بعيدا عن فكرة المؤامرة، لا يسعنا في سياق انتشار الوباء الكوفيدي التاسع عشر إلا أن نذعن لفكرة مقابلة، هي أنه وباء قاتل. ومن ثمّة لا مجال للخوض في حيثيات التواطؤ الدولي الذي يحاول جاهدا وجادا أن يمرر خطاب التفوق الغربي. وإنما المجال الجدير بالحديث والاعتبار والتفعيل أيضا هو مجال الحياة واستمرار الحياة. لا أحد يجهل اليوم في سياق توفر وسائل التحصيل المعلوماتي، أن هذا الوباء قزّم العظيم من الدول، وقهر جبروتها ومركزيتها وأوقفها عاجزة عن الفعل، كما أنه وضعها في واجهة أسئلة كبيرة، لا تختار هذه الدول منها إلا سؤالا واحدا، هو حتمية إنقاذ اقتصادها بأي وجه كان، حتى ولو كان هذا الوجه على حساب القيمة الإنسانية. هكذا يجرّنا السياق الدولي إلى التسليم بضرورة وضع حد لهذا الحجر الصحي، وضعا تقرأه كل جهة حسب ثقافة شعوبها ونزوع هذه الشعوب إلى الامتثال لهذا الحجر والامتثال أيضا لشروط الخروج منه. وفي هذا المقام سيصبح المواطن مسؤولا أولاً وأخيراً عن قراره، ومسؤولا عن إصابته ومسؤولا عن طرق التعامل مع الوباء إن أصابه. بمعنى أن القرار الدولي يسعى الآن إلى وضع المواطن أمام قدره بعد أن توهم هذا القرار أنه سلّح المواطن بما يكفي من ثقافة الوباء. كل هذا في سبيل فتح الأبواب مشرعةً أمام الاقتصاد الدولي الماسك بمركزية الإنتاج وتوجيه الإنتاج، كي ينتعش ويخرج من حالة الركود القريب من السكتة القلبية. وقبل هذا وذاك، تم تصنيع الوباء داخل مخابر سوسيولوجية تعتمد على وعاء الإشاعة، حتى أضحى المواطن أمام شبكة من التفسيرات والتأويلات تأرجحت بين العلمي والخرافي والمزاجي والذاتي، طلبا لنوع من الاستقرار والإرساء على برّ أمان وهمي. وقد غذّت هذا الوهمَ ثقافة التراكم التفسيري غير الخاضع لمنطق العلم، اللهم ما كان من أدبيات ومنشورات منظمة الصحة العالمية التي تبقى واجهة مؤسسية يتعامل معها المتخصصون ولا يلتفت إليها سواد الناس إلا لماما. هذا التراكم حصّل نتيجة خطيرة هي غياب صفاء الذهن بغياب الاطمئنان لمصدر المعلومة ومن ثمّة، غياب صفاء السياق القاضي بوضوح الرؤية لاتخاذ القرار المناسب. وهذا مبيّت ومقصود لخلق نوع من التيه الاجتماعي المغيّب لجدارة العقل والمستحضر دائما لسيادة الخرافة، التي تقبض عليها الإشاعة وتكبّر حجمها وتحوّله إلى أسطورة لأنها شبيهة في نظر كلود ليفي ستراوس بالمرايا المحدّبة التي تشوّه الحقيقة. إن الإشاعة التي قدّمت لنا أصنافا كثيرة جدا من التأويلات لهذا الوباء، هي في ذاتها شكل اجتماعي تواصلي مرن ومثير ومقنع، يستطيع بفضل بعده اللغوي أن ينشر المعلومة الكاذبة ويطبعها بقدر من المصداقية التي تفتقدها أصلاً... منها مثلا فكرة المؤامرة وفكرة اللقاح الذي لم يأت بعد، وفكرة رفع الحجر الصحي وفكرة انهزام الوباء في شرط الحرارة المرتفعة وغيرها من الأفكار التي يختلط صحيحها بكاذبها، وبالتالي تتعملق وتفرض سياقها على الذهن مشفوعة بقنوات التواصل الاجتماعي وقنوات الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وسكوت الجهات المسؤولة أو تأخرها في إصدار بلاغات وبيانات الحقيقة، الغائبة دائما. هكذا يُترك الحبل على الغارب، ويُترك المواطن فريسة لشتى التأويلات