بكبرياءٍ جريح، وجّه كاتبٌ، يمارس أشرف مهنة في الوجود، رسالة مفتوحة إلى الرّأسماليّ الذي لا يهتمّ ب"تفاهة" شجون الأدب، دون أملٍ في أن يقرأها المخاطَب بها. وفي رسالته إلى جيف بيزوس، أغنى رجل في العالَم صاحب موقع "أمازون" لبيع الكتب رقميّا، يحكي الرّوائيّ المغربيّ هشام بن الشاوي قصّة حرمان آخر رواياته من دفء النّشر والتّتويج لتعريتها مجتمعاتنا العربية، قبل أن يفاجأ بعرض رواية أخرى في نسخة نيوزيلندية على موقع بيزوس، من ناشر قليلِ الذّوق "يخاف من التشبيه والمجاز والاستعارة". هذه الرسالة التي تحكي ألما معهودا للكاتب بشكل عامّ، والكاتب في مجتمعات لا تقدّر إلّا لماما شرف نظم الكلمات الصّادقة بشكل خاصّ، لم يرقُنْها صاحبها إلّا بعدما جاور ألمُ الإقصاء ألمَ البيروقراطيّة حتى في الضّفّة الأخرى وألم الخيانة بتسريب نصّه، ومرارة التّصرّف فيما كتب وإفساد "فرحته الصغرى التي كان يترقَّبُها منذ سنوات". هذه الرسالة التي لن تُقرأ غالبا مِمّن خاطبَته، لا تريد إلّا أن تكون؛ فلم تُسلِم نفسها للنّسيان، بالبقاء ضيقا في صدر صاحبها، ولم تستسلم للقبحِ الذي نشره الوباء، والسّواد الذي يقطن العالَم... بل واختارت أن تنتهي بالعرفان لمن نشر الرواية، المولودَ الملعون، وكاتبُها واقفٌ، آمنا مطمئنّا، بعد ضيقٍ وضيق، عند الفرح الآتي حقّا من وراء البحار. رسالة مفتوحة إلى جيف بيزوس المرسِل: هشام بن الشاوي تحية عطرة، وبعد: اسمح لي، سيدي الفاضل، أن أضيّع وقتكم الثمين، وأنت تقرأ هذه الرسالة التي لن تصلك أبدا، وأنا أسرف في الحديث عن مشاغل تافهة، قد لا تهم أحدًا، والتي نسميها-نحن معشر الحمقى/الكتّاب-شجون الأدب. معذرة، لأنني لن أستطيع أن أكتب بلغة دبلوماسية، كما يجدر بخطاب يليق بمقامكم الرفيع، ولا حتى الكتابة بأسلوب أدبي رشيق، فأنت تعرف أننا نعيش-منذ شهور-تحت وطأة هذا الوباء المقيت، الذي حطّم الكثير من الأشياء الجميلة في دواخلنا. لقد صدرت لي في بحر هذا الأسبوع رواية جديدة، هي ليست جديدة تماما، فقد كتبتها قبل سنوات، لكن سوء الحظ كان يطاردها في أكثر من جائزة عربية، وقد عرفت السبب الآن! لجان القراءة لا ترشح رواية للفوز، وهي تفضح/تعرّي مجتمعاتنا العربية من الماء إلى الماء؛ مجتمعات عفنة تدّعي الطهرانية والفضيلة!! وقد اعتذر أكثر من ناشر عربي عن نشرها ممن يطبعون الكتب وعيونهم تتلصص على جيوب القراء في ال"هناك"، والمضحك أن هناك من تحمس للرواية، شريطة أن أدفع تكاليف الطبع معتقدا أنني كاتب مبتدئ مغفل، سيفرح بكتابة اسمه على غلاف رواية، وسيتّجه-بسرعة-إلى أقرب وكالة تحويل أموال، وأعتقد أنك لا تعرف أن ثمة دار نشر عربية مرموقة تنشر روايات لكتاب كبار، وفي نفس الوقت تجد ضمن إصداراتها بكائيات غرامية