لا وجود للنص الكامل أبدا فالكاتب يتطور ومن الطبيعي جدا أن يلمس عيوبا أو قصورا مصطفى لغتيري رمز ثقافي غاية في الحركية و النشاط،لا يأخذ منه الكسل والاسترخاء لا من قريب و لا من بعيد. يواصل مسيرته الإبداعية و الثقافية بشغف وإصرار عاليين، ذلك ما نستشفه من مجموع النصوص الروائية والقصصية و النقدية التي تزدان بها رفوف المكتبات المغربية و العربية، إبداعات أراد صاحبها أن تنصت للعديد من الظواهر التي يرزح تحت نيرها واقعنا المغربي والعربي على حد سواء .مصطفى لغتيري صاحب نفس طويل في الكتابة، وتجربته الابداعية نابعة من صدق الإحساس والحياة. شق طريقه ولا يزال بأريحية و تفان بارعين،لا يلتفت لكل ما من شأنه أن يعطل مسيرته. طرقنا بابه لنختلس منه هذا الحوار الجميل والفذ، نترك للقارئ العزيز متعة الاسثكشاف والاطلاع. إذا طلبنا من المبدع النشيط «مصطفى لغتيري» أن يعود بنا لبعض الصور من طفولته، فما عساه أن يختاره ويستحضره منها؟ هي بالتأكيد طفولة أتشابه فيها مع الأغلبية الساحقة من المغاربة ،أنتمي لأسرة بروليتارية تكدح للحصول على شظف العيش ، و قلب مليء بالأحلام و الحسرات ، و سعي حثيث نحو التعلم ، رغم ضبابية هذا الشيء المسمى معرفة ، و انخراط في أجواء اللعب و الفرح البريء رغم الظروف الصعبة ، أتذكر أنني اللعب كان يأخذني ساعات دون أن أفطن أو أمل ، و أذكر أنني كنت أنعزل عن أقراني في أوقات معينة و أهيم في خيالاتي ، التي لا ضفاف لها ، كما تحضرني السعات الطوال التي كنت أستمتع فيها بقراءة القصص ، كانت لحظات أنفصل فيها عن العالم و أحيا في كنف عالمي الخاص ، فأتماهى مع الشخصيات و أتقمص أدوارها ، كان لظهور التلفزيون كذلك و غزوه للبيوت قيمة مضافة في حياتي ، إذ كنت ألتهم الحصة المخصصة للأطفال التهاما ، خاصة ما يتعلق بالرسوم المتحركة ، التي استهوتني إلى درجة كبيرة ، دون أن أنسى الحكايات المغربية التي حكتها لي باضطراد أمي و جدتي خاصة في الليالي الباردة و المطيرة. هل في مكنة الروائي «مصطفى لغتيري» تذكر بدايته الأولى مع جنس الرواية؟ وكيف تم ذلك؟ دوما استهوتني الرواية، و دوما كنت أبيت النية لكتابتها ، فلقد قرأت في حياتي عددا كبيرا من الروايات، ومازلت مواظبا إلى اليوم على قراءتها، لذا ليس غريبا أن أخوض غمار الكتابة الروائية ، و قد كتبت نصوصا روائية عدة قبل أن أنشر أول رواية لي ، إذ أن أول رواية فازت بشرف النشر و هي رواية « رجال وكلاب» الصادرة عن أفريقيا الشرق عام 2007 ليست هي أول رواية كتبتها ، فيما تعد « أحلام النوارس» التي ضمها كتاب واحد مع رواية «عائشة القديسة « و حمل الكتاب اسم هذه الأخيرة ، هي أول رواية كتبتها بشكل أدعي أنه ناضج نسبيا ، و قد كنت نشرتها منجمة في إحدى الجرائد الوطنية. بالنسبة لمصطفى لغتيري قد جرب الكتابة في جنسي الرواية والقصة، فما الجنس الذي يجده لغتيري أقرب إلى نفسه؟ وهل من توضيح لذلك؟ أقول دائما بأن الرواية والقصة تنتميان إلى شجرة السرد الكبرى، وبالتالي فالكتابة فيهما معا لا يشكل لي أي إشكال، بل أشعر بأنه ييسر على الكاتب أمر الكتابة، فهناك فكرة ما تحتاج ان تكتب كرواية ، و أخرى تختار أن تندرج في كتابتها ضمن القصة القصيرة، وما علي سوى أن أستجيب إلى ذلك ، و أظن أن كتابة القصة القصيرة يغلب عليه تكنيك الكتابة الذي يكون أكثر دقة و تكثيفا و صعوبة كذلك ، فيما صدر الرواية رحب و يتسع للكثير من الأمور التي لا يمكن للقصة أن ترحب بها ، فقط تحاج الرواية إلى نوع من الخطة الاستراتيجية في تحديد الهدف و السعي إليه بشكل غير مباشر ،كما تتطلب الكثير من الصبر على الإنجاز ، فيما يتعين على كاتب القصة أن يتوجه إلى هدفه رأسيا و دون كلام إضافي أو لغو، فعيوب الكتابة تظهر أكثر في القصة القصيرة. ماذا عن التيمات والموضوعات التي تحلو لمصطفى لغتيري أن يطرقها ويتناولها في إبداعاته؟ في كتاباتي الروائية و القصصية انشغلت بتيمات عدة: نفسية و اجتماعية و ثقافية و أنتربولوجية و غيرها ، ففي رواية «رجال وكلاب»مثلا انشغلت بالبعد النفسي من خلال تتبع مسار شخصية مغربية مصابة بمرض «الوسواس القهري» و استثمار تقنية التداعيات الحرة المعروفة في التحليل النفسي، و في رواية « عائشة القديسة» وظفت أسطورة عايشة قنديشة ، للكشف عن أبعاد الذهنية الخرافية المغربية ، أما في رواية « ليلة إفريقية» فحاولت فيها أن أتوقف عند البعد الإفريقي للهوية المغربية ، كما ناقشت مسألة صراع الأجيال في الأدب ، و في رواية «رقصة العنكبوت» ناقشت مشكل البطالة من وجهة نظر أدبية فنية ، و تناولت في رواية «على ضفاف البحيرة» جمال طبيعة منطقة الأطلس في ارتباط مع معاناة الإنسان من الإقصاء الاقتصادي ، و هكذا دواليك. الأستاذ مصطفى لغتيري راكمتم العديد من النصوص الروائية، فهل أنت نادم على نص تبين لكم- في إطار المراجعة النقدية وإعادة القراءة- أنكم لم توفوه حقه من شروط التأمل والكتابة؟ إذا تعامل الكاتب مع نصوصه بهذا المنطق فلن ينتهي أبدا، فلا وجود للنص الكامل أبدا، فالكاتب يتطور و من الطبيعي جدا أن يلمس عيوبا أو قصورا من نوع ما في نصوصه السابقة ، لكنني أتعامل مع الموضوع بشكل مختلف ، إذ أومن بأن لكل نص ظروفه و حيثيات إنتاجه ، و لا يمكن أن يكتب إلا بالشكل الذي كتبته به ،لأنه مشروط بزمان و مكان معينين ، و أي قصورفيه يفيدني في تلمس و رصد تطور الكتابة لدي ، فلا يمكن بطبيعة الحال مقارنة نص كتبته في بداياتي مع آخر نص كتبته ، لكنني أبدا لا أندم على أي شيء، حتى على ما يمكن أن نعتبره أخطاء في الحياة ، لأنني أعتبرها تجارب ، و لولا ها لما تطورت إلى الأفضل إن كنت حقا أتطور. هل نتجرأ ونتحدث عن موضوع مدينة الدار البيضاء كفضاءات وأمكنة حظيت بالتفاتة الكاتب والمبدع المغربي؟ لا يمكن للمدينة التي عاش أو يعيش فيها الكاتب إلا أن تجد الطريق سالكا نحو كتاباته ، و بالفعل فالدار البيضاء حاضرة في كثير من رواياتي ، بأشكال مختلفة ، و قد يكون حضورا رمزيا و هامشيا أحيانا ، لكن تبقى رواية « رقصة العنكبوت» أكثر رواياتي استحواذا على فضاءات الدار البيضاء ، حتى أنني كثيرا ما أردد أنها رواية بيضاوية بامتياز ، لأن السارد تجول في كثير من شوارع الدارالبيضاء الهامشية و المركزية كما أنه زار متحفا أو معرضا للوحات الفنية و سينما و مقاه و سوق درب غلف الشهير و منطقة عين الذئاب و بعض الحدائق المعروفة كحديقة الجامعة العربية و غيرها من الأماكن التي يتعرف عليها البيضاويون بسرعة. موضوع القصة القصيرة من الكتابات التي عرفت تراكما كميا لافتا للنظر، فماذا عن التراكم الكيفي والنوعي في المنجز المغربي؟ لقد عرفت القصة القصيرة المغربية اهتماما كبيرا من طرف المبدعين و تأسست نوادي و جمعيات متخصصة في هذا الجنس الأدبي، كما ظهرت مجلة خاصة به هي مجلة « قاف صاد» التي تشرف عليها مجموعة البحث في القصة القصيرة في المغرب ، و بالفعل أثارت هذه الحركية انتباه المتتبعين و تناسلت الإصدارات و اللقاءات المحتفية بالقصة القصيرة جدا ، و تحقق تراكم غير مسبوق على مستوى إنتاج النصوص ،لكن يبقى سؤالك مشروعا ، هل تحقق بالفعل تراكم نوعي ، طبعا لا يمكنني الإجابة على ذلك لأن النقد هو المخول بإطلاق هذا النوع من الأحكام ، لكن في رأيي هناك مؤشران دالان في هذا الاتجاه يمكن أن يكونا في صالح الحكم على هذا الحراك القصصي ، أولهما ظهور القصة التجريبية في المغرب و ثانيهما ظهور القصة القصيرة جدا ، التي لا يجادل أحد في أن نصوصها الجيدة أثارت انتباه المتتبعين في المغرب و المشرق على حد سواء. إن النقد وسؤاله لم يعد غالبية الكتاب يهتمون بهما، إذ يرون أنهما ينزعان إلى التضييق ومصادرة حرية الكتابة، هذه الأخيرة التي جنحت صوب أشكال جديدة. فما قراءة مصطفى لغتيري لهذه القضية؟ وهل من تفسير يقدمه بخصوص هذا الزعم؟ اعتبرت دائما أن النقد يراهن على التراكم ، و على المبدع أن لا ينشغل به كثيرا ، فقط عليه أن يستمر في مراكمة نصوصه الإبداعية، و طال الزمن أو قصر سيضطر النقد إلى الانتباه إلى هذه النصوص و الاشتغال عليه ، و أعتبر كذلك ان داخل كل مبدع هناك ناقد يراقب و يوجه المبدع بصوت صامت و فاعل ، و على الكاتب أن يراهن على هذا الناقد المتواري في الأعماق ليطور تجربته ، و لا ينتظر النقد الذي قد يأتي و قد لا يأتي، لذا أنا شخصيا لا أنشغل كثيرا بمسألة النقد رغم أن نصوصي القصصية و الروائية نالت حظها من الاهتمام النقدي ، لكنني في العمق أراهن على حاستي النقدية ، التي تسعفني كثيرا في تتبع تجربتي الإبداعية و تنقيحها و تطويرها. ما نظرتك لسؤال الحرية في الإبداع المغربي والعربي؟ سؤال الحرية في عمقسؤال الإبداع ، و لا يمكن لهذا الإبداع أن يتطور و يراكم تجارب قوية فعالة دون أن ينعم بقدر كبير من الحرية ، و بالنسبة للمغرب فألاحظ أن الدولة لا تتدخل في أمور الإبداع الأدبي إلا نادرا جدا ، لكنها بالمقابل تتدخل في حرية الصحافة بشكل مباشر وبطرق مخجلة قد تصل إلى حدود السجن وإغلاق الجرائد أحيانا.. في الإبداع الأدبي هنا الرقابة المجتمعية التي تبدو لي أكثر شراسة ، خاصة من قبل القوى المحافظة التي لاتكون منظمة بالضرورة ، فكم مرة ووجهت بأراء غير نقدية ، تحاكم كتاباتي بمنطق خارج عن منطق الأدب و الإبداع ، لكن على العموم يبقى الوضع أفضل من أغلب الدول العربية في هذا المجال تحديدا. ما نسجله على المشهد الإبداعي والثقافي المغربي، أنه دائما يركز على الأسماء الكبرى (المشاركات- التكريمات- الجوائز...) ألا ترى في هذا التحيز تهميشا إن لم نقل قتلا للمبدع والكاتب الذي ما يزال يبحث عن موقع قدم له؟ من الصعب أن نخرج هكذا بحكم قيمة عن المشهد الثقافي المغربي ، طبعا هناك بعض السلوكات غير الصحية و التي لا يخلو منها مشهد ثقافي في العالم من قبيل الإخوانيات و الشللية .. في فترة من تاريخ المغرب كان الفعل الثقافي تابعا للفعل الحزبي ، فكان الأديب لا يأخذ فرصته إلا إذا انضوى تحت يافطة حزب من الأحزاب المهيمنة ، لكن الوضع الآن تغير نسبيا ، و نأمل أن يكون المستقبل أفضل خدمة للأدب و الأدباء في بلادنا. 11-بعض المدن بالمغرب رجعت إلى تقليد ثقافي ومعرفي جميل وغاية في الإمتاع والإثراء الفكري والوجداني، أقصد النوادي والصالونات الأدبية والثقافية، فما آثار هذه المبادرات الشامخة على عقل مصطفى لغتيري الأديب والمثقف؟ بالفعل لقد تم إحياء تقاليد ثقافية ضاربة بعمقها في الذاكرة الثقافية العربية و العالمية من قبيل الصالونات الأدبية في كثير من المدن المغربية، و قد كان لي الشرف للمساهمة في تأسيس و ترؤس الصالون الأدبي المغربي في الدارالبيضاء الذي استطاع في ظرف وجيز أن يحقق الكثير من الإنجازات على مستوى الندوات و القراءات الشعرية و القصصية و النشر و الجوائز التي تستهدف الشباب و الأطفال و منها جائزة أحمد بوكماخ للتلاميذ المبدعين،و جائزة الصالون الادبي للقصة القصيرة جدا للشباب ، و قد استطاع الصالون الأدبي كذلك تنظيم مهرجانات كبيرة للقصة القصيرة جدا في بلادنا الأول بشراكة مع جمعية التواصل بمدينة الفقيه ابن صالح و الثاني بشراكة مع جمعية درب غلف للتنمية بالدار البيضاء، كما استضاف الصالون الأدبي أغلب الأدباء المغاربة و كثير من الأدباء العرب. ما حظ مقروئية مصطفى لغتيري من الثقافة الفلسفية والصوفية؟ منذ وقت مبكر تعودت على أن تكوني قراءاتي متعددة و هي في الغالب الأعم في العلوم الانسانية و الاجتماعية ، فلسفة و تاريخ و دين و علم النفس ،و طبعا ينال الأدب إبداعا و نقدا نصيب الأسد ، و أزعم أنني كائن قارئ ، و لقد ساعدني ذلك في تجديد كتاباتي و إعطائها في كل تجربة كتابية نفسا جديدا ، و قد لاحظ النقاد ذلك ، اقصد تنوع التيمات و تكنيك الكتابة كذلك. من الظواهر الطريفة والفاتنة تلك التي لها ارتباط بالمكتبة والكتب، إنه موضوع فرض نفسه على ما لا يعد من الكتاب والمثقفين، من أبرزهم الكاتب البرازيلي ألبرتو مانغويل الذي ننظر إليه كمتخصص في الموضوع. بالنسبة لمصطفى لغتيري كيف ينظر للمكتبة والكتاب(الشخصيين)؟ طبعا للكاتب علاقة خاصة بالمكتبة الشخصية ،حتى أنها تعتبر مكانا مقدسا بالنسبة للكثير من الكتاب و يدخلون في طقوس خاصة عند التعامل معها ، و هي تشكل ذاكرة قرائية من نوع ما ، بل تنتسج علاقة قوية وغريبة بينها و بين الكاتب ، فيكفي أن يلقي بنظره نحوها ليسمع همهمات كثيرة تصدر عنها ، ففي مكان ما همنغواي يوشوش له بحكاية العجوز و البحر و في مكان آخر غابرييل غارسيا ماركيز يهمهم بسنوات مائة عام من العزلة و هكذا دواليك .. إنها علاقة معقدة و من الصعب الإحاطة بها بشكل كلي و مقنع. * كاتب مغربي