-1- حين بدأت تصلنا أخبار فيروس كورونا وهو في مرحلته الصينية، كنت أنتهي من تأليف كتاب أخذ مني سنوات عديدة، وتناولت فيه ذاكرة الكوارث الطبيعية في الثقافة التاريخية المغربية من خلال اشتغال الذاكرة الشفوية ونقل أصداء هذه الذاكرة في كتابات المؤرخين القدماء. نقرأ بين الفينة والأخرى: وهذا العام سمته العامة "عام الجوع"، أو "عام الفار"، أو "عام الزلازل"، أو "عام التيفوس"، أو "عام الطاعون". والواقع أن هذه الظاهرة الثقافية لا تخلو من التعقيد. فتسمية "الأعوام" تتم، كذلك، نسبة إلى بعض المعارك التي بصمت الذاكرة الجماعية. ويقال إن العامة كانت "تؤرخ" ب"الأعوام"، مثلما كانت ذاكرة النساء تؤرخ بالأحداث العائلية، من قبيل الولادة أو الختان أو الزواج أو الوفاة. لكن تبيَّن أن العام الواحد يُطلق عليه اسمان أو أكثر، والاسم ذاته يطلق أحياناً على أكثر من عام، ويطلق على زمن يفوق السنة الواحدة. تأتي مبادرة إطلاق اسم الكارثة على "العام" من طرف معاصريه في الغالب، فهم "يؤرخون" في داخل حاضر الحدث، لأنه يستثير المخيلة من فرط المعاناة، أو الانفراج، أو الجانب العجائبي في بعض الحالات. غير أن الجائحة الحالية تتميز بتحول نوعي في إدراك الكارثة. في السابق كان الوباء ظاهرة تكاد تكون معتادة، وهي تحمل صور الجثث التي تتكاثر وتتراكم، والمرضى الذين ينتظرون الموت في غياب إمكانيات التشخيص أو الدواء. أما الوباء الراهن، فإن ما أثار الانتباه فيه هو جانبه العالمي: في مستوى انتشار الفيروس، وانتشار أخبار الجائحة، وانتشار خطة الحجر الصحي الذي هَمَّ أكثر من أربعة ملايير نسمة، أي حوالي نصف البشرية، وربما كانت مضاعفات الحجر الصحي أكثر تأثيراً وإثارة من الوباء في حد ذاته، ولا أدل على ذلك من أن عدد الوفيات في العالم بلغ حالياً حوالي أربعمائة ألف، بينما سبق ل"إنفلونزا هونغ-كونغ" (1968-1969) أن أودت بحياة مليون نسمة، وقتلت الإنفلونزا الإسبانية حوالي 50 مليون نسمة خلال سنتي 1918-1919، وتذهب التقديرات إلى أن وباء الملاريا/ البالوديزم يقتل سنويا 400 ألف نسمة، جلهم من سكان الهند وإفريقيا جنوب الصحراء، وجلهم من الأطفال الذين لم يبلغوا بعد سن العاشرة. في السابق كانت الذاكرة الشفوية تشتغل عن طريق الخبر الشفوي، والرقاص، والبراح، والسوق، والمسجد، والزاوية، والشائعة التلقائية أو الموجَّهة. أما الآن، فالثقافة الشفوية تشتغل بواسطة التواصل الرقمي والشبكات الاجتماعية. يبدو لي أن ثقافة الهواتف الذكية (الفيسْبوك والواتْساب) هي بمثابة اشتغال مكتوب للثقافة الشفوية، خاصة بالنسبة إلى مجتمع لم تستوعب غالبيته مكتسبات عصر الكتاب والقراءة بما يحمله من ثقافة العلم والنقد، وما تفترضه من إدراك طبيعة الوباء أو الجفاف. بقدر ما عملت الثورة الرقمية على وضع الخبر في متناول الجمهور الواسع، بقدر ما يأتي الجاد من الصور والأخبار والآراء والسجالات، والطريف من النكت، وسط ركام من المواد التي تنطبق عليها صفة "الفايك نيوز": فيديوهات تصور أخبار زائفة عن انتشار الفيروس، وتصريحات لأطباء يعلنون عن اكتشاف أدوية "فعَّالة" و"مجرَّبة" لعلاج المصابين، تصريحات "موثَّقة" تنتمي إلى نظريات المؤامرة، والإخبار بإجراءات حكومية تليها توضيحات تكذب ما سبق، بل تعوَّدت بعض المواقع والقنوات التلفزيونية على التعريف بوصفات تقنية تساعد على اكتشاف تقنيات تلفيق الصورة والصوت. وداخل هذا الركام، نشر البعض في بدايات الجائحة تعليقا يؤكد أن فيروس كورونا هو انتقام إلهي من اضطهاد الدولة الصينية لأقلية المسلمين الإيغور. غير أن اللافت في السياق الحالي، هو أن "الفايك نيوز" أصبح يصلنا من المجتمعات المتقدمة، بل ومن الأوساط العلمية الراقية التي يتراشق بعض أعضائها بتهمة "الفايك نيوز"، فصرنا نشعر بأننا أمام أسلوب يكاد يحظى بالمأسسة داخل حقلي الإعلام والسياسة، وهو يقوم على مبدأ مفاده أن وَقْعَ الخبر أهم من حقيقته، وذلك ما جسده بشكل صارخ أسلوب الرئيس الأمريكي ترامب منذ بداية الوباء، بل ومنذ حملته الانتخابية. وما يثير الاستغراب، كذلك، هو ذيوع أخبار تنتمي إلى صنف نظريات المؤامرة، وتتنوع الأطراف المستهدفة في كل الاتجاهات. دار الحديث عن بوادر حرب بكتيريولوجية تدبرها الولاياتالمتحدة، ثم