نسائية ركيكة!!... بعد ربع قرن من الكتابة.. لقد توصلت إلى قناعة واحدة؛ بعد أن خذلني شيطان الإبداع، وصارت الكتابة المرادف الوحيد للضياع والبلاه، في مثل هكذا مجتمعات، لا تفكر إلا بشهوتي البطن والفرج.. أقص الورق الصقيل لمجلات عربية كبيرة نشرت فيها كتاباتي، وأفرشه لعصافيري، ففضلاتها أنقى من هذا الوسط الموبوء الداعر، ولكي أدخل بعض السرور إلى قلبك، بدل الاسترسال في هذا السرد الميلودرامي، لم أنتبه إلى أن ابني الصغير، الذي لم يتجاوز ربيعه الخامس، كان يلمح صورتي مرارا، أسفل الأقفاص. قال لأخته في براءة: "بابا - دائما-هنا.."، وهو يرنو إلى صورتي. صمتت، على مضض وقلت لنفسي: "هذا الورق اللامع لا يصلح لأي شيء، لا يصلح أن يبقى ذكرى من مجلة توقفت عن الصدور، ما دامت أغلب هذه المطبوعات صارت ترفض النشر لي ولبعض الأصدقاء؛ خذلتنا بعد سنوات من النضال الأدبي والثقافيّ، لكنها تستمر في التعامل مع حفنة من المخنثين والسكارى، وكما نقول في عاميتنا: "فلوس اللبن يديهم زعطوط!". أعترف بأن كتابتي جريئة نوعا ما، لكن في الرواية الأخيرة تخلصت من الرقيب الداخلي نهائيا، وطلبت من الناشر عدم عرض تلك المقاطع الصادمة من التصفح المجاني في مكتبة جوجل، بتحديد أرقام الصفحات! لكن الحزن يسكنني ويسكن كتاباتي دوما، وسيلازمني أبدا، وقد تسربت مفردات الحزن والبكاء إلى عناوين بعض إصداراتي: "على شفير النشيج"، "سفر الأحزان"، "هكذا ينتهي الحب عادة". سيد جيف.. لقد دخلت إلى موقعك مصادفة، عن طريق محرك البحث الشيخ جوجل. المهم، عندما نقرت على اسمي اكتشفت أن روايتي: "هكذا ينتهي الحب عادة"، معروضة للبيع في النسخة النيوزيلاندية.. مشاعر متضاربة انتابتني في تلك اللحظة؛ هل ستبتسم الحياة في وجه ابن الشاوي دفعة واحدة؟ عند النقر على صورة الغلاف، اكتشفت أن هذا الشخص، الذي يبدو غير عابئ بكل ما يحدث في هذا العالم المهدد بالزوال من طرف فيروس ضئيل جدا.. لقد نشرها في أواخر شهر مايو، في عز انشغال البشرية بالحجر الصحي، الذي أربك كل حساباتنا، والغريب أنه يعرض للبيع النسخة التي كتبتها على حاسوبي المتهالك، وحاولت الإبلاغ عن الكتاب، أكثر من مرة، لكن دون جدوى، كما راسلت موظفيك عن طريق البريد الإلكتروني، ودوما، كانت تصلني رسائل باردة، مثل صقيع الشتاء الأوروبي. في البداية دردشت، مباشرة، مع موظفة في الموقع الفرنسي، وطلبت مني مراسلة القسم النيوزليندي الذي يعرض الرواية، وتمت إحالتي إلى النسخة البريطانية. شيء مضحك حقا؛ نفس البيروقراطية الكريهة التي نكابدها في عالمنا العربي. ثلاثة أيام من المراسلات الجوفاء، حتى أنني لم أبخل عليهم ببياناتي الشخصية، رقم الهاتف الخلوي وحتى العنوان البريدي، كما لو كنت مرشحا للزواج بإحدى شقراواتك، وجاءتني صفعة الرقم الدولي للكتاب، وكتبت لهم مرارا-ودون جدوى-بأن الكتاب لم ينشر أصلا، وقد نشرت الرواية في بعض المواقع الأدبية، منها مجلة صديقنا الدكتور صبري حافظ "الكلمة"، وموقع آخر. وآخر رد وصلني من الإدارة كالتالي: " تم نشر الكتاب عبر قناة مختلفة، من خارج (...)