قائمة على الإجرام، وهي من لا تنفك عن متابعة وتصفية كل من تسول له نفسه مواصلة حمل مشعل الحرية في طريق النضال ضد الاستبداد والإمبريالية والاستعمار الجديد، الذي وضعه المهدي ورفاقه في القارات الثلاث، فإن كان ولابد من الاستمرار في المطالبة، فلتكن بريئة من كل استغلال أو ابتزاز، وإلى جانب هذا انشغلوا فيما كان المهدي منشغلا به، أعيدوا للحركة الاتحادية للقوات الشعبية المصداقية التي كانت تتميز بها عن غيرها من الحركات، كقوة شعبية تقدمية مناضلة من أجل إرساء قواعد راسخة ل»مجتمع مغربي جديد». نشرت لي جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 29 أكتوبر 2014، بمناسبة اختفاء المناضل المهدي بنبركة، مقالا بعنوان «المهدي بنبركة في مواجهة الرجعية والاستعمار والصهيونية»، تناولت فيه مواجهة المهدي للرجعية أنهيته بالفقرة التالية: «والذي يهمنا في هذا السياق أن ظاهرة الرجعية كلفت المهدي بنبركة ومؤسسي الحركة الاتحادية جهدا مضنيا للتغلب عليها، وإذا كان تأسيس الحركة الاتحادية قد شكل تهديدا لمصالح الفئات الرجعية فإن هذا التهديد لم يكن أخف وطأة على الحركة الصهيونية وعلى الأوساط الاستعمارية، فهذه اعتبرت أن المشاريع الصناعية والاقتصادية التي بدأت تنجز في حكومة عبد الله إبراهيم ووزير الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد مهددة لمصالحها، وبالنسبة لتلك، فقد لمست ارتباط الحركة الاتحادية بالقضية الفلسطينية وتوجهها القومي، لهذا انبرى كل من أساطين الاستعمار ودهاقنة الحركة الصهيونية بتحالف مع الرجعية المحلية للتآمر على حركة القوات الشعبية، وعلى أبرز قيادييها المهدي بنبركة والذي أفضى إلى اختطافه واغتياله من طرف هذا الثالوث الغاشم الرجعية، الصهيونية والاستعمار، وذلك بعد صراع مرير قاده المهدي بنبركة ورفاقه ضد الرجعية كما رأينا، وبعد مواجهات ضد الصهيونية والاستعمار كما سيتم تناولها في مناسبة أخرى بحول الله». وبحلول الذكرى الخمسين لرحيل هذا القائد الفذ، سأتناول ما وعدت به وهو موضوع: المهدي بن بركة في مواجهة الاستعمار الجديد والصهيونية. كان مفهوم الاستعمار عند كثير من نشطاء الحركة الوطنية مجرد قيام دولة بفرض حكمها أو سيطرتها السياسية أو الاقتصادية خارج حدودها على شعب دولة أجنبية، وعلى غير رضا أهدافها، وتستهدف السيطرة الاقتصادية استغلال الإقليم وسكانه، (احمد عطية الله، القاموس السياسي، ص58 ط3)، وحسب هذا المفهوم فإن هذا الوضع ينتهي بانسحاب جيوش وإدارة الدولة المستعمرة واستعادة الدولة المستعمرة لاستقلالها، والقليل من الفاعلين السياسيين من كان يفهم أن الاحتلال العسكري لبلد ما، ليس ضروريا لاستمرار السيطرة على بلد آخر، لأن الاستعمار «قد يحقق أغراضه بدون إقامة قوات احتلال عسكري»، ومنهم المهدي بنبركة، فالذين عاصروا الفترة الأولى لاسترجاع المغرب استقلاله (من 1956 إلى 1960) واستمعوا إلى المحاضرات والأحاديث التي كان يلقيها، مايزالون يتذكرون أن أول سياسي مغربي سمعوه يتحدث عن الاستعمار كمصطلح لم يألفوه من قبل وهو «الاستعمار الجديد»، فعلى سبيل المثال أذكر أنني استمعت إليه وهو يلقي محاضرة في سينما «فوكس» بوجدة عام 1959 بعد تأسيس الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وكان من جملة ما ركز عليه أن الاستقلال السياسي لبلد ما لا يكفي مادام لم يستقل اقتصاديا وثقافيا، ولجدة المصطلح وتعدد المحاور التي تطرق إليها المهدي في تلك المحاضرة، لم أتمكن من استيعاب ما يعنيه مصطلح «الاستعمار الجديد»، ولكن بتكرار سماعي لأحاديثه خلال هذه المرحلة تمكنت من تكوين فكرة حول هذا الاستعمار، وتبين لي مدى الفرق بين هذا الاستعمار والاستعمار في صورته القديمة، وسأجد نفس المعنى للاستعمار الجديد عند إطلاعي على مؤلف بعنوان «القاموس السياسي» لأحمد عطية الله ص 58، الصادر عام 1968، ففيه تعريف الاستعمار الجديد لا يكاد يضيف شيئا عما عرفه به المهدي بن بركة، والفرق هو أن تعريف القاموس السياسي أكاديمي لا يختلف عن ذلك، وهذا ما جعلني أراهن على أن المهدي بن بركة هو أول سياسي عربي استعمل مصطلح الاستعمار الجديد، وإن كان هناك من تناوله بصيغ أخرى. من المعروف إن جل أحاديث المهدي ومحاضراته كانت مرتجلة لم تحظ بالتوثيق لا كتابة ولا تسجيلا صوتيا، إلا ما ندر منها مما نشرته بعض الصحف التي يستعصي الإطلاع عليها لأسباب لا يعلمها إلا باحثون حاولوا ذلك دون جدوى، ولا يفوتني في هذا السياق أن أنوه بمبادرتي الصديقين عبد اللطيف جبرو شفاه الله، ومحمد عابد الجابري رحمه الله، حيث أنجز الأول كتابا بعنوان «المهدي بنبركة» والثاني خصص العددين السادس والسابع من سلسلة مواقف ليتحدث فيهما باختصار عن جوانب تتعلق بفكره ونشاطه. وإذا كان من حظ الصديقين أنهما رافقا المهدي عن قرب كصحفيين لازماه في حله وبعض ترحاله، ما أهلهما ليتوفرا على «بنك» للمعلومات المتعلقة بأنشطته، فإني لحرماني من هذه الحظوة لا أتوفر على الكافي من المعطيات للحديث عن شخصية المهدي ومواقفه مثل ما يتوفران عليه، ومع ذلك ماتزال ذاكرتي وبعض ما دونته ولايزال قيد مذكرات لم ينشر منها إلا مقالات في جريدة الاتحاد الاشتراكي حول عمر بنجلون والمهدي بنبركة رحمهما الله في مناسبات ذكرى رحيلهما. مايزال هذا وتلك يحتفظان بكثير من الأحداث والمواقف والمحن التي عانت منها الحركة الاتحادية للقوات الشعبية وقادتها ومناضليها على جميع المستويات ومنهم الشهيد المهدي رحمه الله. فالمهدي واحد من الشخصيات العملاقة المتنورة التي زخرت بها القارات الإفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية في النصف الأول من القرن العشرين وبعده بسنوات، أمثال ماوتسي تونغ، وهوشي منه، وغاندي، ونهرو، وجمال عبد الناصر، وأحمد بنبلة وسوكوتوري، ولومومبا، ومودي كيتا، وسانغور، وكاسترو، وغيفارا... لقد كان هؤلاء رموزا من رموز الحركة التحريرية ومناضلين ضد الوجود الأجنبي في بلادهم، أي الاستعمار في صورته القديمة، ولما استرجعت بلادهم استقلالها السياسي انبروا لمواجهة الاستعمار في صورته الجديدة، وبصرف النظر عن تفاوت مواجهاتهم –ثورة أو اعتدالا- فإنهم كانوا يشكلون خطرا على استمرار هيمنة الدول الاستعمارية واتساع مناطق نفوذها. وكان هؤلاء من جهة أخرى حربا عوانا على الغزو الاقتصادي والسياسي والثقافي الهادف إلى طمس الهوية الوطنية لبلدانهم في اتجاه جعلها فاقدة الإرادة في اتخاذ قراراتها ومواقفها بما يتلاءم ومصالحها خاصة. وسواء كان هؤلاء حكاما، أو قادة أحزاب معارضة، فإن قاسمهم المشترك هو شعورهم بخطورة الاستعمار الجديد على تنمية بلادهم وتقدمها، والتزامهم بمواجهة الاستعمار قديمه وجديده. كان المهدي بنبركة من هؤلاء، وكما نعته في قصيدة مطولة لم يكتب لها النشر بعد: ما مثله من يسأل عن أصله*******أو يقاس بغناه أو فقره ما مثله من يبحث عن جنسه********أو جاه له أو غزارة علمه ليس من هو بل ما هو إن*******ريم بحث أو علم بكنهه هو رمز مشارك في اسمه********هو فذ فريد في نوعه رمز بعناوين فلما التأمت*******في امرئ واحد من عصره ما ازدان به الفراش حتى******* بدا بريق النباهة في سمته وما اودع المهد لراحة*********إلا تململ فورا في مهده وقد ضمنت القصيدة أبياتا أعبر فيها عما كان المهدي يشير إليه في خطبه بشأن خطورة الاستعمار الجديد وهي كالآتي: لا تنخدعوا إن دخيل بدا *******مهادنا إذ السيف في غمده فللدخيل أساليب معمقة*******تعفيه من تغريبه لجنده يرحل الدخيل، ينبت ربيبه*******ذاك عتيق وذا جديد بلونه قديم أو جديد مستعمر********فأرضنا منهكة بوطأة نهبه ما جدوى حوزتنا لأرضنا *******إن كنوزها «سوقت» إلى أرضه؟ الذين احتكوا بالمهدي سواء أيدوه أو اختلفوا معه أو حتى صارعوه لا يمكن لهم إنكار بعض المؤهلات القيادية التي كان يتميز بها، وهي الدينامية، الحسم، القدرة الفائقة على التبليغ... وطني حتى النخاع، خصم لدود للرجعية وللاستعمار قديمه وجديده، وللصهيونية كما سيتضح... فالمهدي بنبركة واحد من الشخصيات المغربية التي نجد أسماءها واردة في القاموس السياسي المشار إليه سابقا، وهي حسب موقعها في صفحات القاموس، المهدي بنبركة ص 217 والحسن الثاني ص 463 وعبد الكريم الخطابي ص 780 وعلال الفاسي ص 809 ومحمد الخامس ص 1156، وقد ورد في القاموس تعريف للمهدي أنقله على أن أضع بين قوسين معلومات تحتاج إلى تصويب: «جاء في القاموس ما يلي: «زعيم مغربي» وهو مهدي (المهدي) بنبركة، ولد عام 1919، ودرس الرياضيات وتخرج من جامعة الجزائر، وحصل على درجة الأستاذية من جامعة باريس، وعمل أستاذا بها كما اختاره الملك محمد الخامس معلما لولي العهد الملك الحسن، اشترك في حزب الاستقلال وكان من أبرز زعمائه، قبض عليه الفرنسيون عام 1944 وألقي في السجن عامين، ثم اشترك في ثورة 1951، وقضى في سجنه بالصحراء أربع سنوات حتى أفرج عنه عام 1954، اشترك في الحركة الوطنية التي مهدت لعودجة الملك محمد الخامس بعد عزله عام 1952 (لعل صاحب القاموس يقصد بهذا مشاركة المهدي في مفاوضات إيكس ليبان...) ولاه الملك رئاسة اللجنة الاستشارية لوضع الدستور عام 1955 (رئاسة المجلس الاستشاري عام 1957، وليس اللجنة الاستشارية لوضع الدستور عام 1955). كون حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1958 (1959 وليس 1958) بعد انشقاقه عن حزب الاستقلال وتزعم حركة إصلاحية اتهمت باليسارية، انتخب عضوا بالبرلمان عام 1963 ولم يلبث أن اتهم بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم، فلجأ إلى القاهرة بينما صدر الحكم عليه، وجرت محاولتان لاغتياله في جنيف وألمانيا. اختير رئيسا للجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث الذي عقد بعد ذلك في مدينة هافانا بكوبا 4 يناير 1966، وفي أكتوبر 1965 غادر القاهرة إلى باريس، وفي اليوم التالي اختطف اثناء سيره نهارا بأحد شوارع العاصمة الفرنسية، واتهم القضاء الفرنسي وزير داخلية المغرب (افقير) بتدبير اختطافه واغتياله، وطالب ديجول بإقالة الوزير المغربي والقبض عليه، وأحاطت بالحادث إشاعات وتكهنات». ولاشك أن ورود اسم المهدي بنبركة ضمن شخصيات عالمية ودولية مرموقة، ولم يكن اختياره إلى جانب الشخصيات المذكورة مع أنه –رسميا- ليس حاكما ولا زعيم حزب لبرهان على أنه يتمتع ب»كارزمية» لا تستند إلى اعتبارات بروتوكولية حكومية أو حزبية أو فئوية أو طائفية، وإنما إلى مؤهلات شخصية تميز بها عن نظرائه السياسيين، وأول من تفطن لخطورتها، الأوساط الرجعية التي تقدم الحديث عنها في مناسبة سابقة، والاستعمار والصهيونية محور هذا المقال. ينتمي المهدي بنبركة إلى الرعيل الثاني لرواد حركات التحرر في إفريقيا وآسيا أمثال الخطابي ونهرو وسوكارنو وهوشي منه، الذين برزوا كقادة في مراحل النضالات التي خاضتها شعوب العالم الثالث لاسترجاع الاستقلال والسيادة، والوحدة الوطنية. والذين بجهودهم تحررت أوطانهم من قبضة الاستعمار والاستغلال الذي كابدته سنوات وقرونا تمتد في أعماق الزمان. وقد ناضل هؤلاء من أجل تحرير بلدانهم في إطار أحزاب وطنية داخلية وأيضا في إطار تكتلات عالمية يذكر منها مؤتمر بروكسيل في فبراير 1927، ومؤتمر العلاقات الآسيوية بنيودلهي في مارس 1947 ومؤتمر باجيو بالفلبين في نهاية ماي 1950. وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 ازداد التكتل توسعا وتأثيرا في المحافل الدولية، ولاسيما بعد انعقاد مؤتمر باندونغ في الفترة ما بين 18 و24 أبريل 1955 حيث حضرته 29 دولة «كان الهدف الأساسي لهذه المؤتمرات بما فيها مؤتمر باندونغ هو الحيلولة دون انتشار نفوذ إحدى الدولتين العظميين في كل من قارتي آسيا وإفريقيا، ووضع حد فاصل لتوزيع العالم إلى معسكرين متصارعين، وتمكن الدول الصغيرة النامية من تخطيط مصيرها بنفسها أو اختيار سياستها الخارجية دون أي ضغط أو تدخل خارجي» (احمد مفتاح البقالي، حركة عدم الانحياز (1980، ص93). وبعد هذا المؤتمر استرجع المغرب استقلاله السياسي الذي اعتبره المهدي استقلالا شكليا مادام اقتصاد البلاد لم يتحرر من هيمنة الأجانب واستغلالهم وكان يشاركه في وجهة النظر هذه مجموعة من المواطنين المتنورين أمثال عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، المحجوب بن الصديق وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد البصري، وكان هؤلاء وراء التأميمات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الرامية إلى تخليص المغرب من رواسب الاستعمار التقليدي، وتحصينه من تبعيته للسياسات الأجنبية وخضوعه لنفوذ ما صار يعرف ب»الاستعمار الجديد»، وحتى لا تصبح مع مرور الزمان احتياطا عسكريا واقتصاديا وسياسيا للاستعمار الجديد. الذين رافقوا أنشطة المهدي وتحركاته يلاحظون أن مواجهته للاستعمار الجديد، مدعوما بهؤلاء الرفاق كل حسب مؤهلاته وموقعه كان ذا مسلكين الأول عملي والثاني نظري، يتجلى الأول في عنايته بمكونات المجتمع المدني ورهانه على المنظمات الشعبية مثل النقابات العمالية والطلابية وجمعيات الشباب علما منه وممن يشاركونه نفس التوجه أن العقبة الكأداء في وجه التحرر الاقتصادي والاجتماعي هو ما خلفه عهد الحماية من آثار ورواسب أخطرها ما أسماه محمد عابد الجابري «القوة الثالثة» التي أنشأتها فرنسا بهدف «الضغط على الملك محمد الخامس لحمله على قطع علاقاته مع الحركة الوطنية والتوقيع على الظهائر التي تقدمها له سلطات الحماية في موضوع ملاحقة وتصفية قيادة حزب الاستقلال وأطره ومناضليه من جهة، ومنح المعمرين والجالية الفرنسية في المغرب عموما حقوقا لم تمنحها لهم معاهدة الحماية من بينها حق المواطنة» (الجابري مواقف عدد 3 ص24). ولما فرض على فرنسا الخضوع لإرادة الشعب المغربي «قررت القبول بعودة محمد الخامس ومبدأ الاستقلال، ولكي تبقي بزمام الأمور في يدها أعادت تشكيل «القوة الثالثة»، وكيفتها مع الظروف الجديدة لتجعل منها المنافس الوطني المعتدل لحزب الاستقلال، وأيضا المزاحم له على المؤسسة الملكية، وهكذا فرضت فرنسا هذه «القوة الثالثة» الجديدة بمكوناتها كأطراف في المفاوضات إلى جانب حزب الاستقلال ومن ثم كشركاء في حكومة الاستقلال»، وهكذا رتب الفرنسيون الأمور بالشكل الذي تبدو فيه عودة محمد الخامس مدنية ليس للمواطنين وحدهم، بل كذلك لهؤلاء «المعتدلين» وأيضا لخصوم محمد الخامس بالأمس (الكلاوي وحركته) الذين أعلنوا «التوبة» ودخلوا أيضا ضمن «الإجماع الوطني على عودة الملك» (نفس المرجع ص25) (...) كان من نتائج مفاوضات «إيكس ليبان» كما هو معلوم الاتفاق على عودة الملك محمد الخامس وعلى تشكيل