تحولت أصابع الاتهام في اتجاه الصين، حيث قيل إن الفيروس صُنع في أحد المختبرات الواقعة في مدينة "وُوهان"، ثم انتقل الاتهام نحو الملياردير الأمريكي بِيل غيْتس. في البداية أشار مفكرون ومحللون مرموقون، بلهجة الإشادة، إلى أن بيل غِيتْسْ نبه منذ سنوات إلى قرب وقوع الجائحة، وبعد ذلك تداولت وسائل الإعلام إلى أنه ثاني داعم ل"منظمة الصحة العالمية"، وألصقت به فيما بعد صورة الشيطان الذي سبق له أن صنع فيروس "سارس-كوف-2′′، ووضعت مؤسسته مخططا جهنميا يهدف إلى تصفية نسبة كبيرة من البشرية، وإخضاع الباقين للقاح مزود بشريحة إلكترونية تمكن من المراقبة الدائمة لحركات وسكنات ساكنة العالم. وقد تبين أن هذه الأخبار من إنتاج جهات ذات توجهات متناقضة، إذ انطلقت من محيط ترامب، وشملت فيما بعد تنظيمات معادية للعولمة. لذلك لا غرابة أن يتحدث البعض عن "نعمة الثورة الرقمية ونقمة الفايك نيوز"، على غرار ما ورد في عنوان مقال صدر في أحد المواقع الإخبارية.
-2- منذ أن انطلق الوباء، وقبل وصوله إلى المغرب، بدأت بوادر الجائحة العالمية من خلال ترقب الانتشار، الذي كان يسلك طريق المطارات والطائرات وكثافة حركية الأشخاص عبر القارات، وهي حركية ترمز وتجسد العولمة الزاحفة. أطر الشركات والمنظمات الدولية، باحثون، إعلاميون، سياح، عمال مهاجرون وأقاربهم. كانت وسائل الإعلام تراقب "الحالة الصفر" في البلدان التي يتسلل إليها الفيروس الجديد. وكانت هذه الإصابة دائما
لشخص زار الصين، أو تربطه معها علاقة عائلية أو مهنية. وفي فرنسا، كانت الحالات الأولى قادمة من الصين، أو من إيطاليا. وفي المغرب، كان المصابون الأوائل قادمين من فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا، وهكذا دواليك. منذ البداية كانت الأرقام تترجم عولمة الوباء، أي انتقال الوباء إلى "جائحة" عالمية. تزايد عدد الدول المصابة، مائة وثمانية وثمانون، وهو رقم يشمل عددا من الأقاليم التابعة لبعض الدول. وتزايد عدد السكان الخاضعين للحجر الصحي، فأغلقت الحدود للاحتماء من الخارج، ودُعي السكان إلى "البقاء في منازلهم" تجنبا لاستقبال الفيروس. وأصبحت الأرقام التي تتداول حول كل بلد مصاب ترتب الدول الأكثر إصابة، وتحدد بالنسبة إلى كل البلدان المصابة: عدد المصابين، وعدد المتعافين، وعدد الوفيات. وبدأت عملية التحيين اليومي لهذه المعطيات تترجم في خرائط تظهر حركية الجائحة من خلال انتقال الوباء من "بؤرة" إلى أخرى: الصين، وإيران في "الشرق الأوسط"، الرباعي الأوروبي (إيطاليا، إسبانيا، فرنسا، إنجلترا)، الولاياتالمتحدة الأمريكية، ثم البرازيل في أمريكا اللاتينية. ومع ذلك، فعولمة الوباء لا تعني غياب بلدان نجحت في تطويق الفيروس دون أن تفرض دولها الحجر الصحي، مثل بعض بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، وعدد من بلدان جنوب شرق أسيا، نذكر من بينها كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، وفيتنام. وقد ظلت أوضاع القارة الإفريقية بمثابة اللغز. هناك إجماع على أن المغرب عرف كيف يتجنب الكارثة عن طريق الإجراءات الاستباقية التي فرضها الشعور بأن التجهيزات الصحية المتوفرة عاجزة عن تحمُل حالة اكتساح وبائي. وبالنسبة إلى إفريقيا جنوب الصحراء، انتقلنا من تنبيهات المنظمات الدولية، إلى ما يمكن أن يترتب عن تزامن الفيروس مع الفقر وسوء التغذية والمجاعة، إلى إقرار بضعف حدة الوباء (4400 وفاة في مجموع القارة)، وذلك بسبب عوامل كثيرة؛ من بينها الإجراءات الاستباقية، وغلبة الفئات العُمرية الشابة، والتعود على مواجهة الأوبئة، وضعف الاندماج داخل الشبكات الدولية. وهناك الدول التي لم تتوقف فيها الحروب الأهلية (ليبيا واليمن وسوريا والعراق وأفغانستان)، وهي صراعات تغذيها قوى خارجية تحركها رهانات مناطق النفوذ وآبار النفط، كما أن الحرب قد تتسبب في التقاء الوباء الجديد مع أوبئة قديمة مرشحة للعودة عندما تستدعيها البيئة المواتية. وعلى غرار بقية بلدان العالم، يعيش المواطن المغربي على إيقاع الإحصائيات. أصبحت النشرة اليومية لوزارة الصحة بمثابة طقس، يطل على شاشة التلفزة مسؤول قسم الأوبئة والأمراض المعدية ليقدم باقتضاب مستجدات "الحالة الوبائية". تتمثل المعطيات الأساسية في عدد "الإصابات المؤكدة الجديدة" ومعها العدد الإجمالي للإصابات، وعدد الحالات المستبعدة الجديدة بعد تحاليل مخبرية سلبية ومع العدد الإجمالي للحالات المستبعدة، وعدد المتعافين (المتماثلين للشفاء) الجدد ومعه العدد الإجمالي للمتعافين، وعدد الوفيات الجديدة ومعها العدد الإجمالي للوفيات. ثم هناك نسب مئوية تقدم التوزيع الجغرافي للمصابين حسب الجهات والأقاليم، وتوزيع المصابين حسب فئات السِّن، وحسب درجة خطورة الإصابة، من مصابين بدون أعراض، وذوي الحالات الخفيفة / الهينة / البسيطة، أو العادية / المعتدلة أو الحرجة التي تتطلب وضع المرضى في غرف العناية المركزة. وفي مستوى آخر، تعتمد المعطيات معيار الفرق بين الأصل الخارجي والأصل المحلي للإصابات. لذلك يُشار إلى عدد المخالطين ضمن المصابين الجدد ومعه العدد الإجمالي للمخالطين المصابين، وعدد الحالات غير المؤكدة الخاضعة للمراقبة الصحية. ومع تطور الوباء، بدأت النشرة في الحديث عن البؤر التي تساهم في انتشار الوباء في هذه الجهة أو تلك، وهي بؤر عائلية، أو مهنية، أو تجارية، أو صناعية. وتبقى المعطيات الاستراتيجية التي تحدد مبدئيا التعامل مع خطة الحجر الصحي هي معدل الوفيات، ومؤشر انتقال الوباء. وهنا تتقاطع الأرقام مع الخرائط والرسوم البيانية والمنحنيات والإسقاطات، وكلها تقنيات يشتغل بها مهندسون في الرياضيات التطبيقية. ويهتم الترقب بشكل أساسي على لحظة "الذروة"، التي يفترض فيها أن تعلن عن الانتقال إلى الانفراج. من خلال هذه الشبكة من الأرقام والبيانات، شاع بالتدريج معجم جديد. مؤسسات الإشراف مثل "المنظومة الصحية" و"لجنة اليقظة الصحية". مؤسسات صحية مثل "المستشفيات المرجعية"، و"المختبرات المرجعية". إجراءات عمومية مثل "العزل الصحي" و"الحجر الصحي"، و"الحجر المنزلي"، و"حالة الطوارئ الصحية". وآليات انتشار الوباء مثل "المخالطين" و"البؤر". أدوات الوقاية الفردية مثل "الكمَّامة"، و"التباعد الاجتماعي" و"الإجراءات الحاجزية" التي تقوم على المسافة وتجنب المصافحة والتقبيل وغسل اليدين والتطهير بواسطة السائل الهِيدْرو كُحولي. وراء كل هذه الأرقام والبيانات والمصطلحات، هناك معاناة، وآلام، ومرضى يُفصلون عن أقربائهم، وأقرباء يحرمون من توديع موتاهم في ظروف مواتية. وهناك تضحيات الأطر الطبية والعلمية والإدارية واللوجستيكية التي تسهر على كل العمليات المرتبطة بالوباء داخل المستشفيات والمختبرات وغيرها. وإلى جانب إحصائيات الوضعية الوبائية، نشرت المديرية العامة للأمن الوطني إحصائيات حول الاعتقالات التي طالت المواطنين، الذين لم يمتثلوا لضوابط الحجر الصحي. ففي الثامن عشر من شهر أبريل الفارط، بلغ عدد المعتقلين أكثر من ثمانين ألفا، وقُدم أكثر من نصفهم أمام النيابة العامة. وقد انتقدت بعض المنابر الصحفية وفيديوهات عبر المواقع الاجتماعية تجاوزات سلطوية أحاطتبهذه الاعتقالات، وهو أمر يعكس التوتر بين التطبيق الصارم للحجر الصحي وظروف عيش الفئات الهشة. ويبدو أننا أمام ظاهرة سوسيولوجية جرى رصدها في بلدان مثل الهند ومصر وعدد من بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث ترتفع نسبة الأسر التي تعيش في السكن غير اللائق، وتقتات من مهن هامشية وغير مستقرة تتطلب التنقل والتواصل المباشر بين السكان.
استعمال لغة حربية في مواجهة الوباء -3- اعتبرت دول عديدة مواجهة الوباء بمثابة حرب. تصدر البلاغات الرسمية بانتظام يذكر بانتظام البلاغات المرقمة التي تنشرها قيادات الجيوش خلال الحروب، ويقال إن الطواقم الطبية توجد في الخط الأمامي من الجبهة، وتُعبأ القوات المسلحة التي تقيم المستشفيات الميدانية، وتنزل المدرعات أحيانا في شوارع بعض المدن لضمان الأمن والعمل على تطبيق الإجراءات الوقائية لمنع العدو اللاَّمرئي من التسلل والانتشار. وشيئا فشيئا، انتقل الحديث عن الحرب، إلى اعتراف عدد من الدول بأنه ينبغي علينا أن نتعلم كيف نعيش مع الفيروس الذي سيستقر بطريقة أو أخرى. وبذلك هيمن استعمال لغة الحرب في مستوى المجاز والبلاغة. هناك ذاكرة الحرب. فقد خاطبت الملكة إليزابيث الشعب الإنجليزي وقالت له إنه لم يعش أزمة بالحدة ذاتها منذ الحرب العالمية الثانية. وقال الرئيس ترامب إن الولاياتالمتحدة لم تواجه