هو كاتب قصة ممتاز بشهادة الجوائز والتتويجات التي حصل عليها.. وكاتب مختلف في الوقت نفسه. مَرَدّ الاختلاف إلى طبيعة عمله الذي يزاوله بصفة اعتيادية في سلك الشرطة بعاصمة النخيل مراكش، قبل أن يهرع لكتابة نصوصه الأدبية التي تكون مشاهدها قد ترسبت إلى أعماقه انطلاقا من حياته اليومية. يعرفه زملاؤه في العمل مفتش شرطة، ويعرفه قراؤه كاتبا للقصة والرواية نفذت عشرات النسخ من كتبه من مكتبات المدينة، بينما يعرفه الإعلاميون اسما مألوفا في الجوائز العربية التي تردد اسمه في نتائجها لأكثر من مرة. ففي الأسبوع المنصرم أعلن عن نتائج جائزة دبي الثقافية إحدى أهم الجوائز الأدبية في الوطن العربي، ولم يكن الفائز بالمرتبة الثانية في صنف القصة إلا لحسن باكور وقيمتها 6 آلاف دولار. القاص المغربي حصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعة القاضي عياض، واختيرت مجموعته القصصية "الرقصة الأخيرة" للفوز في هذه الدورة من أصل 146 مشاركة. ليست هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها اسم باكور فائزا في الجائزة فقد سبق أن فاز سنة 2012 بجائزة الشارقة للإبداع عن روايته "البرزخ"، إضافة إلى فوزه مرة أخرى بجائزة دبي عن روايته "شريط متعرج من الضوء" سنة 2009، وقبلها بسنة واحدة توجت مجموعته القصصية "رجل الكراسي " بجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2008، فيما نالت قصته "المصعد" جائزة القدس للقصة القصيرة سنة 2010. في حواره مع يومية "التجديد" يتحدث باكور عن تجربته مع الكتابة الأدبية، والقصة بالخصوص التي يحلم أن يكتب منها يوما "قصة أقرب إلى اجتراح معجزة صغيرة". يعتبر باكور في هذا الحوار أن الجوائز التي حصل على عدد منها هي على الرغم من أنها تأتي لاحقا إلا أنها تمثل الصدى الذي يأمله ويترقبه أي كاتب. لكن بالمقابل الكتابة ليست دائما أمرا مبهجا ورائعا ذلك أنها عند باكور تصير أحيانا شبيهة بعملية نزع أشواك عالقة بالروح، إلا أنه مع ذلك عليه أن يكتب ويكتب وذلك حتى لا يختنق أو يجن كما يقول. حاوره: محمد الإدريسي 1- هل كنت تتوقع فوزك لمرة أخرى بجائزة دبي الثقافية؟ وكيف تلقيت هذا الفوز؟ لا، لم أكن أتوقع الفوز، بل كنت آمله مثل أي مشارك آخر. فأنا أومن دائما بأن هناك في مكان ما كتابا من جيلي يكتبون أفضل مني، مما يجعلني أسعى إلى الكتابة بشكل أفضل وبقدر ما أستطيع من الإجادة، في أفق كتابة قصة قصيرة جيدة.. ما يهم بالنسبة لي هو أن يكتب المرء باحترام لنفسه وللكتابة، ويسعى باستمرار إلى تجاوز نفسه والتغلب على قصوره، ثم يؤمن بعد ذلك بحظوظه.. وإذا كانت كتابته جيدة فلا بد أن تلقى بعض ما هي جديرة به من تقدير واحتفاء وإن تأخر ذلك أحيانا. أما خبر فوزي بجائزة دبي الثقافية الأخيرة فقد تلقيته بفرح خاص، لأنها توجت مجهودا قمت به في الأشهر الأخيرة لكتابة قصص قصيرة جيدة، فيها محاولة للاشتغال على عدة مستويات: اللغة والموضوع وبناء النصوص.. وأسعدني أكثر أن الجائزة كانت في القصة القصيرة التي تبقى عشقي الأدبي الأثير. 