حكومة تشارك فيها شخصيات من الأطراف المشاركة في هذه المفاوضات. «أما الفرنسيون فقد أصروا على إسناد رئاستها الى مبارك البكاي لاعتبارات تباينت الآراء بشأنها، ولعل أرجحها هو موقفه من خلع الملك ونفيه، وهذا ما يفهم من التقرير الذي تقدم به عبد الرحيم أمام المؤتمر الاستثنائي بتاريخ 02 دجنبر 1955 إذ جاء فيه: «لقد قبلنا برئاسة البكاي لموقفه النبيل في غشت 1953 (...) وما أكثر مسيري الحزب وأعضائه الذين لا يقبلون ذلك إلا على مضض..» وهذا فعلا ما حدث، فالأغلبية الساحقة من المتحزبين لم يستسيغوا أن تسند رئاسة الوزارة إلى شخص لم يكن ينتمي إلى حزب الاستقلال باعتباره الحزب القوي الذي بجهوده وتضحيات مناضليه استرجع المغرب استقلاله، ولم يتضح لهم وللرأي العام سر هذا القبول إلا حين أخذت الاتهامات توجه لقادة حزب الاستقلال بشأن نتائج مفاوضات «إيكس ليبان». وبصرف النظر عما قيل عن «مفاوضات إيكس ليبان» فإن ما كان يهم أغلبية الشعب المغربي في تلك الآونة هو عودة محمد الخامس إلى عرشه، وحصول المغرب على استقلاله، وسيتبين لبعض نشطاء حزب الاستقلال ومنهم الجابري الذي كان مقربا إذاك إلى قيادييه بحكم عمله كصحفي في جريدة «العلم» وقد نشر معلومات استقاها منهم في هذا السياق في نفس المرجع ص26 ومنها «أن قيادة المقاومة وجيش التحرير قبلت أن تنتهي المفاوضات إلى عودة محمد الخامس والاعتراف بالاستقلال» ويضيف «وهكذا وقع نوع من التواطؤ التاريخي جعل مفاوضات إيكس ليبان تتم شكليا في إطار يجمع جميع الأطراف المغربية»، أما الحقيقة فقد كانت مفاوضات بين الطرف الليبرالي المعتدل في الحكومة الفرنسية ومماثله في قيادة حزب الاستقلال (...) وأن اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال «عقدت اجتماعا بمدريد في منتصف نوفمبر 1955 لتحديد الموقف الذي سيعرض على المؤتمر الاستثنائي للحزب، وقد حضر الاجتماع كل من علال الفاسي وبلافريج ومحمد اليزيدي وعمر بن عبد الجليل وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الكبير الفاسي ولم يحضره المهدي لأنه كان منشغلا في الرباط بالإعداد التنظيمي ل»المؤتمر» وكان القرار الذي اتخذته اللجنة التنفيذية بمدريد يتألف من نقطتين: 1-التمسك بمبدأ الاستقلال التام وعدم التنازل عنه خلال مفاوضات الاستقلال. 2-المشاركة في الحكومة الائتلافية على أساس وضع جميع السلطات في يد محمد الخامس لقطع الطريق أمام استعمال الفرنسيين لأصدقائهم في الحكومة الائتلافية وعلى رأسهم مبارك البكاي رئيس الحكومة، أما كيفية تقديم هذا القرار إلى «المؤتمر الاستثنائي» فذلك ما كلف به المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يمسك بجميع «مفاوضات إيكس ليبان». كانت عودة الملك محمد الخامس أولى أولويات بالنسبة لعبد الرحيم بوعبيد، وهذا ما يرويه الصديق عبد اللطيف جبرو في مؤلف له تحت عنوان «إيكس ليبان، ملفات وحقائق» ص12، الذي جاء فيه: يقول عبد الرحيم بوعبيد في حديث مع مجلة جون أفريك سنة 1982 لما حضر الكاتب الأول إلى العاصمة الفرنسية بمناسبة وفاة بيير مانديس فرانس «من جهتنا في حزب الاستقلال كنا نطالب بعودة الملك كشرط أساسي لفتح كل مفاوضات بشأن مستقبل العلاقات الفرنسية، لهذا قلت لرئيس حكومة فرنسا (يحكي السي عبد الرحيم) كما كان لكم في التاريخ القريب رجل يحسم في أعين الفرنسيين المشروعية الوطنية، ستدركون بدون صعوبة أنه بالنسبة إلينا نحن المغاربة، هناك رجل آخر لعب نفس الدور، وحيث أنكم ترون في الجنرال دوغول رجل 18 جوان 1940 فإن محمد الخامس بالنسبة إلينا هو رجل 11 يناير 1944». كان قادة الحركة الوطنية وفي مقدمتهم المتنورون الذين «تمدرسوا» في المعاهد الأوربية والشرقية وتخرجوا منها بعد أن تزودوا بحظ من النظريات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، وتمكنوا بحكم احتكاكهم بشخصيات لها مكانتها السياسية والنضالية، ولها تجارب مريرة في مواجهة الاستعمار، وذات خبرة في إدارة الأزمات وحبك المناورات وقد تميز من بين هؤلاء الحسن الوزاني والحاج احمد بلافريج والمهدي بنبركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد... وستتاح لي ولغيري الفرصة لاستجلاء ما كان يعتري بعض الأحداث من غموض والتباس وذلك حين اضطر قادة الحركة الوطنية إلى الدفاع عن أنفسهم ضد ما وجه إليهم من اتهامات بشأن بعض المواقف المتعلقة بقضايا حساسة ومنها مفاوضات «إيكس ليبان» وقبول تشكيل حكومة ترأستها شخصية مفروضة من الحكومة الفرنسية والمتألفة من أغلبية غير استقلالية، ومن بين التبريرات، التذكير بمقرر المؤتمر الاستثنائي الذي حدد مهام الحكومة التي «ستكون مقصورة على مفاوضة مع فرنسا حول طبيعة العلاقات التي يجب أن تبنى بينها وبين المغرب المستقل وبعبارة قصيرة مفاوضات إنهاء الحكم الفرنسي المباشر، أما تنظيم الشأن الداخلي في المغرب، بما في ذلك الديموقراطية والدستور فذلك ما يخص المغاربة وحدهم، وبالتالي فهو ليس موضوع للمفاوضات، وهكذا فمادامت رئاسة الحكومة لن تكون من نصيب حزب الاستقلال، ومادامت مناصب مهمة في هذه الحكومة ستستند إلى شخصيات من «الأطراف الأخرى» فيجب أن تنحصر مهمة الحكومة في المفاوضات مع فرنسا، وملفها كما هو معلوم في يد الحزب وبالذات في يد عبد الرحيم، فمن هذه الناحية إذن لا خطر، وما لا يقبله الحزب لن يكون». أما الشؤون الأخرى، وبالخصوص منها ممارسة السلطة وهيكلة الدولة «فيجب أن توضع كلها في يد الملك وحده، لأنه هو وحده الضمانة، إن هذا يعني أن السلطة التشريعية يجب أن تبقى كلها في يد الملك، فلا يفوض منها شيئا إلى الحكومة ولا يمكن أن يسلمها إلا لمجلس وطني منتخب كامل السيادة، إن اختصاصات الحكومة الانتقالية –موضوع الكلام- يجب أن تنحصر في إصدار قرارات تطبيقية خاصة بالنصوص التشريعية الصادرة عن جلالة الملك مع إمكان اقتراح مشروعات قوانين» (مواقف عدد 3 ص34). وحسب الجابري كان التقرير، كما هو واضح، تبريريا ولكن يمكن اعتباره بالنظر إلى الظروف التي قدم فيها تقريرا ناجحا، خصوصا في أهم مسألة كانت تواجه الحزب، مسألة الدور الذي ستلعبه «الأطراف الأخرى» التي أقحمت في اللعبة خلال المفاوضات التأسيسية، مفاوضات إيكس ليبان، أن حصر مهمة الحكومة في التفاوض مع فرنسا معناه أن الحزب هو الذي سيمسك بالملف، كما أن جمع السلطة التشريعية في يد محمد الخامس «معناه أن الشعب هو صاحبها لأن محمد الخامس لن يتصرف إلا بما تمليه مصلحة الشعب» وأيضا «لأن العلاقة بين حزب الاستقلال ومحمد الخامس كانت علاقة تحالف منذ 1943، على الأقل، وقد توطدت في الحلف السري الذي جمعهما رسميا بمناسبة تقديم وثيقة الاستقلال في 11 يناير 1944». ويبدو أن الجابري استقى هذا التبرير مما كان قادة حزب الاستقلال يواجهون به من يتهمهم بالتساهل أمام الأطراف الأخرى ومنها المناوئة للحزب، ونفس هذا التبرير هو ما كنا –نحن شباب الحزب- إذاك نسمعه من نفس الشخصيات، منا من اقتنع ومنا من ظل الشك يساوره إلى أن أخذت بعض المصطلحات «تزدان» بها أدبيات السياسة كالمثالية والواقعية وإدارة المفاوضات و»الفضيلة» كقيمة سياسية والتي تعني في مفهوم مكيافيللي «إن أفضل الوسائل ما يفضى إلى النجاح بصرف النظر عن كل اعتبار أخلاقي...» وهو ما يعرف ب»الغاية تبرر الوسيلة» لم يكن بعضنا في فترة إجراء المفاوضات مطلعا على مجرياتها الخفية لأننا كنا منشغلين بأنشطة حزبية –كلفنا بها من طرف الحزب كالكشفية والمسرح وتنظيم قطاع الطفولة والشباب. والمهم هو أن محمد الخامس عاد إلى عرشه، وأن السجناء أطلق سراحهم وضمنهم عدد كبير ممن نجوا من تنفيذ الحكم بالإعدام الذي صدر في حقهم. ولعل ما يمكن الاستئناس به في هذا السياق هو ما يرويه الجابري في نفس المرجع ص28 حيث قال «وإذا نحن نظرنا إلى الأمور من الزاوية التي كانت تنظر منها اللجنة التنفيذية يومئذ أمكن القول إنها كانت تجد نفسها إزاء إكراهات بعضها يرجع إلى الوضع الداخلي في فرنسا وبعضها يعود إلى الوضع داخل المغرب وفي حزب الاستقلال نفسه». وقد أرجع الجابري هذه الإكراهات إلى جهتين «فمن جهة كانت الحكومة الفرنسية تواجه ضغوطا قوية من جانب المعمرين وأصحاب المصالح الفرنسيين بما في ذلك الغلاة وبعض العسكريين، وكان «الجميع» يرفض إرجاع محمد الخامس لأنهم كانوا يرون في ذلك مسا ب»الكرامة الفرنسية» من جهة، انتصارا لحزب الاستقلال العدو اللدود للغلاة الفرنسيين من المعمرين والعسكريين، وتنكرا من جانب فرنسا ل»أصدقائها» الذين وقفوا إلى جانبها في معركتها ضد حزب الاستقلال ومحمد الخامس من جهة ثانية». أما من جهة المغرب يضيف الجابري «فقد كان هناك رأيان: رأي الزعيم علال الفاسي الذي كان يرى أن الطريق الوحيد لمواجهة ضغوط المعمرين والغلاة لفرنسيين هو تصعيد المقاومة المسلحة والمضي في تقوية جيش التحرير وتسليحه والسير قدما في اتجاه التنسيق مع الثورة الجزائرية (...) أما الرأي الثاني فهو رأي بعض أعضاء اللجنة التنفيذية بالرباط»، فحسب الجابري كانوا «يرون في هذا الاتجاه خطرا على الحزب أي على هياكله القديمة وقيادته التقليدية» وحسب رأيه ايضا «لم يكن كثير من أعضائها (اللجنة التنفيذية) يرتاحون للكفاح المسلح (نفس المرجع ص 29) ومادمنا في سياق الحديث عن مواجهة المهدي للاستعمار، وبما أن الأمر يتعلق بإدارة المفاوضات بين المغرب وفرنسا في قضية من أخطر القضايا وهي العمل على استرجاع البلاد لاستقلالها، وهي قضية يتقاطع فيها ما هو سياسي واقتصادي ودبلوماسي بما هو إداري وثقافي وبما هو أمني داخلي (جهاز الشرطة) وخارجي (الجهاز العسكري) ولم يكن قادة الحركة الوطنية يجهلون ما للمفاوضات من خطورة سيما إذا تعلقت بقضية مصيرية وبين طرفين غير متكافئين لا قوة ولا نفوذا، وليسا متساويين ولا حتى متقاربين في الإلمام بأساليب المناورة ولا في امتلاك خبراء استراتيجيين في إدارة المفاوضات، ولم نكن ندري ما إذا كان اختيار المفاوضين بناء على هذه الاعتبارات روعي فيه ميزان القوى للأطراف. وسيعلم بعد حين أن الملك محمد الخامس أوعز بأن «يمسك عبد الرحيم بوعبيد بجماع مفاوضات إيكس ليبان» والذين يعرفون العلاقة التي كانت تربط بين عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة يدكون ماذا تعني هذه الإشارة، لقد كانا صديقين حميمين شاءت الأقدار أن يقتبسا معرفتهما وثقافتهما وخبرتهما السياسية من معين واحد وعلى أيد نخبة من مشاهير العلماء والمثقفين المتنورين ممن كانت تزخر بهم معاهد فرنسا في أربعينيات القرن العشرين وهما بصرف النظر عما بينهما من اختلاف في المزاج فإنهما كانا منسجمين فيما يفكران فيه وفيما يتخذانه من قرار على أن اختلافهما في المزاج هو سر تجنب الحزب الذي كانا ينتميان إليه من الأزمات أو حتى الانفجار سواء في حزب الاستقلال أو بعده في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (وهذا الجانب قد لا يتذكره إلا المسؤولون في حزبي الاستقلال والاتحاد) ستتم الإشارة إليه أن طال العمر... وسنكتفي بما له علاقة بموضوعنا وهو ما راج عن مفاوضات «إيكس ليبان». سبقت الإشارة أعلاه إلى أن عبد الرحيم بوعبيد هو الذي أمسك بجماع هذه المفاوضات وهذا يعني أن ملفها في يد حزب الاستقلال ومن هذه الناحية إذن لا خطر، فما سيقبله الحزب سيكون، وما لا يقبله الحزب لن يكون.. علاوة على أن «ممارسة السلطة وهيكلة الدولة يجب أن توضع كلها في يد الملك وحده، كما سبقت الإشارة إليه. تواطؤات تاريخية سبقت الإشارة إلى أن نوعا من التواطؤ التاريخي حسب الجابري قد وقع «جعل مفاوضات إيكس ليبان تتم شكليا في إطار يجمع «جميع الأطراف المغربية» أما في الحقيقة والواقع فقد كانت مفاوضات بين الطرف الليبرالي المعتدل في الحكومة الفرنسية ومماثله في قيادة حزب الاستقلال...» هذا حسب رأي الجابري، أما الواقع فهو غير ذلك. فمفاوضات «إيكس ليبان» حدثت بين طرفين غير متكافئين، بين فرنسا التي على رأسها حكومة وأجهزة تشرف عليها شخصيات ذات كفاءة وخبرة في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية بما فيها «الدبلوماسية» التي تعتبر المفاوضات إحدى مجالاتها، والمهم هو أن الطرف الممثل لفرنسا كان واحدا تمثله حكومة منسجمة لم تقرر الدخول في المفاوضة مع المغرب إلا بعد الإعداد له من جميع الجوانب مع ما يستلزمه ذلك من حبكة ومناورات.. وبين طرف غير حكومي لا نحتاج إلى مقارنته بالطرف الآخر، لأن أقل ما يمكن أن ينعت به أنه يتكون من شخصيات لم تكن بعد قد ضمدت ما تعانيه من المستعمر من جراح، إلى جانبهم «شخصيات مغربية وجه إليها الاستدعاء إلى إيكس ايبان ويتعلق الأمر بمن يمثلون النزعة المسماة بالتقليدية، هؤلاء يقدمونهم حسب ما يبدو بأنهم يمثلون أغلبية المغاربة مع أنهم في الحقيقة لا يمثلون إلا أنفسهم مع ما في ذلك من إخلال بالتوازن على حساب القوة التي تمثل حقيقة الرأي العام المغربي، وهكذا يلاحظ أن ممثلي الطبقة العاملة صاروا موضع نسيان كلي» (عبد اللطيف جبرو «إيكس ليبان» ص8). وأضيف إلى غياب ممثلي النقابة «عدم حضور ممثلي المقاومة وجيش التحرير وأن هاتين المنظمتين –النقابة والمقاومة وجيش التحرير- هما اللتان كانتا موجودتين على الساحة من حيث التنظيم والتأثير، في غياب المنظمات الأخرى بما فيها الحزبية، وأن حزب الاستقلال «لم يطرح مشاركة المقاومة والنقابات في المفاوضات مع أنها كانت لها تمثيلية حقيقية (...) لأن الفرنسيين لم يكونوا ليقبلوا التفاوض مع من حملوا السلاح ضدهم (الجابري مواقف عدد 3 ص26). ليس هذا وحسب بل أن الحكومة الفرنسية «اشترطت على القيادة الاستقلالية بوصفها تمثل المقاومة وجيش التحرير التدخل لإيقاف «أعمال العنف» سواء في صورة العمل الفدائي أو في صورة هجمات جيش التحرير كشرط مسبق وأن قيادة المقاومة وجيش التحرير قد قبلت ذلك شريطة أن تنتهي المفاوضات إلى عودة محمد الخامس والاعتراف بالاستقلال» (نفس المرجع ص26). ولم يكن مسيرو الحزب والنقابيون وأعضاء المقاومة وجيش التحرير ليقبلوا ولو على مضض، كما أشار إلى ذلك عبد الرحيم بوعبيد في التقرير الذي قدمه في المؤتمر الاستثنائي، لولا المكانة التي كان بعض قادة الحزب يحظون بها، ولو لم تتم استشارتهم قبل موعد المفاوضات. وهذا ما نجده واردا في كتاب «ذاكرة وجهاد» للمقاوم المعروف الغالي العراقي الذي خصص فيه فقرات عن اجتماع عقد بمدينة تطوان حضره المهدي بنبركة وأعضاء من قيادة جيش التحرير وهم الخطيب، برادة، حسن صفي الدين، سعيد بونعيلات والغالي العراقي، وقد جاء في الكتاب أن «الاجتماع حصل قبيل سفر الوطنيين إلى إيكس ليبان تلبية لدعوة الحكومة الفرنسية التي كانت ترغب في معرفة وجهة نظر المغاربة السياسيين منهم والمستقلين وفق ما أذيع آنذاك خصوصا وأنهم –أي الفرنسيين- استمعوا لوجهة نظر الخونة والمتعاونين والمعتدلين من أنصار البقاء الاستعماري، ومن أجل ترتيب هذه المفاوضات بدأ حزب الاستقلال يتحرك لتحديد العمل المقبل» (...) استغرق الاجتماع زهاء ساعتين وأعقبه نقاش مفتوح وتوضيحات إضافية حول اتصالات غرنفال المقيم العام الجديد مع الوطنيين للاطلاع على رأيهم.. (...) وأن قيادة جيش التحرير أكدت للمهدي بأنها تتبع التطورات والتحولات عن كثب وأن الحل هو تشبث المغاربة بالشرعية ولا شيء غير الشرعية، كنا واضحين مع السي المهدي كما كان بدوره مقتنعا في كلامه واضحا في تفسيراته وقلنا للمهدي: لقد بلغت الرسالة وفهمنا المقصود، وفكرة التواصل هذه جيدة في حد ذاتها وتستحق كل العناية والمباركة، قلنا له: نحن لا نعارض ذهابك حيث تشاء، وتناقش أو تفاوض من تشاء، فإن استطعت تحقيق كل هذا فذلك هو المراد...