الكارثة نفسها منذ هجوم 11 شتنبر 2001، وبعد ذلك قال إن الأزمة الحالية أكثر خطورة من هجوم بِيلْ هارْبُورْ، الذي كان العامل الحاسم لانخراط الدولة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية. ثم هناك استعمال مجاز الحرب في لغة السجال بين الدول. عرضت الولاياتالمتحدة على إيران فكرة مساعدتها لمواجهة الوباء، فرد الرئيس الإيراني بما مفاده: إذا أردتم مساعدتنا حقيقة، فعليكم رفع الحصار الذي يخنق اقتصادنا منذ سنين، وهو يمثل في الواقع نموذجا للإرهاب الطبي. وعندما سقطت إسبانيا بعد إيطاليا في وضعية الارتفاع الحاد لعدد الوفيات، صرح الوزير الأول الإسباني داعيا إلى موقف التضامن مع الدول الأكثر إصابة: يجب على الاتحاد الأوروبي أن يعتمد ميزانية حرب. ولما اعتمدت دول عديدة الكمامات كوسيلة للوقاية من الفيروس، وقع ارتباك كبير في توفير هذا المنتج، وبرز دور الصين في مساعدة وتزويد عدد من الدول التي كانت في الحاجة إلى الكمامات، فتحدثت وسائل الإعلام عن "دبلوماسية الكمامات". وأصبحت بعض الدول تتصرف على طريقة قطاع الطرق، وتسطو على شحنات من الكمامات الموجهة إلى بلدان أخرى: هكذا فعلت جمهورية التشيك مع كمامات موجهة إلى إيطاليا، والولاياتالمتحدة الأمريكية مع شحنات موجهة إلى فرنسا. ودار الحديث عن "حرب الكمامات"، وأصبحت هذه المادة عنوان التدبير الجيد أو السيئ للجائحة. وعلى خلاف هذا الحضور المجازي لموضوع الحرب في الجائحة الحالية، يحيلنا سجل الأوبئة القديمة على تفاعل ملموس بين الوباء والوقائع الحربية. وإذا اقتصرنا على المراحل التي بدأت مع العصر الوسيط، سوف نجد أن أول طاعون كبير في تاريخ المسلمين ظهر في فلسطين، وتزامن مع جفاف ومجاعة أصابا بلاد الحجاز، وقد أرَّخ المعاصرون بالحدثيْن فسموا عام 18 للهجرة (639 للميلاد) "عام الرمادة وطاعون عمواس". ويعتبر المؤرخون أن وباء الجدري كان من بين العوامل التي سهَّلت احتلال الإسبان لأمريكا على إثر "اكتشاف" هذه القارة. وابتداء من القرن السادس عشر، انتشر وباء التيفوس عبر أوروبا في سياق "حروب إيطاليا" والثورة الإنجليزية الأولى، وحرب الثلاثين سنة، واتسع نطاق الوباء عينه في القرن التاسع عشر في سياق الحروب النابوليونية. وانطلاقا من سنة 1817، كان وباء الكوليرا جائحة القرن التاسع عشر بامتياز. خمس موجات عالمية تفشت فيها الجائحة خلال غالبيتها بفعل تحركات الجيوش الأوروبية، ولا سيما البريطانية والفرنسية. انطلق وباء الكوليرا من البنغال ودلتا نهر الغانج، واتسع نطاق الوباء شرقا وغربا، من الصين واليابان حتى روسيا وأسيا الوسطى وحوض المتوسط وشمال أوروبا. وهذا التفاعل بين الوباء والحرب لم يقتصر على الصراع بين الدول، بل شمل، أيضا، المواجهات المسلحة داخل الدولة الواحدة. عرف المغرب مثل هذه الوضعية خلال الصراعات التي كانت تدور داخل العائلات الحاكمة، أو بين المخزن والقوى القبلية. ففي ربيع سنة 1799، نظم السلطان سليمان حرْكة في اتجاه أسفي، مرورا بالسهول الأطلنتية، فكتب المؤرخ الضُّعَيِّف الرباطي عن السلطان: وكأنه "نهض بجُندين: جُند من العسكر وجُند من الوباء". واستعمل الباحث محمد الأمين البزاز بصدد هذا الحدث عبارة "حركْة الوباء". وقد نجازف بالعودة إلى مستوى المجاز لنقول إن المجتمعات والدول المعاصرة تخوض حرباً صامتة وغير مُعلنة ضد الأرض موطن الإنسان، وهي حرب تسببت في الأزمة البيئية التي تزداد حدتها بشكل مرئي، وتهدد مصير الأرض والبشرية على حد سواء.
-4- اعتادت الدراسات التاريخية أن ترصد المضاعفات السياسية التي تتسبب فيها كوارث مثل الأوبئة والمجاعات. لنأخذ مثالا مغربيا يهُمَّ دولة السعديين. هناك حدثان مفصليان: ساهم طاعون بداية عشرينيات القرن السادس عشر في وصول هذه العائلة إلى الحكم، وتوفي السلطان أحمد المنصور الذهبي بالوباء عينه سنة 1603، فانتقلت الدولة ذاتها إلى مرحلة تفكُّك دامت حوالي نصف قرن، وأتاح للزوايا الصوفية أن تتحول إلى إمارات حقيقية، مثل (الدلاء وإليغ). فإذا اعتبرنا أن الوباء كان هو العامل المركزي في تطور الدولة المركزية بالمغرب، ربما انسقنا إلى التحليل القائل بأن الأوبئة هي المحدد الأساسي لتاريخ البشرية، وبالتالي أمكن أن نقوم بتحقيب التاريخ العالمي (تقسيمه