2 لنرجع إلى البداية، كيف أتيت إلى عالم السرد؟ أتيت إلى عالم السرد من باب الافتتان بما قرأته. لقد كانت القراءة بابي المشرع نحو حلم الكتابة ومراودة أحلامها ومكابدة آلامها أيضا. كل كاتب هو قارئ نهم بالضرورة. أذكر أني عندما كنت صغيرا لم أكن أستطيع منع نفسي من التقاط مختلف الأوراق الملقاة في الطريق لقراءتها. وفي مرحلة الدراسة الابتدائية كنت غالبا ما أكافأ على تفوقي الدراسي بكتب قصصية فتنتني وغرست في نفسي مزيدا من عشق الحكاية؛ هذا العشق الذي تسرب إلى نفسي مبكرا من خلال الحكايات (الأمازيغية خاصة) التي طرَّزَت فصولا من طفولتي البعيدة. اقترفتُ شعرا في البداية فلقبني أحد أساتذتي "شاعر القسم"، ثم جاءت محاولاتي النثرية الأولى التي كانت في أغلبها محاولة لتقليد نصوص أخرى أثرت في كثيرا لكتاب أمثال توفيق الحكيم وعبد المجيد بنجلون وإيليا أبو ماضي.. إلى أن نشرت نصي القصصي الأول الذي يشبه الحب الأول: لا يُنسى أبدا وتكاد تجد بصمة له في أي نص (حب) آخر تكتبه (تعيشه).. كلما تقدم بي العمر وكتبت المزيد من القصص أجدني أكثر ميلا إلى أن أجرب دهشة وفتنة الدخول من جديد إلى عالم السرد من ذات الباب المشرع على مصراعيه: القراءة. أقرأ كثيرا كثيرا لأكتب قليلا.. وكلما قرأت أكثر وجدتني لا زلت أحبو في طريق القصة القصيرة، فأواصل بإصرار أكبر لعلني في يوم ما أخطو خطوة حقيقية.. 3 يلاحظ أن أعمالك المطبوعة كلها صادرة عن منشورات الجوائز العربية، هل يمكن القول إنك تكتب للفوز بالجوائز؟ أكتب لأني إذا لم أفعل سأختنق أو أُجَن. إن سيل الصور والمشاعر والأفكار والأوهام التي ترد على ذهن الكاتب يوميا تقريبا (وصدقا أشعر ببعض الادعاء هنا إذُ أقحم نفسي في زمرة الكتاب) لَيَرهقه ويدفعه إلى الكتابة دفعا كي يتخلص من ذلك الثقل وتتطهر روحه العليلة. هذا التطهر يتم بكثير من الألم، لأن الكتابة ليست دائما أمرا مبهجا ورائعا. الكتابة تصير أحيانا شبيهة بعملية نزع أشواك عالقة بالروح، وإنها أشد إيلاما من أشواك تخز البدن لو تعلمون. الكتابة استجابة لرغبة وضرورة ملحة لا مجال لمراوغتها، وهي -أيضا- لذة ومتعة ولعب. أحيانا أشعر كأني أكتب استجابة لإرادة أو مشيئة غامضة وقاهرة. أكتب لأن الكتابة حجري الذي أرمي به في بركة بحجم الحياة. أكتب لأن الكتابة بالنسبة لي مبعث سعادة قصوى. لكل هذا أكتب، ففي النهاية ليس هناك كاتب يكتب لنفسه فقط. مثلما قلت سابقا الكتابة استجابة لرغبة ذاتية خاصة، لكن هذا فقط وجه واحد من العملة. الوجه الآخر الذي لا يقل ضرورة هو المتلقي.. والجوائز التي تكافئ الأعمال الأدبية يبقى هدفها الأكبر هو المساهمة في تجسير تلك