، ولا يمكننا تقديم معلومات ولا اتخاذ أية إجراءات بخصوص الكتاب". هذا الشخص الغبي، وضع صورة بلهاء كغلاف للكتاب، تشبه صور الرسوم المتحركة، لكنه لم يستطع تحمل لسعات سياط كتابتي، فحذف هذه الجملة من المخطوطة: "ألا يدين مهمشو وعاهرات قصصك القصيرة هذه الأنظمة العربية المتهالكة؟"، بضغطة زر، اغتال هذه الجملة، واكتفى بنقط الحذف... والمثير للشفقة حقا، أنه لا يجيد كتابة علامات الترقيم، كالفاصلة مثلا، حيث يكتبها مثل تلك العلامة التي تتوسط الكلمات الأعجمية. ودون أن يدري، كتب كلمة "مره"، التي تعني "كثيرا" في اللهجة السعودية، ومرادفها في اللهجة الإماراتية "وايد"، وفي تونس يقولون: "برشا"، وهنا نقول: "بزّاف"، يبدو أن هذا المراهق التافه فاته أنني دونجوان قديم، تصعلك كثيرا على أرصفة شارع الهوى العربي! فضلا عن عدم انتباهه إلى تشويه بعض الكلمات، حيث ضغط على أحد أزرار الحاسوب، وتكرر حرف الكاف، أكثر من مرة، وتقيأ لوح المفاتيح كلمات هلامية، والسبب جملة: "كأنما تتخلص من آثامك السرية"، لأن هذا البائس الحقير والمثير للشفقة في نفس الوقت يخاف من التشبيه، المجاز والاستعارة، ومادام لا يستطيع أن يحتفظ بالنص كما هو، كان الأجدر به ألا يقترب من كتابة، يحتاج إلى سنوات ضوئية، حتى يصل إلى مستوى ذلك الوعي الشقي الذي كتبت به! تأملوا معي هذه الجملة مثلا: "لأنه "إخواني"، متحيّز لكل ما يطبل للثورة"، لم تعجب صاحبنا وخزات كلماتها، فكتبها على طريقته، التي تفضح أميته المقيتة والفائقة: "خواني" متحيز لورط الالية لوليت"!!!!! وهذه جملة حوارية، لم يفقه معناها: "إن الملاط ينقصه الإسمنت"، لقد لجأ غبينا المبجل إلى حذفها لأنه لم يعرفها، ولم يجرب أن تلتهم الأكزيما أصابعه، ولم يكتب قصصا قصيرة بأصابع دامية، فاكتفى بكتابتها: "إمنتاط"!!! فضلا عن تصرفه في علامات "الفاصلة"، والتي قلبها رأسا على عقب في أكثر من موضع، أما حرف الباء في هذه الجملة: "تمازحه ب"أخو البْهَايْمْ"، مثلا، انظروا إلى حرف الباء كيف كتبته ممدودا، لكن، لأنه لم يعرف كيف يكتب المد، اكتفى بكتابة الجملة هكذا: "الذي تمازحه ب"أخو البْهَايْمْ" "، لأنه لا يعرف ولن يعرف أن ما يقارب عمره ضاع هباء في الكتابة، وأقضي ساعات طوال خلف الحاسوب. كما أن هذا الشخص الغبي يكتب علامة الاستفهام معكوسة، والنسخة المعروضة للبيع هي النسخة الأولية التي تتضمن مقالا نقديا لصديقي إبراهيم الحجري