إلى حقب) يُحدِّدها عامل الأوبئة. وعلى سبيل المثال، تصبح هذه الأخيرة هي العامل الأساسي لسقوط الإمبراطورية الرومانية وتفكك النظام الفيودالي بغرب أوروبا. وعلى خلاف ذلك، نعتقد أن التحولات الكبرى تعود إلى عوامل مركبة، ونميل إلى اعتماد تحقيب بديل يتناول تاريخ الأوبئة في إطار تطور المجتمعات داخل الزمن الممتد. مرحلة زراعية / تقليدية تتضح بعض معالمها مع انطلاق "العصر الحديث" في القرن السادس عشر. تظهر آنذاك بنية متكاملة يتداخل فيها عامل الوباء مع عامل الجفاف والمجاعة، وتندرج فيها الأوبئة في إطار ما سُمي ب"النظام الديموغرافي القديم" الذي كان يقوم على الركود الديموغرافي الناتج عن ارتفاع المواليد والوفيات، وتُهيمن فيها التمثُّلات الدينية من قبيل العقاب الإلهي وقرب قيام الساعة، إلى جانب قيام ثوار ينشرون الدعوة ويعبئون الأتباع بواسطة شعار المهدي المنتظر، وهو مثلاً ما حصل مع ابن أبي محلي في مرحلة التفكك السياسي التي تلت وفاة أحمد المنصور. مرحلة كولونيالية، وهي تتسم ببنية مُركَّبة، تناولتها أبحاث بوجمعة رويان. فقد استمرت فيها دورات الوباء والجفاف، وتعرض فيها المغرب لأوبئة التيفوس والطاعون والجدري. وجاءت ظرفية الحربين العالميتين لتخلق شروط انتعاش الوباء. ففي الحالة الأولى، تعرضت مداشر الريف لضربات "الإنفلونزا الإسبانية"، وفي الحالة الثانية، فُرضت سياسة التقنين (البُونْ) سنة 1940، فأدت إلى تراجع ظروف الوقاية بسبب ندرة مادة الصابون، ومهدت عملية حجز المحاصيل الزراعية لمجاعة 1945، وهذه المجاعة ساهمت بدورها في إضعاف المناعة أمام الوباء. لكن مرحلة الحماية عرفت في آن واحد إنشاء نواة بنية تحتية طبية حديثة، ونظمت سلطات الحماية حملات محاربة الأوبئة نعتها دَنْيَال رِيفي ب"الاستبداد الصحي"، نظرا إلى التوجس الذي ظل يطبع موقف العديد من المغاربة تجاه "طِب النصارى". مرحلة هامش العولمة. سوف نوسَّع هنا نطاق ظاهرة الدولة ما بعد الكولونيالية، لنلاحظ أن صفة التخلف لم تعد تطابق بشكل كامل عبارة "بلدان الجنوب" بسبب تزايد عدد التجارب التنموية الناجحة في شرق آسيا. ونلاحظ بشكل عام بروزاً تدريجيا لثنائية "الأوبئة القديمة" و"الأوبئة الجديدة". عرفت الأولى مرحلة انحسار، لكنها ظلت تعود من حين لآخر (السل، والكوليرا، والملاريا)، في البيئات التي تعاني من تراجع ظروف الوقاية، أو في سياق التراجيديات الإنسانية التي تواكب سوء التغذية والجوع والحروب والهجرات الاضطرارية، من دون أن تثير بلاغات المنظمات الإنسانية الدولية مواقف التضامن والتعبئة المناسِبتيْن. وتختلف الفرضيات حول بداية سلسلة "الأوبئة الجديدة" (المسماة أيضا ب"الأمراض الناشئة" maladies émergentes) التي انطلقت من بلدان مختلفة. لكننا أمام مسلسل واضح تزداد حدته بشكل يدعو إلى القلق. لنستشهد بهذه الكرونولوجيا المقتضبة: الإنفلونزا الأسيوية (1957-1958) إنفلونزا هونغ-كونغ (1968-1969) إنفلونزا إيتش وان / إين وان) (1976) فيروس السيدا (نهاية السبعينيات) وباء جنون البقر (1996) إنفلونزا الطيور (1997) فيروس "سْراسْ" (2002-2003) إنفلونزا الدواجن (2004) فيروس إيبولا (2014-2015) فيروس "ميرْسْ" (2019) إنفلونزا الخنزير (أو الإنفلونزا المكسيكية) (2019) تجمع دراسات علمية متخصصة على أنه لا يمكن فصل هذه الأوبئة الجديدة عن التحولات ذات المفعول البيئي، من قبيل الأزمة المناخية، واختلال التوازنات البيئية، وتراجع التنوع البيولوجي، واختلال الدورة المائية. وتعود هذه التحولات إلى مجموعة من الممارسات مثل الصناعات الملوثة، والقضاء التدريجي على المجال الغابوي، والتوسع العمراني، واعتماد زراعة أكثر كثافة. وتهم بعض الممارسات عالم الحيوان وعلاقته بالإنسان، مثل استعمال المضادات الحيوية في تغذية الحيوان، وتضييق مجال عيش الحيوانات المتوحشة، وتجاور غير معهود بين الحيوانات المتوحشة والحيوانات الأليفة، ونمو تجارة التهريب الدولية المربحة التي يذهب ضحيتها عدد من الحيوانات المتوحشة أو بعض أعضائها، وتربية هذه الحيوانات من أجل غذاء الإنسان. وباختصار تتلخص هذه السُّلوكيات في عدم احترام الإنسان للعالم الطبيعي. وكل هذه التحولات تزيد في بروز وانتشار الزُّونُوزات zoonoses، أي الأمراض المعدية التي تنتقل من الحيوان إلى الإنسان أو من الإنسان إلى الحيوان، ومن بينها فيروس كورونا، وهي تسمية تطلق في الواقع على عدد كبير من الفيروسات، ولذلك شاع أكثر فأكثر استعمال اسم "كوفيد-19 " على وجه التخصيص.