(نقلا عن كتاب جبرو السابق الذكر ص30، بتصرف) وانتهاء اللقاء بقول قادة جيش التحرير «نحن لا نعارض ذهابك حيث تشاء، وتناقش أو تفاوض من تشاء» كافية للدلالة على ما كان المهدي يحظى به من مكانة وتقدير وثقة ومصداقية لدى رفاق النضال المسلح سواء منهم الرابضون في مواقع استراتيجية في انتظار انطلاق أول عملية لجيش التحرير ليلة ثاني أكتوبر 1954 أو إخوانهم الذين كانوا يخططون وينفذون عمليات فدائية ضد المستعمر وأذنابه داخل المدن والأمر كذلك بالنسبة للمناضلين النقابيين، حسب ما أشار إليه الغالي العراقي في مؤلف آخر عنوانه «البيان والبرهان» ص173 إذ يقول «وأتذكر أن كل هذه الأركان كانت محور الاتصالات مع الإخوان بالداخل الذين كانت مواقفهم تامة ودون تردد» ولم يكن من السهل قبول قادة المقاومة وجيش التحرير والنقابيين لولا اقتناعهم بأن المهدي أكثر حرصا على ألا تكون مفاوضات إيكس ليبان لغير صالح القضية المغربية.. لم يكن المهدي ليشارك في مفاوضات «إيكس ليبان»، من بدايتها إلى نهايتها.. بدون تنسيق مع أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب ولاسيما عبد الرحيم بوعبيد، وكذا قادة المقاومة وجيش التحرير والنقابيين كما سبق ذكره في عدة لقاءات كانت تجمع المهدي بأطر الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال بعد تأسيسها عام 1959، كان المهدي يشير إلى شعوره بخطورة ما قد تترتب عنه مفاوضات «إيكس ليبان» لولا المرونة التي سلكها عبد الرحيم بوعبيد والتي تميزت بها كلمته التي ألقاها في اجتماع اللجنة الوزارية الفرنسية المعروفة بلجنة «الخمسة» المكلفة بمتابعة القضية المغربية بتاريخ 25 غشت 1955، نذكر بها كما أوردها الغالي العراقي في كتابه البيان والبرهان ص 182، «إن ما يهمنا هو مستقبل العلاقات الفرنسية المغربية، ومن الضروري التوصل إلى اتفاق بين شقي الساكنة المغربية والفرنسية، إنه لمن الخطأ عدم الاعتراف بالأحزاب المغربية، وعدم احترام الحماية كما تصورها ليوطي، وهذا ما أدى إلى حالة من الارتياب وعدم الثقة. بخصوص الموضوع الأول المتعلق بالعرش فالسلطان الوحيد الشرعي هو ابن يوسف والذي تمت تنحيته في ظروف أحبذ عدم التذكير بها، والعناصر الأكثر تمثيلية للساكنة المغربية، ذات الارتباط بالهوية الوطنية والدينية هي كذلك تم تجاوزها وبالتالي بات للجانب العاطفي أهمية كبرى، إننا نقول (الكلام لبوعبيد) نعم لحل توافقي، إننا نوافق على مجلس للعرش لكن من الضروري أن تكون هذه الموافقة متزامنة ومتوافقة مع مواقف ابن يوسف، إن هذا المجلس ينبغي أن يتكون من شخصيات مغربية محترمة (حسب ما هو ممكن) بعيدا عن أولئك الذين شاركوا في تحضير مهزلة 20 غشت 1953، وينبغي كذلك أن يشكل خارج الاحزاب لأنه يجب أن يكون فوق الجميع.. بالنسبة للمسألة الإنسانية، ابن يوسف ليس قديسا، لكنه في عيون المغاربة يمثل شخصا مقدسا، إنه يجسد المغرب في عيون الشباب والنساء، إنه إنسان حكيم وصادق أمين مع فرنسا، إذا لم ينقل ابن يوسف لفرنسا، فإن الحل سيكون أعرج، في حين الكل ينتظر من وجود محمد الخامس بفرنسا توفير الهدوء والنظام، ومضمون الاتجاه الفرنسي هو الذي وضع مشكل العلاقات الفرنسية المغربية في الميزان، بينما الاتجاه المغربي تواق إلى النمو والتفتح، فالمغرب عاش 14 قرنا من استقلال تكتنفه الغيرة على كيانه، والذود عن حرمته حتى في معاكسة (التغلغل العربي والإسلامي ورفض الحكم العثماني) وجدوى الحماية هي أنها وضعتنا على اتصال مع العالم فلفرنسا وتقنييها كل التقدير، نحن نسعى إلى التطور في اتجاه دولة حرة وذات سيادة، وسيكون هذا بمساعدة فرنسا، إننا نعي ضعف إمكانياتنا على المستوى الاقتصادي والتقني، ونعي خطر العزلة، إن مغربا مستقلا لا يمكن أن يعيش معزولا ووحيدا، ولذلك فمع فرنسا يمكننا العيش في إطار الاستقلال داخل التكامل. الحماية عاشت زمانها فيجب التفكير في المستقبل، استقلال يخضع لمفاوضات حرة نزيهة ومطلقة، تقييما للمراحل والأهداف، ومن السهل تحديد كل ذلك ونحن متوافقون.. نحن نتفهم انشغالات الفرنسيين ولذلك ينبغي مبدئيا تهدئتهم من خلال التفكير في تحديد ضمانات تناسب وضعيتهم الحقيقية». وقد ذكر نفس المؤلف في ص 184 أن السيد بيير جولي رد على كلمة عبد الرحيم بوعبيد في كتابه «جمهورية من أجل ملك» بقوله «العرض الذي قدمتموه أثر في بموضوعيته واتزانه وهو لا يتطابق مع ما يشاع عنكم من دعاية لم ألمس أن هناك عنفا أو ما يصدم، أما بالنسبة للأهداف التي حددتموها فليس عليها اعتراض، إنها أهداف فرنسا نفسها، لكن ما يهم في الحال ليس تحديد الأهداف، بل هو تحديد الوسائل وترتيب المراحل لبلوغ هذه الأهداف». هذا ما جاء في كلمة عبد الرحيم بوعبيد، ورد أنطوان بيني، حسب الغالي العراقي، ومن المفيد أن يذكر ما جاء في مؤلف آخر تحت عنوان «أحمد بن سودة» لعبد الحي حسن العمراني، ص 143 صادر عام 1991، وذلك للمقارنة ولمعرفة إلى أي مدى يقع الاختلاف في الروايات بشأن حدث ما رغم كونه موثقا ومحفوظا في الأرشيف. وقال العمراني «ثم جاء دور عبد الرحيم بوعبيد ممثل حزب الاستقلال وكان وفده يتركب من السيدين المهدي بنبركة وعمر بنعبد الجليل»، وجاء في كتاب بيير جولي وزير الشؤون المغربية والتونسية وأحد أعضاء الوفد الفرنسي في «ايكس ليبان» الذي صدر سنة 1974 تحت عنوان «جمهورية من أجل ملك» يقول: إن الأستاذ بوعبيد صرح في ايكس ليبان بقوله «إن الحماية الفرنسية قد ربطتنا بالعالم بعد أربعة عشر قرنا من العزلة المستوحشة حتى بالنسبة للإسلام، وبفضل فرنسا قد تأكدت شخصيتنا، وهذه الشخصية تطلب أن تتفتح وتزدهر، وبمساعدة فرنسا نريد أن نصير دولة حرة وسيدة، لكننا مستعدون لاحترام المراحل التي تقتضيها الظروف، فلا مراء في أن الاستقلال ليس منجزات اليوم ولا حتى منجزات الغد، وغايتنا القصوى لكفاحنا هي الاستقلال، ولكن إذا لم يكن في الإمكان منحنا إياه، فعلى الأقل تعترف فرنسا رسميا بطموح المغرب إلى هذا الاستقلال»، ولعل الغالي العراقي يقصد ما جاء في الفقرة أعلاه عندما علق على كلمة بوعبيد في «بيانه وبرهانه» ص 181 بقوله: «ومن المؤسف أن تدخل بوعبيد تعرض لبعض التحريفات قد يكون سببها الترجمة التي أخلت أحيانا بالمعنى الذي قصده صاحبها». الاستقلالوالإستعمار الجديد ليس هذا وحسب، بل إن العمراني إذ يقول ما يقول عن بوعبيد لم يفته