خلق تدخل الدولة المكثف و الشامل، لمكافحة الآثار الصحية و الاقتصادية و الاجتماعية العاصفية التي خلفتها جائحة فيروس كورونا، ضغطا شديدا على ميزانية الدولة و نفقاتها الاستثنائية. وقد تعددت الآراء حول سبل تمويل عجز الخزينة، ضمن سياق اقتصادي دولي ووطني متأزم. و لمواجهة هذا الوضع، اقترح البعض، أن يسك بنك المغرب مزيدا من العملة لضخها في الاقتصاد الوطني، حتى وإن لم تتوفر على مقابل حقيقي في الإقتصاد أو في المدخرات الوطنية من العملة. بطبيعة الحال يظل هذا الاقتراح غير معقول، لأن مخاطره الاقتصادية و السياسية أكبر من فائدته و إلا لكانت كل الدول قد التجأت إليه و ما كان لها أن تكبد نفسها عناء الاقتراض و البحث عن الموارد. وفي هذا الإطار برز مؤخرا خلاف داخل البرلمان،بين أحزاب المعارضة و الحكومة، حول ضرورة اللجوء إلى الدين الخارجي لتمويل جهود الدولة لمكافحة الوباء. وهو خلاف مسطري تحول إلى خلاف سياسي حول السند القانوني للجوء الحكومة للاقتراض الخارجي. علما أن موضوع الخلاف يتعلق أساسا بمسطرة التصويت على هذا المرسوم، التي يحددها القانون الداخلي لمجلس النواب، الذي لا يشترط وجوب عدد محدد من الأصوات للحصول على الأغلبية لتبني أي مشروع قانون. و الحاصل أن التصويت على مشروع قانون رقم 20.26، المتعلق بتجاوز سقف التمويلات الخارجية، قد حصل على أغلبية بحضور 22 نائبا فقط من أصل 394 مصوتا. مما اعتبرته المعارضة ضربا لحق التصويت و خرقا لمبدأ عدم قابليته للتفويض. لذلك اعتبر قرار المحكمة الدستوريةرقم: 20 /106 م.د، الصادر في 4 يونيو 2020، أن هذا الخلاف يتعلق أساسا بتطبيق النظام الداخلي لمجلسي البرلمان و بالسير الداخلي لمجلس النواب، يجعلها، بحكم الدستور غير مختصة للنظر فيه. من هذا المنطلق، وفي سياق البحث عن تمويل عجز خزينة الدولة في زمن الجائحة، يجب الإقرار بعدم وجودأي مانع، من الناحية القانونية/ الدستورية الصرفة، أمام الحكومة للرفع من سقف الاقتراض الخارجي عبر مرسوم قانون، قصد تمويل العجز الحاصل في النفقات العمومية، الذي ارتفع بشكل صاروخي بفعل الآثار السلبية الحادة التي خلفتها الجائحة على المستويين الاقتصادي و الاجتماعي. حيث أصبحت الدولة مطالبة بتمويل الرعاية الصحية للمرضى ولعمليات الحجر الصحي و للفحوصات التي يتم إجراءها، و بتمويل النفقات الاجتماعية غير المتوقعة، الناتجة عن توقف أو تباطؤ النشاط الاقتصادي الوطني، الذي عمق من هشاشة العديد من الفئات الاجتماعية و من المقاولات الصغيرة و المتوسطة. و إذا ما تم النظر بشكل دقيق إلى الخيارات المطروحة أمام الدولة المغربية لسد هذا العجز غير المتوقع في الميزانية، فإنها تظل جد محدودة. ذلك أن الخيارات المتاحة أمامها لا تتجاوز ثلاثة، منها ما هو مستحيل التحقيق و منها ما هو صعب، من حيث المخاطر المترتبة عنه. الخيار الأول هو التقشف في النفقات العمومية، علما أنه خيار مستحيل في زمن الأزمات و الجوائح الصحية، حيث تكون الدولة مطالبة بالتدخل الكثيف في كل المجالات قصد إنقاذ الأرواح و الممتلكات و وظائف الشغل و المقاولات… و هو تدخل يترتب عنه أيضا ارتفاع صاروخي مواز و غير متوقع في نفقاتها. و من ثم فإن أولويات إنقاذ الأرواح و الخروج من نفق الأزمة تسبق التوازنات الإقتصادية والمالية، المعمول بها في السياقات السياسية و الإقتصادية العادية. إذ يتم التضحية بمبدأ ترشيد النفقات العمومية و تعويضه بمبدأ ضرورة توفير الموارد المالية العمومية. هذا، لأن مؤسسات الدولة تتدخل لحل الأزمة انطلاقا من امتلاكها للسلطة و الموارد العمومية الشاملة، التي يفترض أن لا تنقطع أو تنعدم، تحت طائلة فقدانها لقوتها و هيبتها و مصداقيتها الداخلية و الخارجية. حيث أن الدول التي تصل إلى مستوى التوقف عن الأداء، تعتبر في الأعراف الدولية دولا عاجزة أو فاشلة، أي دولا تعجز عن القيام بالمهام السيادية الضرورية لوجودها، مثل الحفاظ على الأمن العام و الاستقرار الاجتماعي و أداء أجور موظفيها و أعوانها و السهر على حسن مؤسساتها غير السيادية. و يفتقد هذا الصنف من الدول للمصداقية السياسية و الرمزية الضرورية لكل شخص قانوني. من هذه الزاوية، يعتبر استبعاد