-5- عرف معجم أجناس الكتابة التخييلية تطورا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة، حيث اغتنى بمصطلحات جديدة مثل "الدِّيسْتُوبْيَا" dystopie. ففي مقابل "اليُوتوبْيا" utopie التي يرسم فيها الروائي ملامح عالم أفضل تنتفي فيه معضلات الحاضر، تأتي "الرِّيْترُوتُوبْيا" rétrotopie التي تبين كيف أن الحاضر يعرف عودة ظواهر قديمة مثل القبيلة، و"اليُوكْرُونْيا" uchronie لتُصوِر ماض بديلاً لما شهده الواقع بناء على مقولة "ماذا لو وقع كذا أو لم يقع كذا؟"، و"الديستوبيا" التي ترسم معالم مستقبل تشتد فيه ظواهر الشؤم والشر والخطوب. وتعد رواية "1984" لجورج أُورْوِيل من روائع الأدب العالمي التي نُسبت إليها هذه الصفة، وقد تجدَّدت الإحالة عليها في السياق الدولي، وقيل إنها تنبَّأت بمآلات "مجتمع المراقبة" الذي يتحكم فيها "الأخ الأكبر"، كناية عن الدولة الشمولية. والملاحظ أن هاجس الأزمة البيئية هو من أهم العوامل التي ألهمت المؤلفين الذين اختاروا الانغمار في التخييل الذي يصب في قالب "الديستوبيا". دون مايْر، كاتب من جنوب إفريقيا، عُرف بتأليف مجوعة من الروايات البوليسية التي تدور أحداثها في بلد المؤلف. وفي سنة 2016، أصدر رواية ذات مضمون مثير بالنسبة لقراء اليوم. كتب الرواية في الأصل باللغة الأفريقانية، ثم ترجمت إلى الإنجليزية ثم إلى الفرنسية تحت عنوان: "عام الأسد" (باريس، دار سُويْ للنشر، 2017). تفشى وباء يحمل اسم "فيروس كورونا"، هو مزيج من فيروس بشري وآخر جاء من الخفافيش، فاكتسح العالم وقضى على تسعة أعشار من ساكنة الأرض. السارد هو شاب مراهق، نِيكُو، ابن ويليام سْطورم، رجل من دعاة السلم واللاعُنف، عمل على تأسيس جماعة ديموقراطية ومتعددة الأعراق، تغيب فيها كافة الآفات التي كانت تنغص عيش المجتمعات قبل الكارثة. حين صدرت الرواية، صنَّفها الصحافيون والنقاد في عداد روايات المغامرات، وروايات الخيال العلمي، وروايات التخييل النفسي، والروايات البوليسية القيامية (الإسكاطولوجية)، والروايات ما بعد القيامية، والحكايات الفلسفية، والدِّيسْتوبيا. وقد نقلت الرواية إلى الشاشة في سنة 2017 في فيلم يحمل عنوان "أسد". وبعد اندلاع جائحة فيروس كورونا، صرح المؤلف بأن ما حفزه لكتابة تلك الرواية هو تذمره الكبير من الخطوب التي تسود في عالم اليوم وفي القرة الإفريقية بشكل خاص، مثل الحروب، والعنصرية، والفساد، والمشاكل الاجتماعية، والجوع والفقر، وهجرات الجياع. وعندما انتهى إلى اختيار فكرة كارثة مؤهلة لأن تقضي على البشرية أو تكاد، بنى عمله التوثيقي على توجيهات أحد العلماء المتخصصين في علم الفيروسات بإحدى الجامعات البريطانية، بحيث سأله عن نوعية الفيروس الذي يحتمل فيه أن يكتسح العالم في مستقبل قريب، فأجابه الباحث: هو فيروس كورونا. عندما اندلع هذا الوباء، أصيب الروائي بمزيج من الدهشة والذعر والقشعريرة، فكأنه يشاهد فيلما من نوع الخيال العلمي، وفي آن واحد انتابه شعور غريب لأن ما يحدث على أرض الواقع يذكره بما نسجه في عمله التخييلي. الحجر الصحي، التسابق نحو شراء التموين الغذائي، دور المطارات في انتشار العدوى، أنانية الأفراد والدول. غير أن الأهم بالنسبة إلى مقاربتنا هو أن خطر احتمال الفيروس كان متداولا في الأوساط العلمية منذ سنوات، ولم يلق الاهتمام الكافي في دوائر القرار، مثلما حصل مع الأزمة البيئية التي تواترت حولها التوصيات الدولية وظلت هذه التوصيات حبراً على ورق.