أن يعتبر أن «من حق التاريخ الوطني على الباحثين فيه أن يسجلوا أن السيد المهدي بنبركة أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، كان قد اتصل سريا بعبد الصادق الكلاوي لمحاولة استثمار قضية والده لحساب حزبه لكنه لم ينجح في مسعاه»، هذا ما جاء في الصفحة 150 من كتابه سابق الذكر، أما إخفاق مجلس الوصاية على العرش الذي تركب من الصدر الأعظم ومحمد المقري ومبارك البكاي والصبيحي والطاهر أوعسو والذي عهد للفاطمي بن سليمان بتأليف الحكومة المغربية الأولى، فقد أرجعه إلى موقف الكلاوي حين «حل بالرباط يوم 25 أكتوبر واستقبله مجلس العرش فأعلن بكيفية صريحة أنه يطالب بالعودة السريعة لجلالة الملك سيدي محمد بن يوسف الذي يجدد له ولاءه وإخلاصه. وبمجرد ما علم أعضاء المكتب السياسي للحزب بلوزان بهذا الخبر قدروا هذا الموقف الجديد حق قدره، وحتى لا يتدخل الفرنسيون من جديد للضغط على الكلاوي للتراجع عن موقفه(...) أبرق الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال من لوزان إلى الباشا الكلاوي بما يشجعه على الثبات في موقفه الجديد وعلى إحباط حركة القواد والباشاوات والسلطات الفرنسية «لقد فات العمراني أن يعرف أن الذي فرض على فرنسا الرضوخ للأمر الواقع، والتعجيل بإجراء مفاوضات «اكس ليبان» هو عجزها عن القضاء على المقاومة السرية داخل المنطقة السلطانية، وتلقيها ضربات موجعة من طرف ثوار الجزائر، وعلمها أنها على وشك التورط في مواجهة منظمة قوية هي جيش التحرير المغربي، أما موقف الكلاوي وأمثاله من الخونة والمتعاونين، فقد كان بإيعاز من فرنسا وذلك حتى تحقق أمرين، استشارتهم كطرف مستقل، والتعويل عليهم فيما قد تبيته من سياسات ومناورات بعد اضطرارها لمغادرة البلاد كقوة ثالثة حسب تعبير الجابري، وذلك عندما تنتقل المواجهة من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. وكما هو معلوم فإن هذا الشعار هو ما ألف نشطاء الحركة الوطنية الاستدلال به عندما يريدون الحث على العمل والتضحية أكثر «بل و إن أقوالهم وكتاباتهم كانت تصب في معنى هذا الشعار، لأنهم كانوا يدركون أن ما ستواجهه البلاد بعد استرجاعها للاستقلال أخطر مما عانته قبل ذلك. فالجهاد الأصغر كان ضد الاحتلال العسكري أي الاستعمار التقليدي القديم، أما الجهاد الأكبر فهو ضد الهيمنة على مقدرات البلاد المتنوعة ولاسيما الاقتصادية، وهو ما يسمى بالاستعمار الاقتصادي الذي يعتبر أداة رئيسة بيد المستعمر الجديد معولا عليه بصورة رئيسية لتحقيق المهمات الإستراتيجية الأساسية للامبريالية في البلدان النامية بهدف «إبقاء الشعوب المتحررة ضمن نطاق الرأسمالية العالمية، والحفاظ على نظام العلاقات غير المتكافئة بين الدول الامبريالية وبلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية» (كلوتشكوفسكي، الاستعمار الاقتصادي الجديد، ص14، دار التقدم موسكو 1978) وهذا ما أدركه قادة هذه البلدان المتنورون فانبروا منذ اللحظات الأولى لانعتاق أوطانهم من رقبة الاستعمار، ينهجون سياسة تحررية شاملة، بما فيها السياسة الخارجية، مراهنين على إرساء دعائم تصون بلادهم من كل تبعية تجعلها فريسة الأطماع الأجنبية وعرضة للابتزاز السياسي أو الاقتصادي الذي يعتبر من أخطر أدوات الاستعمار الجديد. ولقد تنبه المهدي بن بركة منذ انخراطه في الحركة الوطنية إلى خطورة الاستعمار الجديد، آخذا العبرة من مصير مستعمرات استقلت سياسيا، ومع ذلك لم تزل محرومة من التمتع بثرواتها، بسبب بقاء شؤونها الاقتصادية والإدارية والثقافية بيد مستعمريها القدماء. ولهذا كان تفكيره منشغلا بكيفية خوض بلاده غمار جهاد أكبر ضد مخلفات الاستعمار التقليدي، علما أن الاستقلال الذي سيتم الحصول عليه ما هو إلا استقلال شكلي. ومما يؤسف له في هذا السياق ألا نجد إلا القليل مكتوبا عن جهاده الأصغر والأكبر ضد الاستعمارين القديم والجديد، و هذا القليل لم يطلع عليه إلا قبيل رحيله، وهو عبارة عن تقرير نشرته مجلة «وجهة نظر» في كتيب تحت عنوان «الاختيار الثوري في المغرب» (الطبعة الأولى عام 2011 ) رغم أنه أذيع قبل هذا التاريخ بكثير حسب ما جاء في تقديم الكتيب «إن هذا التقرير الذي يذاع لأول مرة، كتب منذ ثلاث سنوات، وأن الحوادث الدامية التي كان المغرب مسرحا لها في مارس 1965، وما تلاها من تطورات سياسية كانت هي الدافع إلى نشره (المقدمة للمهدي بن بركة). ويقول في فقرة أخرى «وفي هذه الساعة التي نستعرض أمامنا مشاكل بلادنا لا ينبغي أن نتجاهل ميراث المخلفات المزدوجة سواء منها التي تسبب فيها الاستعمار، أو التي ورثناها عن مرحلة تاريخية كنا مشغولين أثنائها بالدفاع عن النفس، ولم يكن بإمكاننا بسب ذلك أن نعمل لترقية بلادنا(...) كما لا نعثر إلا على إشارات عابرة عن حديثه في موضوع الاستعمار الجديد وهذا القليل لا نجده إلا في مطبوعين نشرهما حزب الاستقلال، أحدهما تحت عنوان: مسؤولياتنا والثاني بعنوان نحو بناء مجتمع جديد، وهما محاضرتان إحداهما ألقيت بالمسرح البلدي بالدار البيضاء يوم 19 ماي 1957 والثانية بتاريخ 31 يوليوز 1958 بتطوان. ونكتفي باقتطاف فقرات من المحاضرة الأولى خصصها للحديث عن الاستعمار وكيفية التخلص من مخلفاته فقد قال «إننا نعتقد أن استقلالنا ليس فقط مفتاحا للعمل والبناء وشق طريق جديدة، بل هو كذلك للاستمرار في النهج القويم الذي سرنا فيه خطوات وخطوات لتتميم ما بدأناه من مشاريع وأعمال ووسائل قليلة وصعبة أصبح اليوم في الإمكان توسيع نطاقها وتثبيت دعاماتها بما توفر لنا من وسائل وإمكانيات لم تكن متيسرة لنا بالأمس. لقد حصلنا على استقلالنا السياسي الذي عاد بنا إلى الحالة العامة التي كانت عليها بلادنا في تلك الظروف التي نكبنا فيها بالاستعمار مع شيء جديد، وهو الوعي الوطني الذي تجدد في عهد الاستعمار(...) ومازال الاستعمار يحاربنا... ولكن بطرق ووسائل جديدة... أنه لاتزال بيننا وبين الاستعمار حرب خفية، وقد عشنا سنتنا هاته في معركة مستمرة ضد الاستعمار الذي مايزال يحاربنا من وراء الستار ويتآمر على استقلالنا في صور وأساليب مخالفة بطيعة الحال لتلك التي كان يستعملها في عهد الحماية، نظرا لما حصلنا عليه من الاستقلال ولكنها مع ذلك متفقة معها في الروح والهدف، إن له وسائله وأساليبه الخاصة التي يستعملها لمحاربتنا والوقوف في وجهنا وتعويقنا عن السير، لذا يجب أن نعرف جيدا خطط الاستعمار وأساليبه الجديدة التي تمكنه من الوقوف في وجهنا حتى نكون على بينة منها ونتمكن من إحباطها». ومن الأساليب التي يستعملها الاستعمار في صورته القديمة التعجيز الإداري والمالي والفني، ولكن الأخطر ما نبه إليه المهدي في محاضرته إذ يقول «وإلى جانب التعجيز الإداري والفني والمالي الذي تمارسه الدول الاستعمارية يوجد عائق أكبر، هو التحطيم المعنوي، توجد اليوم إلى جانب كل قيادة حربية إدارة يطلق عليها «القسم السيكولوجي» وهو قسم مهم أصبح اليوم إلى جانب الجيش، وحيث أننا قد أنهينا مع الاستعمار، لازال لم يستسلم ولم يلق جميع الأسلحة لذلك نعيش اليوم وسط لهيب الحرب السيكولوجية التي يشنها علينا لا يحس أكثرنا بها»، هذا ما جاء في المحاضرة المذكورة عن مواجهة المهدي للاستعمار الجديد، أما في تقريره المشهور ب»الاختيار الثوري في المغرب»، فقد أفرد له فقرات تحت عنوان «الاستعمار الجديد في إفريقيا» جاء فيها: «دخلت إفريقيا مع سنوات الستين في مرحلة جديدة من تاريخها، ومع نضالها في سبيل التحرر والتقدم، ففي ظروف سنتين التحقت أغلبية بلاد القارة بركب الدول القليلة التي كانت قد استرجعت استقلاها الوطني، واحتلت مقعدها في الحياة الدولية، وبدأ يلوح اليوم الذي ستنمحي فيه من وجه القارة كلها أثر السياسة الأجنبية المباشرة، رغم المآسي التي تعانيها شعوب جنوب إفريقيا ورغم العناد الأخرق الذي تتصرف به حكومتا البرتغال واتحاد جنوب إفريقيا اللتين لن تفلتا من المصير الحتمي. هذه الظاهرة وحدها ذات أهمية خطرة، إذ أنها تحدث لا محالة تغييرا جوهريا في التوازن الدولي الاستراتيجي والسياسي، ومع نمو حركة التضامن بين القارات الثلاث، إفرقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتضافر الجهود مع سائر القوى التقدمية في العالم، فإن هذا التغيير سوف يؤثر تأثيرا عميقا على تيارات التبادل الاقتصادي الدولي، وبذلك يلغم الاستعمار من أساسه. المهدي بنبركة في مواجهة الاستعمار والصهيونية وليست حركة الهروب إلى الأمام التي تقوم بها الدول الاستعمارية الأوروبية بانتهاجها سياسة الاستقلالات الشكلية الممنوحة، سوى خطة دفاع الاستعمار عن نفسه، تحمل اليوم اسم الاستعمار الجديد. والاستعمار الجديد عبارة عن سياسة من جهة تعمل على منح الاستقلال السياسي، وعند الاقتضاء إنشاء دول مصطنعة لاحظ لها في وجود ذاتي، ومن جهة أخرى تعمل على تقديم مساعدات مصحوبة بوعود تحقيق رفاهية تكون قواعدها في الحقيقة خارج القارة الإفريقية. وليست هذه بالظاهرة الجديدة، لأن هذه السياسة تدخل في صلب مفهوم الاستعمار، هو نفس الأسلوب الذي كانت تسلكه أكثر الدول الرأسمالية تقدما، إنما الجديد بالنسبة إلى العلاقات القائمة بين الدول الاستعمارية الأوروبية وبين إفريقيا هو العدول عن السيطرة والاستقلال المباشرين، وإعادة النظر في الاستعمار الاستيطاني. ولم يكن هذا الاتجاه الجديد مجرد اختيار في السياسية الخارجية للدول الأوروبية، بل هو تعبير عن تطور عميق في أسس الرأسمالية الغربية ذاتها، نتيجة لما حدث بعد الحرب العالمية الثانية من تغيير في أروبا تحت تأثير مشروع مارشال، والتداخل المتزايد للاقتصاد الأوروبي، مما جعل هذا الأخير يفقد خصائص القرن التاسع عشر التي كانت تميزه، ويحاول التشبه برأسمال الولاياتالمتحدة، فمن الطبيعي إذن أن ينهج نفس الأسلوب فتبحث أوروبا عن «أمريكا اللاتينية» خاصة بها. ونحن مقتنعون أن ظاهرة الاستعمار الجديد هذه ليست سوى محاولة لتوقيف المد الثوري ولو إلى حين، وهي بذلك لن تفت في عضد القوى الثورية، ولن تمنعنا من أن نواصل مع سائر القوى التقدمية مهمتها التاريخية لتصفية الاستعمار والقضاء على الامبريالية. غير أننا في حاجة إلى جهود متواصلة لتعميق أسس نضالنا الإيديولوجي، ولتسليط الأضواء على كافة مظاهر هذا الاستعمار الجديد، من أجل تشخيص خصائصه واستقصاء علمي لوسائله، وتحقيق دقيق لأدواته وركائزه، وقد كان الفضل للمؤتمر الثالث لمنظمات الشعوب الإفريقية المنعقد بالقاهرة في مارس 1961 في الشروع في هذا التحليل والتشريح واستخلاص نتائجه في قراره الشهير حول الاستعمار الجديد الذي جاء فيه: «ومتى بدا أنه لا مناص للاستعمار من الاعتراف بالاستقلال القومي، فإن خطة الاستعمار من الاعتراف بالاستقلال في مضمونه التحرري الصحيح، إما بفرض اتفاقيات غير متكافئة في الشؤون الاقتصادية والعسكرية والفنية، وإما بتنصيب حكومات عميلة عن طريق انتخابات مزورة ، وإما باختراع أشكال دستورية بدعوى تنظيم القوميات المختلفة، بينما هي في الحقيقة ضمان للسيطرة العنصرية لفائدة المستعمرين، وعندما لا تجدي هذه المناورات في النيل من نضالية المنظمات الشعبية التحريرية وتصميم عزمها، فإن الاستعمار وهو في النزع الأخير، يعمد إلى التستر وراء الشبه شرعية، والتدخل الموجه للأمم المتحدة ، إما لبلقنة الدول الحديثة وإما لتقسيم قواها الحية السياسية والنقابية، وقد يصل اليأس كما حدث في الكونغو للجوء إلى حبك المؤامرات وتنظيم القمع البوليسي والعسكري، وتدبير الانقلابات، بل وإلى السفك والاغتيال». لكن الذي كان يقض مضاجع الأوساط الاستعمارية والإمبريالية، وكان الأخطر على مصالحها هو الجانب الميداني في مسيرة المهدي بنبركة، فمنذ استرجاع المغرب لاستقلاله، رأت فيه «المهندس الكبير» والمخطط النابه للمشاريع الاجتماعية والاقتصادية الرامية إلى تقدم البلاد، وتخليصها من رواسب الاستعمار، وإلى مناعتها من التبعية والخضوع للاستعمار الجديد. والذين عاصروا الفترة الأولى من استرجاع المغرب لحريته واستقلاله -المنصفون طبعا- ما يزالون يتذكرون كيف كانت مبادرات المهدي في كل مجال سواء في العمل الحزبي، أو النقابي أو الجمعوي. بالنسبة للعمل الحزبي كان المهدي يعتبر المحرك الاساسي لأنشطة الحزب والساهر على شؤون التنظيم والتكوين والتوجيه، وعلى بناء هياكله وتطعيمه بعناصر الشباب والمتعلمين بهدف تطويره وتجديد أساليب عمله. إيمانا منه أن مواجهة تحديات الاستقلال ومنها الاستعمار الجديد، لن تتم إلا بحزب جديد مسير بأجهزة حديثة مدعمة بشباب واع مكون سياسيا، مدركا أن أخطر ما ستواجهه البلاد وهي في طور إرساء مجتمع جديد، هو الاستعمار الجديد. وعملاؤه لهذا كان انشغاله بتنظيم الحزب ومنظماته الموازية مثل الشبيبة الاستقلالية وفروعها بما فيها الكشفية والمسرح، والطفولة الشعبية، وأوراش الشباب... ولم يكن هدفه من هذا مجرد تحريك ما هو راكد منها، أو تأسيس ما كان محتاجا إلى تأسيس، بل كان الكل معبأ للمساهمة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مثل التطوع في الأوراش ومحاربة الأمية، وغرس الأشجار، وغير هذه من الأعمال التي كانت البلاد في حاجة إليها. ومن أشهر المشروعات التطوعية التي سهر المهدي بن بركة على إنجازها، مشروع «طريق الوحدة» الذي بدأ في إنجازه في الأسبوع الأول من يوليوز 1957 والذي دشنه جلالة الملك محمد الخامس. كان الهدف من مشروع «طريق الوحدة» كما جاء في كتاب من تأليف جون وسيمون لاكوتور «المغرب تحت الاختبار»، ص 50. المجتمع الجديد وقلق الرجعة والإستعمار «لقد كان الهدف هو إثارة اهتمام شبه لامبالية نسبيا، وحملها من خلال بذل الجهد على الاقتناع بأن العمل وحده يعطي مردودية، وأيضا جعلها تكتشف بصورة جماعية بعض حقائق الواقع الحديث وانتزاعها من عالم القرية المحدود، وبالتالي فتح أعين الشباب المراهق الذي يرى أية آفاق غير آفاق تلك التي يقدمها له الدوار والقبيلة». أما موريس بوتاه فقد خصص فقرة للحديث عن الهدف من طريق الوحدة التي جاء فيها: «حقق المهدي أحد أولى الإنجازات الجماعية في المغرب المستقل متمثلا في «طريق الوحدة» وهدفه الأول إعادة توحيد المنطقتين اللتين كانتا تابعتين لسلطات الحماية الفرنسية في الجنوب، والإسبانية في الشمال، بواسطة طريق يناهز طولها ستين كيلومترا»(...) هكذا فإن المتطوعين، يضيف المؤلف: «سيشتغلون كل صباح في تشييد الطريق، وسيشاركون بعدها في لقاءات ثقافية ودورات تكوينية وأعمال بناء الطريق في نظرية بنبركة يجب أن تكون بمثابة مدرسة للتربية الأساسية». ولسنا ندري لماذا اكتفى المؤلف بإرجاع سبب تحفظ الملك محمد الخامس بشأن مشروع طريق الوحدة بتحريض من ابنه، لأن