بعد ترشحه مرتين للائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد في الدراسات النقدية، تمكن الباحث المغربي إبراهيم الحجري للمرة الثالثة من بلوغ القائمة الطويلة لفرع "الفنون والدراسات النقدية" عن كتابه "الخطاب والمعرفة: الرحلة من منظور السرديات الأنثروبولوجية" من إصدارات المركز الثقافي العربي. ولاستجلاء الجوانب المضيئة في حياة الكاتب والروائي المغربي إبراهيم الحجري، والحديث عن جائزة الشيخ زايد، كان لبيان اليوم حوار مع الكاتب، شدد على أن الانفتاح على التجارب الإنسانية أمر مفيد، ملفتا الانتباه إلى أن الكتابة دربة واجتهاد كما أنها موهبة أيضا. وأبرز الأديب الحجري أن النقد الأدبي يكاد يكون دوره باهتا، لأننا بكل بساطة أمام أناس لا يوظفون عقولهم بل عواطفهم وأحكامهم المسبقة. وفيما يلي نص الحوار: كيف استقبلتم خبر ترشحكم للائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد؟ كما تعلم؛ ويعلم المتتبعون، ليست المرة الأولى التي أترشح فيها للائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، فقد سبق أن ترشحت في دورتين سابقتين، وهو في حد ذاته بالنسبة لي إنجاز كبير، فهذا يعني أن عملك تحققت فيه بعض من معايير المقروئية بالمواصفات الأكاديمية المتعارف عليها، مثلما يدل ذلك على أنك استحققت التميز ضمن أكثر من مائة وخمسين عملا أكاديميا؛ بعضها لأعلام مميزين في مختلف التخصصات، داخل حقل العلوم الإنسانية، وفوق هذا وذاك، يمنحك هذا الاعتبار المعنوي شحنة من التشجيع والتقدير، لذلك فمهما تكن نتائج المراحل القادمة، سأكون سعيدا بهذا التقدير الذي يأتي. هل لك أن تقربنا من خصوصيات هذه المسابقة الأدبية؟ الجائزة ليست جديدة، فهي ذائعة الصيت في المشهد الثقافي والأكاديمي العربي والعالمي، وراكمت دورات كثيرة، مثلما فاز بها عدد من الكتاب المميزين عربيا، ومنهم مغاربة مثل سعيد يقطين، محمد مشبال، عبد الله العروي، محمد مفتاح… وظل الحضور المغربي فيها حضورا وازنا يشي بكثير من مشاعر الاعتزاز والفخر، وهي متنوعة الفروع، حسب التخصصات، وتستقبل المشاركة على مستوى الكتب المطبوعة خلال السنتين الأخيرتين، وتمنح جائزة واحدة لكل فرع تشجيعا للكتاب والمؤلفين ودور النشر، مثلما يتم تكريم شخصية كل عام، وللعلم فالجائزة لها موقع إلكتروني مصمم بجودة عالية، ينشر عبره كل ما يتعلق بالجائزة وأخبارها. ماذا أضافت لك التجربة الخليجية في الكتابة، من خلال الاحتكاك مع كتاب ومبدعين من العالم العربي؟ الانفتاح على التجارب الإنسانية أمر مفيد بالنسبة للإنسان عموما، فما بالك بمن يكتب؟ إنه شيء ضروري لإغناء التجربة وإخصابها، لذلك فقد اضطررت لتطوير معرفتي باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وبدأت تعلم الإسرانية، وأتطلع لتعلم اللغة الفارسية التي كنت قد بدأت الاحتكاك بها منذ سنوات، ثم انقطعت لأسباب شخصية. ماذا تمثل لكم الجوائز الأدبية في العالم العربي. وهل تقدم شيئا للكاتب ولتجربته؟ أنا أومن دائما بأن الجوائز لا تصنع كتابا لكنها تشجع على خلق حماس وتنافس، وتحرض من لا يكتب على الكتابة، وبالرغم مما يكتنفها من إجراءات، وما يحيط بها من التباسات يفرضها أمر الاختيار من جانب متعدد، فإن إيجابياتها كثيرة، إذ غالبا ما تعرفنا على كتب وكتاب وتجارب عميقة، ما كان لنا أن نتعرفها لولا المناسبة التي تجمعنا. كيف كانت بدايتك في عالم الكتابة والتأليف؟ بدأت الكتابة مبكرا منذ مرحلة الثانوي، حيث وجدتني أميل لتدوين بعض الانطباعات والتأملات، وأحتفظ بها بعيدا عن أعين الناس، واستمر ذلك خلال الفترة الجامعية، خاصة حينما تسجلت في تخصص اللغة العربية وآدابها، إذ ساهم هذا التكوين في شحن الذائقة وصقلها. لكن مع ذلك، كنت أتهيب كثيرا من إشهار كتاباتي، وأحرص على التكتم عليها، لكن بالتحاقي بمركز تكوين الأساتذة، حظيت بالتعرف على كتاب وأساتذة لهم خبرة سابقة في مجال النشر والطبع؛ وتقاسمت معهم إنتاجاتي المتواضعة، فأطروا عليها ونالت إعجابهم، فشكلنا حلقة ثقافية متميزة اعتبرتها مدرستي الأولى التي ورطتني في هذا العالم، كنا ننظم أنشطة ثقافية وازنة، بشكل أسبوعي، مثلما كنا نتداول الآراء حول أعمالنا الجديدة، وانتشرت عدوى الكتابة وحب القراءة والمطالعة بين صفوف الطلاب؛ خاصة نزلاء القسم الداخلي، وبعد نهاية التكوين تفرقنا، ولم تكن تكنولوجيا الاتصال بالتطور الذي تشهده الآن، لذلك أقبرت تلك النواة، فانطفأت كثير من القناديل، ولم تصمد إلا قلة، بعد أربع سنوات من ذلك، جمعتني الأقدار بصديقي إسماعيل بنهنية، وارتأينا أن ننشر مجموعتنا القصصية الأولى بالإشتراك، للتغلب على العراقيل التي تسود عالم النشر. ماهي أسرار الكتابة وطقوسها عند الروائي الحجري؟ في الحقيقة ليست لي اشتراطات وطقوس، أومن بكون الكتابة دربة واجتهاد دون تنقيص من قيمة الموهبة التي يظل حضورها أساسيا، لذلك ليست لي طقوس معينة، يمكن أن تصلني قريحة الكتاب في مخاضات وسياقات مختلفة، ليلا أو نهارا، في البيت أو خارجه، في مقهى أو في مرج، غير أنني متمسك بطقس الكتابة على الورق، رغم أنني أرقن بشكل جيد على الحاسوب، بسبب حاجز نفسي معه، يشكل لي حبسة فظيعة، في حين تطاوعني الكتابة مع الورق الأبيض الصقيل، وقلم بيك الأسود، وكأس قهوة أو براد شاي منسم بإحدى النباتات العطرية، هذا عن الكتابة الإبداعية، أما الكتابة النقدية والبحثية، فهي تحتاج إلى انضباط وبرنامج مقنن وصبر وعكوف على جمع المادة وتبويبها وتصنيفها، ضمن منهج معين، وتبعا لتصميم موضوع، محدد المعالم، واضح الرؤية، وغالبا ما أحدد حيزا مضبوطا داخل أجندتي اليومية لمثل هاته الأعمال بشكل مواز مع باقي أنشطتي الأخرى. هل يمكن أن نعتبر أن الكتابة هي معاناة، ونقل لواقع مر؟ ليست هناك تجارب إنسانية تمر على المرء سهلة، لا نجاح بدون مكابدة ومعاناة، ولا نتائج بدون صبر ومثابرة مسترسلين. هكذا هي الكتابة أيضا، هي عروس حرون، لا تمنح نفسها إلا بعد امتحانات صعبة ومتتالية؛ يقع خلالها مد وجزر، نجاح وفشل، طواعية ونفور.. لكنك حينما تقبض على لحظة من لحظاتها، تشعر بسعادة الأم بعد مخاض الولادة؛ بينما تحضن وليدها. فقبل أن تكتب بالمداد، فأنت تكتب بدمك، ولحمك، وشحمك، وتترك كثيرا من خلاياك على المحك، غير أن الكتابة ليست دوما معادلا للشقاوة؛ والعذاب؛ والمرارة، فهي أيضا تنقل الأفراح، والمسرات، وتسعد القراء؛ وتنقلهم من عالمهم البائس إلى أفق أرحب بالكتابة، نشعر بالأمان ونستبقي الأمل حتى في أحلك اللحظات. ماذا عن مصاريف الطبع؟ يشكل الطبع والنشر وحدهما طامة كبرى أمام الكاتب المغربي، فهو غال ومكلف، ومعظم الناشرين هم تجار ولا يقدرون المبدع، وفي الغالب، يتحايلون على حقوقه، في بداية مشواري طبعت على نفقتي، وعانيت الأمرين مع مشكل التوزيع، فالكتاب في نهاية المطاف، ظل محدود الانتشار، فيما بعد يسر الله سبل النشر، وإن كانت تتخللها بعض المعيقات. فقد كنت أضطر لتوقيع عقود أعرف أنها واهية ولا تضمن شيئا، لكني هنا أشيد بكل من دار توبقال، ودائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، ودار الفيصل بالسعودية، لالتزامها بالتقاليد والأعراف الجاري بها العمل عالميا، فهي دور تحترم المؤلف، تحرص على أن يتسلم “حقوقه”. في حين أن بعضا من كتبي الأخرى، نشرت عقب تتويجها بجوائز. عشت في بادية بعيدا عن المكتبات، وفي أسرة فقيرة، كيف استطعت تحدي هذه الصعاب؟ لم تكن لدينا في تلك البوادي البعيدة، مكتبات، ولا دور سينما، ولا مسارح، ولا مقاه، ولا أي فضاء ترفيهي، ولست أدري أكان ذلك من حسن حظنا أم من سوئه، فقد كان حماسنا متقدا، وكنا نتلقى المعرفة بسرعة عجيبة، وجعلنا حرماننا شديدي القتال على جبهات مختلفة، لا أنسى أنني كنت مولعا بالحكي منذ صغري. وقد منحني الله في تلك البادية أشخاصا عجيبين لا أدري من أين كانوا يأتون بكل تلك القصص، عجائز من ذوي القربى، كنا نتحلق حولهم، فلا يملون من عطشنا لرواياتهم المسلية، فيما بعد وضع ابن عمتي الفقيه الحسناوي رحمه الله رهن إشارتي مكتبته الخاصة، وكان قد درس في سيد الزوين وأولاد تايمة وسوس قبل أن يعود إلى القرية وهو يجر خلفه عربة من الكتب الصفر، فقرأت في سن مبكر، بدائع الزهور، وابن بطوطة، وابن القيم، والسيوطي، والتنوخي، وألف ليلة وليلة، وعنترة بن شداد، وأبو حيان التوحيدي، وغيرهم، وأذكر أنني كنت أميل كثيرا لكل ما فيه رائحة الحكي، وأنفر من الكتب التي تجنح إلى التجريد والتأمل التفسير. وبعد انتقالي إلى الثانوية، كان يسمح لي قيم المكتبة الداخلية بولوج الفضاء والاستفادة من ذخائرها النفيسة، فبدأت أحتك بعالم نجيب محفوظ، ونعيمة، وطه حسين، والمنفلوطي، وتيمور، وزفزاف، وغيرهم. كما أنني بدأت أقرأ كتب الجابري، والعروي، وقطب، وأركون، والتزيني بإيعاز من أساتذة الفلسفة. أين يجد الكاتب الحجري نفسه في الرواية أم النقد؟ من تجربتي عالم صغير قد يكون شرفة يطل عبرها الآخرون على جوانب غير مرئية من ذواتهم، إذا كان النقد الأدبي يجعلني أستمتع وأنا افكك ما أقرأ وأركبه من جديد، فإن السرد يجعلني أتلذذ وأنا أبتكر. ماهي النصائح التي يقدمها الحجري للناشئة على اعتبار أنه مؤطر تربوي؟ باختصار شديد، وحيثما وجدت نفسي في وضعية النصح إزاء هذا الموضوع الشائك، أركز على ثلاثة عناصر: عمق ومحبة، عيش الحياة بكل تفاصيلها ومخالطة الناس والاحتكاك بذوي التجارب والإنصات للعالم المحيط، والقراءة ثم القراءة ثم القراءة، خاصة في سن مبكر. في القراءة والكتابة، يستحسن التدرج في اختيار المقروء، حسب السن، وخصوصية المرحلة، فدربة التمرن على الكتابة، بشكل مواز، بصبر وأناة. القراءة والكتابة تنمو، وتشكل صلابتها بالرعاية الدائمة، والحرص المتواصل. هل كل قارئ بمقدوره أن يصبح كاتبا، أم هناك وصفة سحرية أخرى؟ ليس بالضرورة، أعرف أناسا يقرؤون مئات الكتب في العام، ويلتهمون عشرات المقالات في اليوم، لكنهم حينما يباشرون عملية الكتابة، يصابون بحبسة فظيعة جدا، ويتملكهم الإحباط، القراءة بالنسبة للكتابة شيء ضروري، لكنها لا تضمن لك أن تصير كاتبا، وكأن هناك أمورا دقيقة، وتفاصيل غامضة يصعب التحكم فيها إزاء هذا الأمر. كيف تنظرون للمواكبة النقدية للعمل الروائي، وهل هناك أزمة نقد أم أزمة نقاد؟ إشكالية تراجع النقد ودوره، يرجعان بالأساس، إلى نسق التكوين، فقد بتنا نجد أنفسنا أمام عقل كسول، وأناس يستهلكون أكثر مما ينتجون، ويبلعون أكثر مما يفكرون، وإن فكروا فهم لا يعملون عقولهم، بل عواطفهم، وأحكامهم المسبقة، لذلك لا تعول على إيجاد طفرة نقدية في مجتمع منغلق، أقفل منذ زمن بعيد نوافذ عقله، وأشرع باب الخرافة والاطمئنان إلى المتوفر والجاهز، إن الناقد في عصرنا يمشي وسط النيران، فلو قال حقا أحرق، وإن جامل هلك، وفي غالب الأحيان يلوذ بصمته، النقد حاسة جماهيرية لا يفرزها شخص واحد، بل تتطور ضمن نسق وبنية وسيرورة. ومجتمعنا للأسف ما زال بعيدا عن هذا الناقد، لذلك أرى أن المشكلة ليست في النقد، بل في السياق الذي ينتج التكلس، والاجترار، ويقتل في الناقد بصيرته ومواهبه وذكاءه، بمطالبته بالتصفيق والتطبيل والصمت على البشاعة. رسالة أخير؟ بالقراءة والكتابة نرتقي، وبهما نمسح غبار العار المنكتب على وجه الإنسانية اليوم، ومتى ما استطعنا صنع جيل مثقف قارئ، متشبع بالقيم والحكمة، سنكون قد جنبنا هذا الكون الكثير من البشاعة المستشرية.