يواجه العالم اليوم أزمة من أصعب الأزمات التي مرت بها البشرية على امتداد تاريخ وجودها على البسيطة نتيجة تفشي جائحة كوفيد 19 (فيروس كورونا المستجد). وتعد هذه الأزمة هي الأسوأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. ولقد خلفت هذه الجائحة هلعا كبيرا بين الناس، والمئات الآلاف من الضحايا، وصعوبة شديدة في كيفية التعامل معها من لدن صناع القرار والحكومات والمنظمات الدولية. كما أن تداعيات الجائحة على المستويين السوسيو- اقتصادي وميزانيات الدول تعد مفزعة – سواء بالنسبة لدول الشمال أو دول الجنوب. وهو ما يلوح بأزمة اقتصادية كبرى في العالم، والتي من المفترض بأن تكون خانقة في العديد من البلدان. وسيقتصر التحليل في هذا المقال على بعض نتائج هذا الوباء وانعكاساتها على مستويين إثنين: المستوى السوسيو-اقتصادي، والمستوى المتعلق بميزانيات الدول. فعلى المستوى السوسيو-اقتصادي يمكن إبراز ما يلي: أولا- إفلاس العديد من المقاولات والشركات – أو وجودها على حافة ذلك – نتيجة توقفها عن العمل في فترات حالة الطوارئ الصحية، وضعف القدرة الشرائية للمواطنين، وتراجع الطلب، وانكماش حجم المعاملات التجارية الدولية، وإغلاق الحدود (مثلا قطاعات السياحة والنقل الجوي والعقار). هذا الأمر سيكون له تأثير على الناتج الداخلي الخام للدول ومعدل النمو الذي سيعرف تراجعا ملموسا – بل وقاسيا – هذه السنة (مثلا -9,1% داخل دول الاتحاد الأوربي، و- 6,1% بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية واليابان، وحوالي 5% - في الدول الصاعدة والسائرة في طريق النمو) والذي لم يعرف العالم له مثيلا منذ عام 1870 (1)؛ ثانيا- المشاكل التي تتخبط فيها المقاولات المتضررة نتيجة انتشار فيروس كورونا المستجد ينذر كذلك بارتفاع معدل البطالة بسبب استغناء هذه المقاولات عن بعض أجرائها أو إقفالها. والسيناريو الأسوأ هنا هو مطالبة الأبناك للمدينون من هؤلاء الأجراء باسترجاع أموالهم أو مصادرة ممتلكاتهم نتيجة عجزهم عن الاستمرار في تسديد الأقساط الشهرية لتلك الديون. وإذا كانت بعض الدول توفر نوع من الحماية الاجتماعية لمثل هؤلاء الأجراء الذين يفقدون في مثل هذه الظروف أو الكوارث عملهم؛ بحيث يتم منحهم إعانة مالية مريحة نوعا ما طيلة فترة توقفهم عن العمل أو البطالة؛ إضافة إلى إمكانية إعادة جدولة ديونهم وتأجيل أدائها لاحقا (ألمانيا وفرنسا على سبيل المثال) فإن مثل هؤلاء الأجراء في دول أخرى لا يتوفرون على مثل هذه الحماية؛ ثالثا- تفاقم الهشاشة الاجتماعية والفقر في العديد من بلدان العالم، وبصفة خاصة داخل دول الجنوب التي تتوفر على نسبة مرتفعة جدا من "القطاع غير المهيكل" نتيجة توقف العديد من العاملين في هذا القطاع عن العمل أو منعهم من مزاولة أنشطتهم من لدن السلطات العمومية في إطار سياسات الدول لتطويق انتشار فيروس كورونا المستجد. هذه الحالات الثلاث – السالفة الذكر – ستؤدي غالبا – في حالة غياب حلول عملية لمعالجتها – إلى الاحتقان الاجتماعي، وارتفاع معدل الجريمة، وموجة من الاحتجاجات أو الاضطرابات التي قد تهدد الاستقرار والسلم المجتمعي في العديد من الدول. أما على مستوى ميزانيات الدول فإن توقف عجلات النشاط الاقتصادي – الجزئي أو الكلي – خلال فترة الحجر الصحي الذي تم تطبيقه في أغلبية البلدان، والمشاكل المادية التي تعاني منها المقاولات وكذلك المواطنين جراء ذلك أدى إلى تقليص مداخيل الدول وخصوصا ما يتعلق بتحصيل الضرائب – سواء المباشرة منها أو غير المباشرة. وإذا كانت دول الشمال لديها القدرة على الصمود المالي في مواجهة تداعيات وباء كورونا المستجد نتيجة توفرها على صناديق للدعم ومواجهة الطوارئ وفق استراتيجيات قبلية لتدبير الأزمات فإن أغلب دول الجنوب تفتقد للموارد المالية الكافية أو الرؤية الاستراتيجية القبلية لمواجهة مثل هذه الأوضاع. وهو ما يطرح العديد من التحديات أمام هذه الدول التي لجأ العديد منها للاستدانة من الخارج، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وما يترتب عن ذلك من اهتزاز لسيادتها وخضوعها من جديد للإملاءات الخارجية مثل تطبيق سياسة التقشف (تقليص النفقات العمومية وخصوصا ما يتعلق بميزانيات التجهيز والتوظيف، تجميد الأجور، إلخ.) واحتمال الرفع من الضرائب أو توسيع وعائها لاحقا، وما لذلك من تبعات قد تصل تكلفتها إلى الأجيال القادمة. ويضع وباء كورونا المستجد جميع الحكومات أمام محك صعب. كما أنها ألزمت الدول للرجوع بقوة إلى نهج سياسة "الدولة المتدخلة" – وعدم الاكتفاء بلعب دور الدولة الحارسة (المحافظة على النظام العام والأمن الخارجي) – من أجل مساعدة المقاولات المتضررة على الوقوف من جديد، والإبقاء على مناصب الشغل، وإعادة الحياة والديناميكية للنشاط الاقتصادي. وإذا كانت دول الشمال تتوفر على القدرة المادية لمواجهة تبعات الجائحة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي – كما تمت الإشارة لذلك سابقا –؛ فإن دول الجنوب ليس لها من خيار آخر من أجل إيجاد موارد مالية كافية في هذه الفترة الحرجة سوى ببناء استراتيجية محكمة لمواجهة هذه التبعات والتي من جملة مقوماتها: إقامة العدالة الضريبية، ومحاربة التهرب الضريبي، ومكافحة الفساد، وترشيد النفقات، وإلغاء الامتيازات والاحتكارات، وحسن تدبير الشأن العام، وفرض احترام القانون، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإعادة جدولة ديون المتضررين (مقاولات وأفراد)، ومراجعة نسب الأرباح التي تجنيها الأبناك – والتي تعد في بعض دول الجنوب الأكثر ارتفاعا في العالم –، وإعانة أولئك الذين فقدوا عملهم بسبب تداعيات الوباء. وأخيرا، إن طبيعة المرحلة التي تمر منها البشرية جمعاء حاليا بسبب انتشار جائحة كوفيد 19، وتداعياتها على العديد من المستويات الحساسة للمجتمعات والدول، لتستدعي – أكثر من أي وقت مضى – تظافر الجهود واستحضار الصالح العام من أجل تخطي هذه الأزمة الحادة والغير مسبوقة بنجاح. الهوامش (1) Communiqué de presse de la Banque Mondiale du 08 juin 2020. *أستاذ العلاقات الدولية بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة