قد لا ينتبه من يدخل مطار المنارة بمراكش أن وجه رجل الأمن الذي يقف بزيه الرسمي أمام إحدى بوابات المطار بملامح موسومة بكثير من الجدية، هو نفسه الكاتب المغربي لحسن بكور الذي دّوى إسمه قويا في مسابقتين عربيتين للإبداع لهما وضعهما و سمعتهما المحترمة. فبعد فوز مجموعته القصصية رجل الكراسي بجائزة الشارقة للإبداع العربي سنة 2007 ، يعود سنة 2009 متوجا بجائزة دبي للإبداع، هذه المرة عن روايته «شريط متعرج من الضوء» . في هذا الحوار يتحدث لحسن بكور عن رهاناته في الكتابة وعن تقاطعات عوالم الإبداع و المهنة وغواية السرد و فتنة القص وجاذبية الرواية و أسرار مراكش .. لنكتشف فيه وجها لا يبحث عن شيء آخر غير امتهان الحياة واتخاذ الحلم منفذا للواقع. توجت مرتين ككاتب بالخارج، و فازت نصوصك السردية بجوائز مهمة في تظاهرات دولية، ما الذي يعنيه لك هذا التألق بالخارج؟ و هل يوازيه اعتراف من قبل الجسم الثقافي بالمغرب؟ أعتقد أن أي كاتب يتلمس صدى كتاباته لدى الآخرين، ويشغله بهذا القدر أو ذاك رصد ما تثيره لديهم من ردود أفعال، فليس هناك كاتب يكتب لنفسه فقط، ولا يصبو إلى أن تنال كتاباته نصيبا من الذيوع والتداول. من هنا فإن تتويج بعض كتاباتي بجوائز أدبية عربية يعني لي حقا الشيء الكثير، خاصة وأنها أمدتني بكثير من التحفيز المعنوي الذي كنت في أمس الحاجة إليه، لكي أستمر في الكتابة، مع أنها غدت بالنسبة لي استجابة لرغبة داخلية ملحة، بل وأصبحت هويتي، وبدونها يكف وجودي عن أن يكون له أي معنى. إن فوزي بجائزتي الشارقة للإبداع في القصة القصيرة، ودبي الثقافية في الرواية، يفترض ضمنا أن كتاباتي تنطوي على قيمة فنية ما أهلتها لأن تنال ذلك التتويج، و هذا أمر لا يمكن إلا أن يبهجني، ويحفزني على مزيد من الكتابة. فالكاتب بلا قراء يتحاورون مع كتاباته وينتقدونها، مثل أعمى يخبط دون هدى في طريق محفوفة بالمطبات. و هنا يحلو لي القول: إن الكتابة ليست جاحدة! أتذكر لحظات العزلة الكثيرة التي كابدتها متبتلا في محراب الحرف، لحظات فيها ما يشبه الألم العذب والغضب الجميل أحيانا، وها إن الكتابة تكافئني، وتغدق في المكافأة، إذ تهبني ما ليس ثمة أبهى منه ولا أحلى : قراء جدد ! أقول هذا وأنا أتذكر ذلك الصدود الذي كانت تقابل به كتاباتي، منذ سنوات، وأنا أرسلها إلى منابر ثقافية وطنية، لا يكلف المشرفون عليها مجرد الرد عليك بأن ذائقتهم القرائية لا تجد في «خربشاتك» ما يجعلها أهلا للنشر في منابرهم، مما جعلني أيمم شطر المجلات الثقافية العربية التي نشرت فيها بعضا من قصصي ومقالاتي الأدبية، ثم بعد ذلك، كان لي حظ الظفر بالجائزتين سالفتي الذكر. أما عن اعتراف الجسم الثقافي المغربي بي واحتفائه بي، فلست أدري، وربما تكون بعض الحوارات التي أجريت معي مؤخرا ومنها هذا الحوار مؤشرا على ذلك. يجسد اسم لحسن باكور تجربة طريفة، فمهنته كرجل أمن تبدو أبعد المهن عن هوس الكتابة ولوعتها التي ظلت في المألوف مرتبطة بشرائح معينة كالتعليم مثلا أو الصحافة أو المحاماة، هل الكتابة لديك تحرر من المهنة؟ أولا، إذا كان لدى البعض اعتقاد بأن مهنة الشرطي ضد الكتابة الأدبية، أو ممارسة نشاط إبداعي من أي نوع، فهم مخطئون بالتأكيد، وأنا أتحدث هنا من موقع التجربة.