خيار التقشف في النفقات العمومية خيارا صائبا للدولة في هذا التوقيت بالذات، بالرغم من كلفته المستقبلية المرتفعة. ثانيا: خيار الرفع من الضرائب العمومية، و هو خيار مستبعد أيضا في الظرف الراهن،لأن الضغط الضريبي في المغرب يظل مرتفعا، و لأن العديد من القطاعات الإقتصادية الوطنية، بما فيها الحيوية قد أصابها إنهاك شديد بفعل تباطؤ النشاط الاقتصادي و الاستهلاكي و بفعل تآكل قدرة المقاولات على الدفع واستخلاص ديونها. لذلك فالرفع من الضرائب في هذا الوقت، كان من شأنه أن يساهم في إجهاد الإقتصاد المغربي و عرقلة الاستثمار و تراجع الثقة في إمكانية عودة النشاط الاقتصادي و الاستهلاكي إلى عهده. كما أن خيار الزيادة في الضرائب، بالرغم من جاذبيته و سهولته، يظل في مجمله غير كاف لتعويض العجز الحاصل في ميزانية الدولة، ما دامت موارده لا تكفيلتوفير ما تتطلبه الدولة من موارد مالية ملحة. ثالثا: خيار المديونية الخارجية، الذي يقتضي لجوء الدولة السريع نحو الاقتراض الخارجي لدى البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و لدى العديد من الصناديق المتعددة الأطراف و الأبناك و الدول الصديقة. و هو خيار، و إن جوبه بالرفض و الانتقاد من قبل العديد من الفاعلين السياسيين، يظل ملحا و معقولا، في سياق الضغوطات المالية الكبيرة، التي تتعرض لها مؤسسات الدولة في سياق مكافحتها لمخلفات الجائحة. صحيح أن خيار الإقتراض الخارجي يطرح إشكالات تتعلق بمشروطيته وبرمي مسؤولية الأزمة المالية الحالية على الأجيال اللاحقة، التي تظل مطالبة بأداء مستحقات ديون لم تكن مسؤولة عنها. و صحيح أيضا أن لجوء الدولة المكثف إلى الإقتراض الخارجي من شأنه أن يضر بسمعتها المالية و بتصنيفها من قبل مؤسسات التنقيط الدولية، التي ترصد قدرة الدول على سداد ديونها، مما قد يدفع المغرب لاحقا للاقتراض بأسعار مرتفعة الفائدة، كنتيجة حتمية لتضائل قدرته على السداد. كما قد يترتب عن الإقتراض الخارجي غير المحسوب إشكالات اقتصادية آنية مثل التضخم، حيث تضخ الدولة قدرا كبيرا من السيولة في الإقتصاد، دون سند إنتاجي أو إدخاري مباشر، خصوصا إذا كانت موجهة نحو تسديد النفقات التسييرية الآنية للدولة على حساب نفقاتها الاستثمارية. و بالرغم من ذلك كله يظل الإقتراض الخارجي هو الخيار الأوحد لتعاطي الدولة مع المخلفات الصحية الاقتصادية و الاجتماعية للجائحة. و هو خيار التجأت إليه كل الدول التي تمر بأزمة مالية داهمة، بغض النظر عن قوة اقتصادها. كما أن العديد من النظريات الاقتصادية الجادة لا تستبعد لجوء الدول للاقتراض الداخلي و الخارجي، كخيار بعيد و متوسط المدى لتحفيز الاقتصاد و الاستثمار و الحفاظ على وتيرة أداء المقاولات رغم انخفاض الطلب و توقف العديد من القطاعات الاقتصادية عن العمل. إذ يسمح ذلك على المستوى الآني بالحفاظ على مناصب الشغل و على القدرة الشرائية للعديد من الفئات الاجتماعية الهشة. علما أن كل هذه الإجراءات تدخل في صميم الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي و المؤسساتي، الذي يعد شرطا من شروط الحفاظ على أمن و استقرار الدولة برمتها. من هذه الزاوية، تحولت الدولة، في سياق الجائحة، بفعل تدخلها الشامل و السريع في كل مناحي الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، من مجرد دولة راعية إلى دولة إنمائية شاملة Etat développemental global . ممايطرح إشكالات مستجدة تتعلق بقدرتها الفعلية على حماية المواطنين و المجتمع المدني من سلطاتها الشاملة. و تتعلق أيضا بطبيعة سقف الحريات المقبولة في الأزمات و دور القانون في التضييق على الحريات العامة بدل الدفاع عنها. و لربما يطرح ذلك أيضا إشكالات جديدة خاصة بتحول الديمقراطية المعاصرة و قدرتها على الصمود أمام التيارات الشعبوية و الدينية الراديكالية والدعوات السيادية الانغلاقية في المغرب كما في العالم و أمام الانجذاب الجارف نحو استعمال البيانات الشاملة ( البيغ داتا) للتقليل من كلفة تدخل الدولة و تعظيم طاعة الأفراد والمجتمع . *أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس أكدال-الرباط و رئيس الجمعية المغربية للعلوم السياسية