في غياب إستراتيجية واضحة للحد من المنحى التصاعدي للمديونية الخارجية ،تتجه الحكومة نحو الزج بالبلاد في شباك سياسة تقويم هيكلة جديدة، وقد تدخلها في دوامة من الهزات الاجتماعية والحركات الاحتجاجية. ويشهد على هذا المنحى ،احتلال المغرب للمركز 55 من أصل 68 دولة تعرف نسبة ديون خارجية جد مرتفعة، حيث بلغ حجم الدين الخارجي للمغرب سنة 2015، ما قدره 42 مليار دولار أمريكي،وبهذا يكون المغرب ،حسب ما كشف عنه تقرير جديد لمجلة "غلوبال فاينانس"،البلد الذي يتربع على قائمة الدول العربية التي تعرف أكثر نسبة ديون خارجية، متبوعا بدولة مصر في المركز الثاني بحوالي 40 مليار دولار أمريكي، ثم تونس في المركز الثالث بحوالي 27 مليار دولار أمريكي، في المقابل، بلغت ديون الأردن ما قدره 25 مليار دولار أمريكي، وبذلك تكون هذه الدول العربية الوحيدة ضمن قائمة أكثر الدول استدانة في العالم. وهذا في الوقت الذي دق فيه مركز الظرفية الاقتصادية مؤخرا، ناقوس الخطر من الارتفاع الكبير الذي تعرفه مديونية المغرب، وكذا خطورتها على مالية الدولة وعلى الاقتصاد الوطني بشكل عام، خاصة في ظل توجهات الحكومة الحالية، ولجوئها المفرط للاستدانة الخارجية بشكل مخيف مقارنة مع سنة 2008. وفي هذا الصدد، لفت المركز إلى أن نسبة المديونية وصلت إلى أكثر من 61.5% سنة 2013، ثم انتقلت إلى 63.4 % سنة 2014، مع العلم أنها لم تتجاوز 45.5 % سنة 2008 في عهد الحكومة السابقة، منبها من ارتفاع مهول ومرتقبفي المديونية إذا استمر الحال على ما هو عليه. هذا ،وبحسب تقرير للدين العمومي، نشرته وزارة الاقتصاد والمالية بمناسبة تقديمها لمشروع قانون المالية لسنة 2016، فقد بلغ حجم دين الخزينة 608.4 مليارات درهم خلال النصف الأول من سنة 2015، مقابل 586.6 مليار درهم في متم سنة 2014، مسجلا بذلك ارتفاعا بحوالي 21.8 مليار درهم؛ أي بزيادة 4 %،ويعزى ارتفاع ديون المغرب، بحسب وزارة الاقتصاد والمالية، إلى ارتفاع حجم الدين الداخلي بحوالي 5.2 %، وهو ما سيجعل المدة الزمنية لتسديد هذه الديون تصل إلى6 سنوات ونصف. وفي هذا السياق، أكد محمد بوسعيد، وزير الاقتصاد والمالية، في معرض مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2016بلجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب، أن هناك علاقة بين نسبة الدين وعجز الميزانية والتحكم في التوازنات المالية، و أن نسبة الاستدانة التي وصل إليها الاقتصاد الوطني ليست خطيرة بحكم المقومات والمؤهلات التي تتوفر عليها المملكة. وفي محاولة منه للالتفاف حول الانتقادات الموجهة للحكومة، أوضح بوسعيد أن الحكومة تستدين ليس للاستهلاك ولكن للاستثمار، بهدف رفع فرص الشغل والنهوض بالاقتصاد الوطني، معتبرا أن الاستدانة من مقومات الاقتصاد العصري، وليس هناك سياسة تسمى الاستدانة ولكن هي تحصيل حاصل،وأن ارتفاع تحملات الدين ترجع إلى ارتفاع حجم الدين وليس إلى ارتفاع تكلفته. وفي سياق حديثه عن لجوء المغرب للاستدانة، عرج الوزير المكلف بالاقتصاد والمالية على آثار الهبات التي حصلت عليها المملكة من دول مجلس التعاون الخليجي، بحيث كشف أن ما تم سحبه خلال ثلاث سنوات هو 26 مليار درهم، وأن هذه الهِبات تمول مشاريع يتم اختيارها من طرف البلدان الممونة، ويتم توقيع الاتفاقيات بشأنها، علما بأن انخفاض مداخيل البترول كان لها الأثر البين على سيولة منح هذه الهِبات وطرق صرفها. هذا، ومعلوم أن مشروع قانون مالية سنة2016، قد صادف التقرير التقييمي لخبراء صندوق النقد الدولي حول أداء الاقتصاد المغربي منذ تعيين حكومة بنكيران ، والذي