-6- يتداول الإعلام حاليا عبارة "الأزمة الصحية"، وهنا وجب التذكير بأن المعنى الأصلي لكلمة "الأزمة" في اللغة العربية غير ما نقصد به الآن، فقد كانت الكلمة تعني الشدة والقحط. بيد أننا تعودنا على استعمال "أزمة" بالمعنى الذي اكتسبته في اللغات الغربية. كانت كلمة "كْريزْ" تُستعمل في الأصل في إطار الطب اليوناني القديم الذي يرتبط باسم أبقراط (المتوفى سنة 377 ق.م). فالأزمة هي "اللحظة التي ينكشف فيها مصير المرض والمريض، وتترقبها نظرة الطبيب، لأن الحالة قد تتغير بسرعة نحو الأفضل أو الأسوأ، أو نحو حالة مختلفة تمام الاختلاف". ومنذ عصر النهضة الأوروبية، أضيفت إلى الكلمة صفات التخصيص، فأصبحت الأزمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو حضارية، وهلُم جرّا. في الوقت الذي حقق فيه الطب فتوحات كبيرة يفترض فيها أن تحصن الإنسان ضد المرض، عاد بنا الفيروس الجديد إلى الدلالة الطبية لمصطلح "الأزمة"، وأصبحت الأزمة الصحية هي الأزمة بامتياز، بحيث رأينا حاليا كيف أن الأزمة الصحية أطلقت مسلسلاً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل الدول وبين الدول، على خلاف ما كان معهوداً في الأوبئة القديمة التي تنتج عن الحرب أو مجاعة. كانت الجائحة الحالية من قبيل اللاَّمُتوقَّع بالنسبة إلى الجمهور والإعلام والأوساط الدولية، ومع استمرارها عم الشعور باللاَّيقِين بسبب البطء والتضارب اللذين عرفتهما الأوساط العلمية، وهي تعمل على الإحاطة بخصوصيات الوباء الجديد، ويشعر المرء، في هذا الجانب أو ذاك، بأن السجال العلمي يتقاطع مع التنافس القائم بين المختبرات الدولية، وتأثير رهانات لوبيات صناعة اللقاحات والأدوية على قرارات عدد من الحكومات. وهكذا مازال الغموض يكتنف أصل الوباء، وطبيعة أعراضه، واحتمالات التحول لديه، ونوعية أعضاء الجسد التي تصاب به، وطول مدة المناعة عند المصابين به، واحتمال عودته في موجة ثانية أو ثالثة، بل واحتمال استقراره وانتقاله إلى مرض مزمن. ولذلك، فبعدما أعلنت الدول عن محاربة الوباء، أصبحت تفضل الحديث عن حتمية تدبير التعايش معه. وبالتالي، فالحديث عن مستقبل "ما بعد كورونا" أمر فضفاض للغاية. قيل إن الجائحة الحالية أكبر أزمة منذ أزمة 2008، ثم قيل: منذ الحرب العالمية الثانية، ثم قيل: منذ الانتكاسة التي مر بها الاقتصاد العالمي بعد انهيارات بورصات القيم في سنة 1929. غير أن الأمر أصبح أقرب إلى "الظاهرة الاجتماعية الكلية"، حسب تعبير الأنثروبولوجي الفرنسي مارسيل موس. فقد أصاب مفعولها مجالات الاقتصاد والمجتمع والسياسة والحياة اليومية والعقليات. ومن المثير أن المجال البيئي هو الذي عاش انتعاشاً وتحسناً غير مسبوق وغير مضمون. لا شك أن الأزمة الحالية حدث تاريخي بالمعنى القوي لكلمة "حدث"، أي إنها سوف تحدد ما قبلها وما بعدها. سوف تدعو بالضرورة إلى إعادة تأويل التطورات التي سبقتها، وسوف تتحكم في اتجاه التطورات التي ستليها. لقد اخترت أن أتوقف عند مُستوييْن قابليْن للرصد في الوقت الحالي، وهما كشْف الجائحة عن بعض جوانب الوضع السابق، والزيادة في وتيرة التحولات الجارية، وكلا الجانبين يرتبطان بمعضلات العولمة. فعلى مستوى العلاقات الدولية، برزت على سطح أحداث الجائحة الحالية ما سماه البعض "الحرب الباردة الجديدة" بين الصين والولاياتالمتحدة الأمريكية، والضعف الكبير الذي أبدته الحَكامة الدولية، في مستوى الأممالمتحدة والكيانات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي، والمنظمات التي يفترض فيها أن تنسِّق جهود الدول على مستوى العالم العربي أو منطقة الخليج أو المغرب الكبير. ونلمس على العموم، استعادة الدولة الوطنية لدورها المركزي في تدبير وضعية أجمع الكُل على نعتها ب"حالة الطوارئ"، واعتبارها خطراً يهدد حياة السكان. وانكشفت قضايا معبِّرة فيما يخص تقسيم العمل، ولا سيما بعض مواطن الهشاشة في العلاقات القائمة بين دول قوية، أو بين دول قوية ودول أضعف. سوف أشير بإيجاز إلى مؤشرين تناقلنهما بعض وسائل الإعلام الفرنسية. أولا- برز شعور بتبعية الاقتصاد الفرنسي إزاء الاقتصاد الصيني في مجال صناعات الأدوية على سبيل المثال لا الحصر. وقيل إن ألمانيا توَّفقت أكثر في تدبير الأزمة الصحية الحالية لأنها حافظت على عقلية الدولة الصناعية، بينما عمدت فرنسا إلى استراتيجية ترحيل المقاولات الصناعية. واعتبر البعض أن هذا المشكل يمثل ثغرة في السيادة الوطنية لفرنسا. واستنتج البعض ضرورة استرجاع القطاعات المرحَّلة إلى التراب الفرنسي، فأجاب آخرون: إن ذلك معناه الابتعاد عن اليد العالمة الرخيصة، وارتفاع أثمان الأدوية... ثانيا- أفاد استطلاع عن الوضع الحالي في الهند بأن عددا من شركات قطاع الموضة، الفرنسية والغربية بشكل عام، أوقفت صفقات استيراد