فالتحاقي بسلك الشرطة لم يعقني البتة عن الكتابة،بل على العكس من ذلك، وفر لي حدا أدنى ضروريا من الاستقرار الذي كنت في أمس الحاجة إليه لأتمكن من مواصلة الكتابة. فبعد حصولي على الإجازة عانيت من فترة بطالة قاسية امتدت لثلاث سنوات، أوشكت أن تقتل في داخلي أي رغبة أو قدرة على الكتابة. وعندما التحقت بهذه الوظيفة، و أصبت نوعا من الاستقرار النفسي، أورقت بداخلي أحلام الكتابة من جديد، وانكببت على هوايتي برغبة عارمة وطاقة متجددة، وحققت بعضا من أحلامي، وأتمنى أن تسعفني الظروف لتحقيق المزيد. ثانيا: بناء على ما سلف، فأنا أكتب تحررا من الصور والمشاهد والأحاسيس والأفكار التي تتراكم بداخلي باستمرار، وأنا أعيش حياتي اليومية؛ تترسب في أعماقي وتختمر إلى أن تغدو هواجس ملحة لا يمكن التخلص منها والتحرر من ضغطها إلا بتحويلها إلى نصوص. أكتب تحررا من الطابع العادي لليومي ومن «رداءته وبذاءته» أحيانا. أكتب لأتحرر من ثقل وعبء الرسائل والأسئلة الكثيرة التي يوجهها إلي العالم من حولي، ولا أكف عن التقاطها؛ أكتب لأتخلص منها وأفسح المجال لاستقبال المزيد من تلك الأسئلة والرسائل. وعلاوة على ذلك، فأنا أفصل بشكل تام وواع بين مهنتي وبين الكتابة، ولا أجد أي تناقض بينهما، ومثلما أحاول أن أكون مجيدا ومتقنا في الكتابة، أحاول أيضا أن أؤدي واجبي المهني بإتقان وإخلاص. بعد «رجل الكراسي» المجموعة القصصية التي توجت بالشارقة انتقلت إلى «شريط متعرج من الضوء» و هو النص الروائي الذي توج بدبي هذه السنة، كيف تدرك الفرق مابين عالم القصة و الرواية ؟ و لماذا هذا الانتقال نحو الرواية؟ كانت القصة القصيرة دائما هي الجنس الأدبي الأثير لدي، وسأسعى باستمرار إلى أن أحقق في كتابتها شيئا ذا قيمة. القصة القصيرة اقتناص ماهر للحظة مركزة، معزولة لكنها قد تختزن في عمقها كنه الوجود كله، وطوبى لمن يقبض عليها، وتخصه بسرها و التماعاتها الخاطفة. هي فن جميل جدا، ساحر ، مراوغ و لا يمنح فاكهته الأشهى إلا لمن يعشقه بجنون، ويبحث بإصرار عن أبهى نماذجه في كل مكان، وفي حدائق الإبداع البهيجة لكل الثقافات. أغوتني وأذاقتني بعضا من مباهجها على يد تشيكوف، بوزاتي، بيرانديلو، خوان رولفو، بورخيس، يوسف إدريس، زفزاف، بوزفور، محمد عز الدين التازي، محمد المنسي قنديل... وهلم قصا ساحرا... أنا الآن متبتل في محرابها وسأظل، ولا أرتضي لها شريكا إبداعيا آخر. أحب دائما أن اعتبر نفسي قارئا عاشقا للقصة القصيرة أكثر من كوني كاتبا لها، لأن ذلك يدفعني إلى البحث الدائب عن اقتناص المزيد من روائع ودرر هذا الفن البديع، خاصة وأني أومن بأن أجمل القصص هي التي يكتبها الآخرون، وأن هناك دائما المزيد من القصص الرائعة، ينبغي أن تكتشف وتقرأ، وأنا لا أحب أن تكون هناك قصة قصيرة جميلة في ما مكان يفوتني الإطلاع عليها، وهنا اسمح لي أن أنحني امتنانا لبعض مترجمينا الرائعين: شكرا لكم على كل فواكه القص العذب التي حملتموها على صهوة لغة الضاد إلى مائدتي ال «لا تشبع»، وأجزل لكم الشكر والامتنان على القصص القادمة. أما عن الرواية، فلم أخطط قط لكتابتها، ورواية « شريط متعرج من الضوء « الفائزة بجائزة دبي الثقافية في دورتها الأخيرة هي روايتي الأولى. كتبتها عندما عدت عام 2008 من الشارقة، بعد أن استلمت جائزة القصة القصيرة. لم يكن في ذهني سوى هذا المشهد: رجل يغادر المحطة الطرقية لمدينة صغيرة حل بها توا هربا من نفسه ومن اضطهاد مدينته، ولاشيء آخر. بدأت الكتابة، فانداحت التفاصيل والأحداث، وتكونت الشخصيات وتشكلت ملامحها. كانت مغامرة جميلة غامضة تابعتها حتى النهاية، وحتى هذه اللحظة لم أدرك بالضبط لماذا كتبت تلك الرواية في ذلك الوقت بالذات، وكيف كتبتها دون تخطيط مسبق، أو تفكير متأن في موضوعها. ربما ما يمنح الكتابة الإبداعية سمة خاصة أن فيها جانبا مهما مما هو مبهم، ملتبس، لا شعوري... لكن ماهي الإمكانيات التي تتيحها الرواية إبداعيا؟ أعتقد أن من مميزات الرواية أنها تمكنك من الحديث عن أي شيء تريده، وتمنحك المزيد من الحرية في تجريب أساليب القول المختلفة، وتجعلك تستأنس أكثر بعالم الكتابة، إذ تمضي فيه وقتا أكثر، بشكل يجعل الكاتب يعيش بالفعل حياة أخرى توشك أن تكون حقيقية وقائمة الذات موازية للحياة الواقعية. لم أعتبر مطلقا أن كتابتي للقصة القصيرة خطوة أخطوها باتجاه كتابة الرواية. على العكس أعتبر كتابتي لهذه الرواية القصيرة، عملا أتى على هامش القصة القصيرة، أو لحظة فاصلة بين مجموعتي الأولى «رجل الكراسي «ومجموعتي الثانية التي هي قيد الإنجاز. و مع ذلك فأنا أعتبر «شريط متعرج من الضوء « ابنا جميلا رائعا، وقد أفادتني كتابتها كثيرا. من الصعب على كاتب يعيش في مراكش أن يفلت من غواية استدراج عوالمها إلى مشروعه السردي ، أي موقع لهذا الفضاء في كتاباتك؟ أشكرك على هذا السؤال الذي أبهجني طرحك إياه. إنه يومئ إلى موضوع محوري يشغلني كثيرا، وأضحى هاجسا مؤرقا: فهذه المدينة التي تتنفس زواياها وأركانها وأسوارها وأبوابها عبق التاريخ الذي يمتزج بالنبض اليومي لهذه الحاضرة؛ المدينة التي تعيش اللحظة فورة من التغيرات على مختلف المستويات، حيث الاحتفاء بالحياة في جانبها المادي الاستهلاكي الصارخ، يجاور مظاهر الحياة الأكثر بساطة وتلقائية، ويسيران جنبا إلى جنب... كل هذا يجعل المهتم مسكونا بالأسئلة: ما الذي يخبئه قادم الأيام لهذه المدينة؟ هل هذه الازدواجية أمر صحي، يجعل مراكش أكثر انفتاحا واحتفاء بالحياة،كما يراد لها ويروج، وهي تضع يد العناية والحماية في الوقت ذاته على مظاهر ومكامن خصوصيتها و هويتها؟ هل هذا التغير الذي يطال المدينة حتمي، لا يمكن التحكم في مساره، و قد يجرف في طريقه كل شيء ليس له مردود مادي آني؟ ...وأسئلة أخرى كثيرة تلح. ألا ترى معي أن مراكش لم تحظ بما تستحقه من الاحتفاء الابداعي في متخيل مبدعيها ، أقصد المراكشيين، عكس مدن أخرى ؟ إن مدينة بهذه المواصفات، وبساحتها التي أضحت مكانا أسطوريا متخيلا أكثر منه واقعيا، لا يمكن إلا أن تستفز المخيلة وتشحنها، و تمنح إمكانيات غنية جديرة بالاستثمار في الكتابة السردية والإبداعية عموما. إن المطلع على المتن السردي الذي أنجز حتى الآن، وحاول استثمار فضاءات هذه المدينة في أبعادها المختلفة، لابد أن يلاحظ أن مراكش لم تحظ بعد بنصوص سردية وازنة اشتغلت على الزخم التاريخي والرمزي للمدينة، كما أن الحديث عنها أدبي يصرف الذهن غالبا إلى كتابات أبدعها كتاب أجانب وافدون على المدينة أو مقيمون بها، كما هو شأن إلياس كانيتي في كتابه «أصوات مراكش» أو خوان غويتيسولو الذي عشق هذه المدينة وأقام فيها، وكتب عنها بشكل أدق وأكثر نفاذا إلى أعماقها، بعيدا عن أي رؤية غرائبية أو فلكلورية. في حين أن كتاب المدينة لم يخصوها بعد بما هي جديرة به من منجز سردي، يجعلنا نقرن ذكرهم بها، كما شأن بعض المدن المغربية الأخرى، مثل فاس وطنجة والدار البيضاء. وفي حدود اطلاعي الذي يبقى قاصرا بدون شك، فإن القاص والروائي أبو يوسف طه، والقاص أحمد طليمات هما من أكثر من كتب عن مراكش، وحاول استثمار ما تتيحه فضاءاتها التاريخية، الثقافية والاجتماعية... من إمكانيات تثري الكتابة السردية، سواء في رواياتهما أو قصصهما القصيرة، لكن المنجز السردي عموما، المحتفي بهذه المدينة الاستثنائية في حاجة إلى المزيد من الإغناء والمراكمة. أما بالنسبة لي فقد أغوتني هذه المدينة بالفعل، واستدرجتني إلى عوالمها الغنية الناغلة بالدلالات والعمق، وحاولت الاقتراب منها في بعض قصص مجموعتي «رجل الكراسي «ثم على نحو أكثر تفصيلا في روايتي «شريط متعرج من الضوء «. لكن أفضل ما يمكن أن أكتبه عن هذه المدينة لا زال في خانة الحلم بالنسبة لي، وبدأ يلح علي أكثر في الفترة الحالية، وأتمنى أن تسعفني إمكانياتي وقدراتي لأحتفي سرديا بهذه المدينة التي أعشقها، على النحو الذي أتصوره وأتمناه في أعمالي القادمة.