في غياب تعبئة إعلامية مسؤولة، وهي التعبئة التي يتم صنعها في ارتجالية موسمية مُسفّهة وخجولة، فيما برامج الصخب والخواء والتطبيل تأخذ أكثر من حجمها ويُغذّيها باستمرار إعلامٌ مُغرض. وهكذا أيضا يسقط المواطن في كمائن مشتركة تتبدى مختلفة التأثير وتتبدى قمّتها في انتشار ثقافة الخوف أو الهلع الاجتماعي المؤدي إلى تبني سلوكات غير عقلانية وذاتية تُغيّب فكرة التضامن وتنشر ثقافة (أنا، ومن بعدي الطوفان) وهو السلوك الذي ترجمته جحافل المواطنين في طوابير التبضع وكأن القيامة أوشكت على القيام. وهذا فعل كرّس غيابا صارخا في ثقافة التضامن التلقائي، المحكوم بشرط الصدمة، في مقابل التضامن الرسمي البعدي الذي تدعو فيه المؤسسات الحكومية المواطنين إلى الانخراط في مسلسل التعاون ضد الجائحة، والذي تستجيب له كثير من الإرادات وهي تحس – تطميناً - أنها خرجت من منطقة الخطر. إن التضامن المطلوب هو الذي يكون في حالة الصدمة، وهذا لا يتأتّى إلا بتراكم ثقافات الكارثة، وهي ثقافة تعلّم كثيرا من القيم وتصحّح كثيرا من المغالطات في رؤية الذات في علاقتها بالغير. والغريب في الأمر أن يتمّ إسناد الإشاعة إلى الغير موسوما بالهيولى عبر التعبير المدّعي براءة ومصداقية (قالوا) والتي تلقي بالجريرة على الكل، فيتوزع دمها على الجميع ويتعذر بعد ذلك توجيه اللائمة إلى ملومٍ فعلي وحسي ومتعيّن. في حين أن من يصنع الإشاعة هو: أنا ونحن... لكن سياسة النعامة تفرض علينا هذا السلوك المتخفي والمتواري خلف ضبابية الخبر، وهي ضبابية قد تودي بالخبر اليقين إلى مقاصل التمييع وتجعل الخبر الكاذب يطفو على السطح ويأخذ مجراه في التأثير والتوجيه. كلنا في هذا السياق مورّطون في فعل الإساءة وفي فعل الصواب، معاً، وهذا ينبغي أن يحوّلنا من كائنات متفرّجة إلى كائنات متفاعلة ومسؤولة عن فعلها، عبر الالتزام بالأقل الضروري من عقلنة السلوك سواء تعلق الأمر بالامتثال للحجر الصحي، أو تعلق الأمر برفع هذا الحجر... نحن لا نتحدث عن قرار رسمي يرفع الحجر، وإنما نتحدث عن ثقافة المواطن وهو يتلقى خبرا رسميا مفاده أن مدّة الحجر انتهت، ولا تمديد فيها، خارج أي شرط. هذا الحبل المتسيب هو ما يعيدنا إلى درجة الصفر، ويعيدنا إلى ارتكاب أخطاء فادحة، وعوض أن نقلص من تداعيات الوباء، نزيد في اشتعالها عبر سلوكيات الاختلاط والتهافت على المناسبات العمومية التي تحتكّ فيها الأجساد مدفوعةً بوحشةٍ حالمة للآخر ولأزمنة الاختلاط اللامشروط، متناسين كل الدروس التي أمدّنا بها هذا الوباء الذي قدّمنا له قرابين كثيرة كي نتعلم من أدبياته ما شاء لنا هو أن نتعلّم. إن الوباء الكوفيدي التاسع عشر وباءٌ، وكفى، بغض النظر عن طبيعته التركيبية هل هو بيولوجي أم صناعي ... إنه وباء فاتك، وهذا كافٍ كي نرفع من درجات وعينا بمفهوم الحجر الصحي، وبمفهوم رفع الحجر، وبمفهوم الاختلاط المشروط، والتباعد الاجتماعي العقلاني وبمفاهيم جديدة ارتبطت بثقافة النظافة التي جذّرها الإسلام في سلوكياتنا وتناسيناها بفعل التهافت اليومي على حصاد التراكمات الربحية. وعيبٌ كل العيب أن نضيّع هذا التراكم الثقافي الإيجابي الذي حصّلناهُ مكرهين لا أبطالا... وربّ ضارّة نافعة.