إنجازه سيعزز مكانه كرئيس للمجلس الوطني الاستشاري في أوساط الشباب المغربي ويرفع من قيمته، ولم يذكر السبب الحقيقي الذي لم يفت المهدي بنبركة أن لمح له في كلمة توجيهية أمام أعضاء «لجنة الطريق» التي أنشئت للتكفل بإنجازها وهو يحثهم على بذل الجهد لإنجاز المشروع في أسرع وقت ممكن لتخييب توقعات أوساط خارجية حاولت إفشال المشروع قبل بدايته. وهل هناك من ذوي الفطنة من لم يفهم أن المقصودين من هذه الأوساط وأساطين الاستعمار الجديد وعملائهم هم المنعوتون في كتابات محمد الجابري ب»القوة الثالثة». و تأتي أهمية إنجاز طريق الوحدة ليس من كونه إعادة ربط منطقتين مغربيتين كانتا منفصلتين بسبب احتلال فرنسا لإحداهما وإسبانيا للأخرى، وليس المقصود منه تقريب المسافة بين ساكنة المنطقتين ف»الأمر يتعلق هنا بمدرسة للتربية الأساسية أكثر منه بأوراش العمل» كما أشار إلى ذلك جان و سيمون لاكوتور في مؤلفهما سابق الذكر ص59، وهذا ما عبر عنه موريس بوتان في كتابه «الحسن الثاني، ديغول، بن بركة ما أعرف عنهم» ص67، حيث جاء فيه «هكذا فإن المتطوعين سينشغلون كل صباح في تشييد الطريق، وسيشاركون بعدها في لقاءات ثقافية ودورات تكوينية وأعمال إبداعية، فبناء الطريق، في نظر بن بركة يجب أن يكون بمثابة مدرسة للتربية الأساسية، ولا زلت أتذكر أن المتطوعين لإنجاز مشروع طريق الوحدة أنشئوا جمعية أطلق عليها «جمعية بناة الاستقلال»، وقد سهر عليها المهدي بنبركة وفتحت لها فروع حيثما وجد متطوعون، وستكون هذه الجمعية منظمة في إطارها تنجز مشاريع تنموية متنوعة المجالات، ولاسيما الرامية إلى «تنمية العالم القروي « وهذا ما نجده مشارا إليه في خطبة ألقاها المهدي في الجمع التأسيسي للجمعية المنعقد بتاريخ 17 أكتوبر 1957، و مما جاء فيها: «إن تطوع الشباب لم ينته، بل هو في مرحلة البداية، ذلك أن كثيرا من المناطق تنتظر عمل المتطوعين، ففي الجنوب لا زال الفلاحون يعيشون في في الفقر لأنهم لا يعرفون كيف يستغلون أرضهم بصورة أفضل...» وقد حان الوقت لوضع برنامج تربوي في خدمة سكان البادية عموما، وعلينا أن نعرف كيف نستفيد من تجربة شبابنا، إن حشد هذه الطاقات والسهر على تنسيق وتوحيد مثل هذه الجهود الجبارة سيساعد على غرس الديموقراطية التي ستوجه هذه الوثبة الديناميكية نحو إنجازات جماعية وفورية عبر مؤسسة «الجماعة القروية». إن بناة الاستقلال، يجب أن يكونوا مسيرين فعاليين، لأن الجماعة القروية ستكون الخلية الأساسية نحو ثورة اجتماعية اقتصادية وثقافية سينتظرها الشعب» (نقلا عن مواقف الجابري، عدد 6 ص 58). ومباشرة بعد الانتهاء من أوراش طريق الوحدة انطلقت في فصل الخريف عملية أخرى، عرفت باسم «عملية الحرث» (...) وكان وراءها أيضا المهدي بن بركة، يتعلق الأمر ب»مبادرة تقنية ضخمة تتمثل في جعل الفلاحين الصغار ينزعون سياج قطعهم الأرضية الفلاحية، كي يتمكن جرار واحد حرث مساحة أكبر دون حواجز» (المرجع نفسه، ص68). وفي هذه المرحلة (1956 و1957 و1958) شهد المغرب عمليات تنموية متنوعة وأنشطة ثقافية وفنية أطرتها جمعيات شبابية بما فيها الطفولة الشعبية والكشفية والمسرح وبناة الاستقلال، والشبيبة المدرسية ومحاربة الأمية، وأوراش التطوع وفتاة الغد، وكانت هذه إما تابعة للشبيبة الاستقلالية أو الشبيبة العاملة وكلتاهما كانتا مؤطرتين من نشطاء حزبيين ونقابيين، ولم يكن أحد من المتتبعين للعمل الجمعوي يجهل أن المهدي هو الموعز لإنشائها والموجه لها، والحريص على تتبع أنشطتها. كان المتتبعون لأنشطة المهدي متباينين في مواقفهم، منهم المتنورون الذين لم يترددوا في المساهمة باعتبارها ضرورية للنهوض بالبلاد، فيهم فئات محلية أشار إليه موريس بوتان في فقرة من كتابه سابق الذكر ص68 تحت عنوان «عملية الحرث» جاء فيه: «و5 أكتوبر دشن محمد الخامس العملية راكبا جرارا، بيد أن بعض الفئات، وخاصة في أوساط الإقطاعيين ورجال السلطة التقليديين، بل وحتى القصر نفسه، لم يستسيغوا هذه العملية التي تمس مفهوم الملكية الخاصة المقدس، في نظرهم، وهناك مواجهة أخرى ارتفعت حدتها بين مولاي الحسن وبنبركة بعض الدرجات نظرا لأن مكانة هذا الأخير ما انفكت تتعزز في صفوف المغاربة» (نفس المرجع ص68). إلا أن أخطر الجهات التي كانت ترصد تحركات المهدي وأنشطته، وتسجل أحاديثه وتصريحاته هم أساطين الاستعمار الذين كان تصوره للمجتمع الجديد يهدد مصالحهم، ورغم علم الجهات المناوئة للمهدي بعدم تبنية لإيديولوجية معينة، لا في السياسة ولا في الاقتصاد، فإن ما صار يزعجهم هو ما كانت خطبه تتضمنه من مصطلحات غير مؤلوفة إذاك من مثل ديموقراطية واقعية، التسيير الذاتي، تطور ثوري، ثورة عميقة، وغالبا ما كانت هذه المصطلحات أو العبارات توظف ضده لاتهامه ب «الماوية» حين يدعو للتعبئة الشعبية، ب»التيتاوية» وعندما يستعمل مصطلح التسيير الذاتي وب»الناصرية» عند امتداحه التعاونيات ولا سيما في التنمية القروية. و لم يسلم المهدي من هذه الاتهامات حتى من بعض قادة حزب الاستقلال وستبلغ هذه الاتهامات أوجها بعد المحاضرة التي ألقاها بمدينة تطوان بتاريخ 31 يوليوز تحت عنوان «نحو بناء مجتمع جديد». تعتبر هذه المحاضرة من أهم ما احتفظ به من تراث المهدي المكتوب وهو لايزال من قادة حزب الاستقلال، وأن ما تضمنته من أفكار ومصطلحات وشعارات لم تكن متداولة في هذا الحزب أوحت لكثير من الملاحظين أن تغيرا جذريا سيطرأ إما بإصلاح حزبي، أو بانشقاق، يتزعمه المهدي وأعضاء آخرون ممن كانوا معتبرين من «يسار حزب الاستقلال» ولكن الذي وقع ليس الانشقاق وإنما تنصيب حكومة على رأسها عبد الله إبراهيم وهو من رموز حزب اليسار، إلى جانبه عبد الرحيم بوعبيد وزير الاقتصاد الذي يعتبر من أكثر الأعضاء انسجاما مع توجه المهدي بنبركة. لم تدم هذه الحكومة سوى 18 شهرا لتقال بإيعاز من جهات لعل أكثرها تضررا مما أنجزته وكانت تنوي إنجازه هم المعمرون بسبب نهجها لسياسة تحررية تهدف إلى قطع الطريق أمام عودة الاستعمار بصورته الجديدة. ففي هذه المدة القصيرة قامت هذه الحكومة بإنجازات هائلة في مجالات إستراتيجية، والمتأمل في هذه الإنجازات لا يخامره أدنى شك في أنها تنزيل لما ورد في محاضرة المهدي «نحو بناء مجتمع جديد» إن كان قد اطلع عليها طبعا. ومن الأمور التي لم يطلع عليها إلا القليل من رفاق المهدي أن عبد الله إبراهيم كثيرا ما كان ينوي تقديم استقالته -لولا إلحاح المهدي على عدم تقديم هذه الاستقالة- وذلك بسبب تذمره من تدخلات ولي العهد في شؤون الحكومة، وتجاوز جرائد حزب الاستقلال خطوطا حمراء لشخصية بعض الوزراء ولاسيما رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم ووزير الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد، وهذا ما كان يجيب به عبد الله إبراهيم من يسأله عن عدم تقديم استقالته رغم المناورات التي كانت تحاك ضد حكومته، ومن ذلك أنه في أحد الاجتماعات التي كان يحضرها عقب إقالته، طرح عليه هذا السؤال فأجاب «بالنسبة إلي والأخ عبد الرحيم كنا كثيرا ما نقرر ذلك، ولكن الأخ المهدي كان يعارض.. ولا أخفيكم أنه وهو غائب كان يتصل بنا هاتفيا لكي لا نقدم على ذلك، ويقول: خير لكم أن تستمروا حتى تقالوا خير من أن تستقيلوا لأن الاستقالة أفضل هدية تقدمونها لخصوم البلاد في الداخل والخارج...»