المسافة بين الكاتب والقارئ وتذليل عقباتها عبر إيصال صوت الكاتب ولفت الانتباه لعمله ونشره في بعض الأحيان . أشعر بأني لن أبالغ إذا قلت لك بأن لحسن باكور الذي يكابد لحظات العزلة، ويصارع نزق وتَأبِّي اللغة ويطارد الصور والأخيلة الهاربة يتوارى في مكان ما في لحظات التتويج والمكافأة بينما ينفخ آخر -ربما هو الذي يجيب على أسئلتك الآن- صدره زهوا ويتقلى مديحا وتقريظا لا يستحقهما. 4- كيف يتولد النص القصصي عند لحسن باكور؟ عادة ما تتولد لدي فكرة كتابة نص قصصي ما من خلال مشهد بصري. فأنا إذ أمارس حياتي اليومية لا أكف عن التقاط الصور، أو أن الصور ما تنفك تنهال علي وتترصَّدني. قد يثيرني مجرد شخص يضحك بصخب، أو امرأة تنتظر في مكان ما شيئا ما.. تتسرب الصور والمشاهد إلى أعماقي، وأحيانا كثيرة أحسبها قد تبددت، إلى تفاجئني ذات لحظة وقد تخلقت وكبرت و تلح في الخروج، لا ينقصها إلا أن ترتدي إهاب اللغة و سوى حكاية تتخذها ذريعة.. وقد تعترضني أحيانا حالة إنسانية ما موجعة أعاينها أو أقرأ عنها لتفتح أخاديد من الألم بداخلي. يكبر ذلك الألم ويكبر إلى أن يغدو ألما خاصا يرهقني ويعذبني حمله، فلا أجد راحة إلا في التخلص منه عبر نص قصصي قد يتخذ هذه الصيغة أو تلك. ويحدث أحيانا أخرى أن يرجني نص قصصي ما أقرأه، ليؤجج بداخلي رغبة وشهوة الكتابة، وأشعر بأن ثمة فكرة ما ناضجة مثل ثمرة، تلهو على مقربة، ليس علي سوى أن أكون على أهبة القنص لأقبض عليها إذ تومئ إلي بطرف خفي؛ وقد تكون متخفية خلف مشهد يومي عابر وخادع أو إحساس عابر بالرتابة أو الكآبة أوالحزن.. هناك شعور ما لا أستطيع أن أصفه ينتابني في مثل تلك اللحظات. لعله يشبه شعور من وجد ( أو حسب أنه وجد ) كنزا ثمينا فتختلط بداخله المشاعر وتضطرب: يريد أن يمسك الكنز بين يديه بأسرع ما يستطيع ويخاف أن يراه أحد ما ويبدد فرحه باللقية، ويخاف أن يتكشف الكنز عم مجرد وهم.. هذه محاولة للإجابة تبقى بعيدة عن القبض على جوهر الحالة التي تتلبنسي إذ أفكر في كتابة نص ما، وإذ أتلقى( من مكان ما ) تلك الجملة الأولى أو ذلك الشعور البكر، وإذ أشرع في مصارعة البياض ومراودة اللغة.. وإذ أعيش تلك الحالة من الغيبوبة التي أصير فيها شخصا آخر تماما، غير الذي يطبع النص بعد نهايته ويفكر في نشره وعرضه على الأصدقاء وغير الذي يجيب على أسئلتك الآن. 5- من خلال قصصك التي اطلعت عليها لا يبدو أن هناك انعكاسا كبيرا لطبيعة عملك اليومي على أدبك؟ هل هذا أمر مقصود؟ ليس ثمة أي قصدية في الأمر. قصصي تعكس المواضيع والأسئلة الفكرية والجمالية التي تشغلني، وربما أعطت للقارئ المفترض فكرة عن تصوري للكتابة الأدبية. لم يتضح لدي على وجه الدقة طبيعة الانعكاس الذي تومئ إليه وكنتَ تتوقع أن يكون لعملي اليومي على كتاباتي الأدبية. أعتقد بأني أكتب مثلما اعتدت دائما أن أفعل، دون أن يكون ثمة تأثير ما أو توجيه مباشر وواضح لمهنتي. من جهة ثانية ربما يكون ثمة تأثير ما، لكنه لا يزال خفيا أو أنني لا أعيه، وقد يظهر في وقت ما. مثلا: قد أجد لدي جنوحا يوما ما لكتابة القصة البوليسية، أو قد تتغير لغتي وتكتسب نبرة مختلفة. من يدري؟ أنا أكتب ببساطة وسلاسة ودون توجيه أو تخطيط مسبق قد تمليه المهنة أو غيرها. 6 هل أنت مدين للجوائز التي حصلت عليها بشيء؟ مدين لها بشيء أساسي وبالغ الأهمية: كانت تضخ في كل مرة مزيدا من الوقود في روحي لكي أواصل. فعندماَ تغلق في وجهك الأبواب (أبواب النشر مثلا ) وأنت تتلمس خطواتك الأولى.. وعندما تصرخ ويعيد إليكَ الفراغ الموحش صوتك ذاتَه صدًى.. وعندما تعود إليك نصوصك خائبة في رحلتها نحو النشر لأنهل لم تتعكز سوى على نفسها.. هنا تصير الكتابة لعنة وألما. لذلك عندما فزت بالجائزة الأولى في القصة القصيرة، كتبت روايتي الأولى وهي بحق رواية بسيطة ومتواضعة في وقت قياسي.. وبعد ذلك توالت قصص أخرى وروايات ومشاريع كثيرة تنتظر في الأدراج.. أليس هذا كافيا؟ 7 هل أخذت أعمالك حقها من التداول القرائي والنقدي؟ لا.. وأطمح إلى أن تتسع قاعدة قرائي أكثر.. وفي هذا الأمر يسري على تجربتي المتواضعة ما يسري على زملائي الآخرين من الكتاب.. لم ينشر لي سوى كتابين حتى الآن ولم يحظيا بالتوزيع الجيد، لذلك يتعذر تقييم المردودية من حيث المواكبة النقدية أو التداول القرائي. هنا تنبغي الإشارة إلى قضية النشر والتوزيع البالغة الأهمية والتي تشكل داءا مستعصيا في الوسط الثقافي المغربي. لكن هناك نقطة ضوء في النفق أحب أن أختم بها جوابي على هذا السؤال: القول بأنه لا يوجد قارئ في المغرب، ليس بالمسلمة المطلقة أو القدر الذي لا فكاك منه. أقول هذا انطلاقا من تجربتي الشخصية المتواضعة: وضعت في إحدى مكتبات مراكش الكبرى عشرات النسخ من كتابي : "رجل الكراسي" و " البرزخ ".. وقد بيعت كلها في وقت ليس بالطويل جدا، وعندما تحدثت إلى الكتبي طلب مني مده بنسخ أخرى. هذا يبعث على الأمل.. لكني لم أصادف حتى الآن قارئا لا أعرفه منهمكا في قراءة أحد كتبي في حديقة أو مقهى: يا له حلم جميل !.. لو حدث سأراقبه وأنتشي وأحرص على ألا أقول له بأني مؤلف الكتابة، لأني إذا فعلت سأفقد حتما بهاء اللحظة وروعتها.. 8- ما هو الأفق المرسوم لدى لحسن باكور، أو المشاريع المقبلة؟ الأفق؟ إنه مشرق ويخبئ لي كل جميل.. فنصوصي الأجمل لم أكتبها بعد، وما كتبته حتى الآن درجات ارتقيتها نحو تلك الذروة التي ربما لن أبلغها أبدا، لكنها دائما تلوح ممكنة ومشتهاة.. في أدراجي مشاريع كثيرة تنتظر، في القصة القصيرة والرواية، وأحلم خاصة بأن أكتب يوما قصة قصيرة حقيقية جديرة بهذا الاسم؛ قصة قصيرة تكون كتابتها أقرب إلى اجتراح معجزة صغيرة.. أتمنى أيضا أن أنشر مجموعة قصصية جديدة، بعد أن صمت عن النشر سنين عددا.