تضمن جملة من الإجراءات والتوصيات ،في إطار دعم صندوق النقد الدولي للتوازنات المالية والمحافظة على قدرة المغرب لضمان سداد ديونه،وعبر تركيز الحكومة ، قبل نهاية ولايتها ،على أجرأة تغيير جذري في تكاليف المقاصة، عبر التحرير الكلي لسعر المحروقات ورفع الدعم عن السكر وغاز البوتان. وبهذا الخصوص ، نبه صندوق النقد الدولي إلى أن مؤشر اللجوء إلى الاقتراض الخارجي قد ارتفع بحوالي سبع نقاط عن السقف المحدد برسم الاتفاق المبرم بين حكومة بنكيران والصندوق للحصول على الخط الإئتماني، مع تشديده على وضع قانون مالية 2016 بانسجام مع مقتضيات القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية الصادر بالجريدة الرسمية في يونيو 2015، ووفق الالتزامات التي تعهد بها المغرب مقابل حصوله على قروض من الصندوق . تشديد أملته المعطيات التي استند عليها التقرير التقويمي للصندوق ، من كون الحكومة تقترض من أجل تمويل عجز الميزانية ، وهو الأمر الذي سبق أن وقفت عليه تقارير سابقة للمجلس الأعلى للحسابات حول تدبير المديونية العمومية ، والتي أكدت أن مبالغ القروض الداخلية المدرجة في قانون المالية غير حصرية ،بحيث تستثني قروضا أخرى قد تخصص لتمويل عجز الميزانية ولا توظف لتلبية حاجيات الخزينة،وبالتالي تتجاوز مجال تصريح البرلمان ورقابته. فيما يشير التقرير السنوي الأخير لبنك المغرب إلى أن جاري الدين العمومي قد انتقل من 520 مليار درهم قبيل تنصيب بنكيران رئيسا للحكومة إلى 721 مليار درهم السنة الماضية ، وهو ما يفيد اقتراض ما مجموعه 200 مليار و500 مليون درهم خلال ولاية حكومته . وهكذا وصل متوسط المديونية السنوية خلال السنوات الثلاث الأخيرة حوالي 66 مليار درهم ،ويتجاوز هذا المتوسط حجم الاستثمار في الميزانية ، مما يؤشر على أن جزءا من القروض صار يوجه لتغطية نفقات التسيير وتمويل عجز الميزانية ،وهو الأمر الذي أصبح مقيدا بمقتضى القانون التنظيمي المصادق عليه مؤخرا، والذي يلزم الحكومة بتحديد قيمة القروض الجديدة بناء على حجم الاستثمارات وخدمات وأصول الدين ، وبألا تتجاوز قيمة القروض المبرمجة في الميزانية نفقات الإستثمار ،وذلك لضمان السداد عبر المردودية المرتقبة للمشاريع المنجزة . هذا وإذا كان الناتج الخام للمغرب سنة 2014يقدر ب 113مليار يورو، وديون المغرب العمومية والخاصة تمثل نسبة 136 % من هذا الناتج ، حسب معهد ماكينزي ، فإن مجموع مديونية المغرب على هذا الأساس يقدر بما قيمته 150 مليار يورو، يندرج في حسابها، إلى جانب ارتفاع ديون المغرب العمومية ، ديون المقاولات التي أصبحت تمثل 51 %من الناتج الداخلي الخام، وارتفاع وتيرة اقتراض المواطنين التي أصبحت تشكل 23 %من الناتج الداخلي الخام. وهكذا، وفي في غياب إستراتيجية واضحة للحد من المنحى التصاعدي لحجم الدين العمومي الخارجي وتحجيم مخاطره على القرار السيادي للمغرب،أصبح اللجوء للديون الخارجية منذ منتصف ولاية حكومة بنكيران مفرطا للغاية،بحيث اقترضت، مجموع ما اقترضته ثلاث حكومات متعاقبة، أي حكومات عبد الرحمان اليوسفي ،إدريس جطو وعباس الفاسي، بعد ارتفاع حجم الدين العمومي في هذه الفترة بحوالي 103 مليارات درهم مقابل 106 مليارات درهم طيلة العشر سنوات الممتدة مابين سنة 2000 وسنة 2010. ومعلوم، أن خدمات الديون العمومية الإجمالية الداخلية والخارجية للمغرب قد بلغت 163 مليار درهمفي نهاية 2013 ، وهو ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف ميزانية التعليم لسنة 2013، وحوالي 13 مرة ميزانية الصحة، وحوالي ثلاثة أضعاف ميزانية الاستثمارات العمومية، وهذا