حول روايتي السابقة: "قيلولة أحد خريفي"، وهي النسخة نفسها التي نشرتها إحداهن في أحد المنتديات التافهة في غرة هذا العام الكوروني. هذه النسخة ما زلت أحتفظ بها في بريدي الإلكتروني منذ سبع سنوات، وقد ارتأى الصديق منتصر القفاش الاستغناء عن القراءة النقدية، وكذلك صديقي المغاربي... آسف، سيدي لأن كل هذا الهراء يحدث في موقعكم، لكن أرجو ألا يفوتك أن هذا البائس لن يستطيع عرض بضاعته المغشوشة في مكتبة جوجل، لأنه لا يوجد تنضيد ولا تصفيف. فمن المسؤول عن تسريب هذه النسخة؟ من الذي خان الأمانة؟ علما أنني أرسلتها إلى عدد محدود من الأصدقاء الأدباء، وإلى بعض الجوائز الأدبية. شكرا جزيلا لك أيها الوضيع، لأنك أفسدت فرحتي الصغرى، التي كنت أترقبها منذ سنوات. منذ سنوات، وأنا أنتظر التخلص من نحس هذه الرواية بسبب جرأتها، وقد نصحني الصديق إبراهيم الحجري مرارا بأن أشرع في كتابة نص روائي جديد، نص طهراني، لا يخدش مرايا الثالوث المحرم، من أجل الظفر بإحدى الجوائز العربية، كنت أجيبه بأنني لا أستطيع أن أكتب حرفا واحدا لأنني محبط! أعرف أن بعض النصوص الرديئة تفوز بالجوائز، صراحة، لا أجيد كتابة مثل هذه الكتابات البائسة. لقد حاولت-مرارا-اقتطاع نص من الرواية الأخيرة، ومحاولة نشره في أية مجلة عربية، لكن دون جدوى .. المقطع الشفيف، والوحيد في الرواية، والذي كتبته وأنا أبكي! لم أفلح في نشره، لأنه يتضمن جملة لن تروق للرقيب المتخلف، لأن بطل الرواية طلب من الله عز وجل، وهو يحتضر، أن يحقق له أمنيته الأخيرة، ومات دون أن ينطق بالشهادتين... صديقي إبراهيم.. سوف أخذلك مرة أخرى؛ لن أستطيع الكتابة مثلما يريدون وكيفما يشتهون، لقد اخترت، منذ البداية، أن أنحاز إلى الهوامش البشرية، لهذا، فالخسارة حليفتي في الحياة وفي الإبداع دوما. لست على ما يرام هذه الأيام، بسبب هذا النذل. لو كنت أملك حسابا فيسبوكيا، كنت سأتقاسم هذا الفرح الأصغر مع "الأعدقاء"، لكن لا أحد يحبني، أنت تعرف أنه عندما فزت بجائزة الطيب صالح، تمت الوشاية بي، وأبلغوا مجذوب عيدروس بأن الرواية الفائزة منشورة، علما أنني طلبت من صديقي علي الصراف أن يحذفها، وقد فعل، وحتما، تكبد الخسارة وحده، ودوما يبهرني علي الصرّاف، ويبرهن لي بأنه فارس نبيل من فرسان الثقافة الحقيقيين، والنبلاء... في زمن الغوغاء واللقطاء؛ حين عرضت عليه نشر كتابي الحواري، لم يمانع، وقبل شهر، صارحته بأنني لن أستطيع أن أدفع درهما واحدا، من أجل نشر هذه الرواية اللعينة. لم يفعل مثل أغلب سماسرة الكتب وتجار الورق، بل غمرني بعطف وحب كبيرين، وهو ينثر زهور كلماته الشجية فوق أحراش هذه التجربة السردية المتواضعة. مرة أخرى، شكرا علي، شكرا علي الصراف.. حقا، الفرح يأتي من وراء البحار...