في الوقت الذي تمتص فيه خدمات الدين سنويا من فوائد و حصة الدين الأصلي ،103 مليار درهم كمعدل ل 6 سنوات الأخيرة ،ما بين 2007 و 2012، منها 18 مليار درهم مخصصة للدين الخارجي، و 85 مليار درهم للدين الداخلي، بحيث ما بين سنوات 1983 و 2011 سدد المغرب إلى الخارج ما يفوق 115 مليار دولار، أي ما يعادل 8 مرات دينه الأصلي. والأنكى من هذا، كون تفاقم المديونية بهذه الوتيرة نجم عنه بشكل أوتوماتيكي ارتفاع كلفة الدين إلى مستويات تفوق نسب النمو ،بحيث أصبحت نسبة النمو تعادل 3.2 % مقابل كلفة دين تناهز 4.7 %، مما يعني أن المديونية لا تنتج ثروات تفوق أو على الأقل تعادل نسبة كلفتها ،وأن الحكومة أصبحت تقترض لتمويل جزء من الاستهلاك العمومي وليس فقط للتجهيز والاستثمار، بسبب تراجع مداخيل الميزانية وضغط ميزانيات التسيير . وهو الأمر الذي أبانت عنه توجهات قانون المالية لسنة 2015، في سعيها للحفاظ على احتياطي المغرب من العملة الصعبة في سقف محدد يستجيب لشروط خط السيولة الوقائي المفتوح للمغرب من قبل صندوق النقد الدولي بقيمة 5 ملايير دولار ، وعلى مواصلة تعبئة التمويلات الخارجية ،علما باحتياجات تمويل الخزينة في السوق المالية الدولي ، حسب تقديرات وزارة المالية ، إلى 24 مليار دولار توزع بين التمويل الخارجي من لدن الدائنين الثنائيين ومتعددي الأطراف، ومن التمويلات في السوق المالية الدولية التي يعتمد حجمها بشكل خاص على طلب المستثمرين. فبدعوى معالجة اختلالات الإطار الماكرو اقتصادي للبلاد ومتابعة الإصلاحات البنيوية والمهيكلة وتحجيم المخاطر للحفاظ على ثقة الدائنين والمستثمرين لتقليص الدين الخارجي، وتأكيدا منها على استمرار ارتهان الاقتصاد الوطني للمؤسسات الدولية ،أعلنت حكومة بنكيران وبرسم قانون المالية لسنة 2015، عزمها على اللجوء إلى سوق السندات العالمية حسب الفرص المتاحة في السوق، أو بيع سندات في أسواق رأس المال الدولية وتوقيع اتفاقات مع مقرضين دوليين للحصول على قرض بقيمة2.8 مليار دولار. وبخلاف ما يجري تسويقه من عناوين عند التوقيع على أي قرض ، فإن الأمر لا يتعلق بدعم فحسب، وإنما بقروض وبشروط وضمانات لتسديدها ، من قبيل وضع ميزانية صندوق المقاصة على مقصلة سياسة تقشفية وإجراءات دراكونية، والتي تشهد تراجعا في الاعتمادات المرصودة لها للسنة الرابعة على التوالي، فمن 56 مليار درهم سنة 2012 و 46 مليار درهم سنة 2013 إلى 35 مليار درهم سنة 2014،و23مليار درهم سنة 2015، بحكم رفع الدعم عن البنزين والوقود الصناعي والتوجه نحو الرفع التدريجي للدعم الموجه للغاز والسكر والدقيق في أفق إلغائه بشكل تام. وحسب الباحث والخبير الاقتصادِي نجيب أقصبي، فإن كون غالبية دول المنطقة العربية تعيش اضطرابا وليس ثمة حاجة للقروض من قبل دول الخليج ،فإن إيجاد زبون يتمتع بالاستقرار كالمغرب يعد فرصة سانحة للبنك الدولي ومردودية مضمونة مستقبلا ،وبخلاف ما يجري تسويقه ، فإن الأمر لا يتعلق بدعم وإنما بقروض تنذر بكلفة ثقيلة، ذلك أن المغرب سيكون ملزما بالتقشف كي يتمكن من تسديد هذه الديون ، التِي يتوجب أن تسلك طريقها نحو الاستثمار كي تكون مفيدة وتكفل السداد ، وإلا ستتحول إلى عبء مستقبلا. هذا، وكانت الحكومة ،في إطار إستراتيجية جديدة لتمويل الخزينة عبر التمويل الخارجي، قد لجأت الى بيع سندات بالسوق المالي الدولي في سنة 2010 بقيمة 1 مليار يورو، و1,5 مليار دولار في دجنبر 2012، و 750 مليون دولار في ماي 2013، و 1 مليار يورو في يونيو 2014، وفي غشت 2014، حصل المغرب على قرض ائتماني احترازي جديد قيمته 5 مليارات دولار،على مدى عامين قد يستعمل لتغطية عجز حساب المعاملات الجارية لميزان الآداءات بشكل استعجالي. ومعلوم أن البنك الدولِي وفي إطار شراكته الإستراتيجية مع المغرب ، كان قد أشر على رفع دعمه المالي إلى 4 ملايير دولار أمريكي خلال الفترة 2014 -2017 بمعدل مليار دولار سنويا، وفي هذا الصدد تفيد دوريات البنك الدولي ، أن هذا الأخير منح المغرب ما مجموعه 13,5 مليار دولار، لم تسدد منها الرباط سوى نحو 7 مليارات دولار، وذلك بغاية تجاوز تداعيات الأوضاع السياسية غير المستقرة في أكثر من بلد عربي و مخلفات الأزمة المالية التي هزت منطقة اليورو، ومباشرة إصلاحات هيكلية تطال صندوق المقاصة وصناديق التقاعد ومزيد من الضغط على النفقات العمومية وعلى الاستثمارات العمومية بهدف تقليص العجز إلى 4.9% .. إصلاحات ما فتئ صندوق النقد الدولي يشيد بإجراءات الحكومة المغربية في مجرى تنزيلها وفق الوصفات التي يشدد عليها خبراؤه كشروط للتأشير على طلب قروض وفتح خطوط ائتمانية ،في الوقت الذي تتجنب فيه تقاريره الدورية الوقوف على جملة من المفارقات الصارخة التي يسجلها الاقتصاد المغربي ، صلة بتسجيل نمو اقتصادي مرتفع ،في ظل تحول المغرب إلى أكبر الدائنين في إفريقيا والعالم العربي وترديه في سلم التنمية البشرية في تقارير منظمة الأممالمتحدة إلى المركز 130. الأمر الذي يشهد عليه 9 %من السكان الذين يعيشون تحت عتبة الفقر، و14 %من المواطنين الذين لا يتجاوز دخلهم دولارين يوميا، وكذا معضلة البطالة التي انتقل معدلها في عهد حكومة جطو من 12.2 إلى 9.5 %، وفي عهد حكومة عباس الفاسي من 9.5 إلى 8.5 %، أما في عهد حكومة بنكيران، فقد عاد معدل البطالة للارتفاع منتقلا من 8.5 إلى 10.2 %، حسب التقرير الأخير للمندوبية السامية للتخطيط. والحالة هذه ،فإن توجهات من قبيل الضغط على نفقات دعم أسعار الاستهلاك وعلى اعتمادات الاستثمار، و ما صاحبها من إجراءات لترشيد النفقات الجارية للتسيير وتعزيز المداخيل الجبائية، لن تؤدي في مجملها سوى إلى تراجع طفيف لعجز الميزانية .، وهو الأمر الذي يكشف عن أوجه الإختلالات البنيوية العميقة التي تخترق اقتصاد المغرب وماليته . ذلك أن لجوء الحكومة المفرط للمديونية الخارجية ،والذي قد يفضي إلى تدنى تنقيط المغرب في سلم التصنيف، بات يؤكد ، حسب العديد من خبراء الاقتصاد والمالية ،أن المغرب سقط في فخ اقتصادي نتيجة عدم استشراف التدبير الماكرو-اقتصادي،وأنه أصبح من الضروري تحديد أدوار جديدة للميزانية ولمكتب الصرف ولبنك المغرب وبالتالي البحث عن نموذج تدبيري جديد وجريء يعتمد المقاربة «الاقتصادية» للسياسة المعمول بها في البلدان المتقدمة، وهذا فضلا عن تفعيل مقتضيات الفصل77 من الدستور الذي ينص على المسؤولية المشتركة للحكومة والبرلمان في الحفاظ على توازن مالية الدولة. وبهذا الخصوص ،لم يفت الحليمي المندوب السامي للتخطيط التحذير من هشاشة النموذج الاقتصادي المعمول به في المغرب، والتي ما فتئت الأوضاع السياسية غير المستقرة في المنطقة العربية و مخلفات الأزمة المالية التي هزت منطقة اليورو تكشف من يوم إلى آخر عن معالمها ، حيث إن تمويل طلب داخلي قوي، يفوق قدرات تنافسية اقتصاده ومؤهلات ادخاره الداخلي، أصبح يعتمد بشكل كبير على مداخيل وهبات غير قارة واردة من الخارج ،وأن لا خيار للمغرب اليوم خارج التوافق الوطني حول سياسة اقتصادية انتقالية من أجل إصلاح المالية العمومية وتسقيف مديونية الخزينة وحجم الدين العمومي المرخص به وتحويل بنيوي للاقتصاد واسترجاع القدرة على تملك الأدوات المالية والنقدية لتنافسية المستقبل.