الألبسة المصنعة في معامل الهند، ولم تحترم ما التزمت به من مستحقات. فالمقاولون الهنديون يشتكون من تصرف الشركات الغربية التي أجبرتهم على تقليص نشاطهم، والعمال الهنديون يشتكون من الجائحة التي رمت بهم في أحضان البطالة، دون تعويض عن فقدان الشغل، ودون رعاية صحية تَقِيهم وتقي عائلاتهم من شرور المرض والوباء المحتمل. وفي مستوى آخر، ذهب محللون إلى أن صرامة إجراءات الحجر الصحي كانت بمثابة عملية "استدراكية"، جعلت المجتمعات تؤدي ثمن إهمال دول عديدة للقطاع الصحي ونظام الرعاية الصحية. تلك حالة الولاياتالمتحدة الأمريكية التي تشبث رئيسها الحالي بإلغاء برنامج "أوباما كِيرْ"، واعتبر فيما قبل قضية البيئة مجرد مُزحة وافتراء. في بداية شهر ماي الأخير، بلغ عدد العاطلين بالولاياتالمتحدة حوالي ثلاثين مليونا، ومعظمهم لا يستفيدون من التغطية الصحية والتعويض عن فقدان الشغل. وظهر منذ بداية اكتساح الفيروس، أن نسبة الوفيات المرتبطة بالوباء أكثر ارتفاعا في أوساط الساكنة الأَفْرُو أمريكية والساكنة الناطقة بالإسبانية، كما أن التفاوت الاجتماعي أمام الوباء أكثر فداحة، ولا سيما داخل ساكنة مدينة نيويورك. ولا غرابة أن هذه المدينة شهدت حركة إضراب واسع على أداء ثمن كراء السكن. وفي هذه الظرفية بالذات، تظافرت عوامل الوباء مع الميز العنصري ضد المواطنين الأفرو أمريكيين وتعنيفهم من طرف قوات الشرطة، وهو ما أدى إلى حدث وفاة جورج فْلُويْد، واندلاع موجة من الاحتجاجات العارمة في عشرات المدن الأمريكية، مع تكاثر المؤشرات التي تدل على أن الشعار القائل بأن "حياة السود مهمة"("بْلاكْ لايْفْزْ مَاتْرْ") تحوَّل إلى حدث مفصلي في تاريخ العنصرية وتاريخ حركة الدفاع عن الحقوق المدنية، وتدل بعض المؤشرات أن تمادي ترامْب في التصريحات الاستفزازية يمكن أن يتسبب في تعميق الفجوة العرقية داخل المجتمع الأمريكي. وهناك حالة فرنسا التي بدأت تتخلى عن مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعية باسم أولوية التنافسية، وهو ما يفسر اندلاع حركات احتجاجية قوية مثل "السترات الصفراء"، وحركاتالأطر الطبية التي احتجت طوال شهور عديدة ضد شروط العمل في مؤسسات الصحة العمومية. وقد نقلت القنوات التلفزيونية مؤخرا صورا لصفوف الانتظار الطويلة التي كانت تنظم أمام مقرات "الأبناك الغذائية" التي توزع المساعدات العينية على الفئات التي اشتد عوزها في الظرف الحالي. ونلاحظ تطورا مماثلا وأكثر مأساوية في بلدان الجنوب التي ما زالت تراوح مكانها دون إنجاز الانطلاقة الاقتصادية والاجتماعية الموعودتين. ففي المغرب على سبيل المثال، سبق الإجماع على إفلاس قطاع الصحة العمومية، وإلى جانبه قطاع خاص يزدهر فيه الاستثمار، وهي الثنائية عينها التي يعيش فيها التعليم، كما أنها ثنائية ترتبط بصفة بنيوية مع الفجوة الاجتماعية المتفاقمة. عندما نشرت الدولة إحصائيات الدعم الذي استفادت منه الفئات الهشة خلال ظرفية الوباء، فقد كشفت في آن واحد عن الوزن الديموغرافي لهذه الأوساط. معنى تلك الأرقام أن 4 ملايين و300 ألف أسرة (أي 21 مليون نسمة/ 65 في المائة من المغاربة) تعيش من مداخيل الاقتصاد الهش وغير المهيكَل، وإلى جانبها 800 ألف من الأجراء المنخرطين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والذين تسبب الوباء في توقف مقاولاتهم عن العمل. والحصيلة أن الفئات التي هي في الحاجة إلى الدعم تمثل 77 في المائة من ساكنة البلاد. بعد هذه النماذج من الظواهر التي كشفت عنها الأزمة، ما هي التحولات التي زادت الأزمة في وتيرتها؟ ربما كان أهم تحول بنيوي يجري أمام أنظارنا هو الانتقال إلى مرحلة جديدة من النظام الرأسمالي سماها البعض ب"الرأسمالية الرقمية". لننظر إلى الطريقة التي هيمن بها التعامل الرقمي على سير مجتمعات المعمور بفعل مقتضيات الحجر الصحي. هناك الجوانب التي تتصل بمعالجة الوضع الوبائي، وهي المهارات التي تسهر على تتبع الوضع الوبائي وترجمته إلى إحصائيات ورسوم وبائية وخرائط، وعمليات المراقبة التي تُستخدم للإشعار بحالات تدل على شُبهة الإصابة، مراقبة الولوج إلى مباني المؤسسات، تحديد هوية "المخالطين" وتتبعهم وإخبارهم عند الاقتضاء باحتمال الإصابة، علماً بأن كل هذه العمليات تتطور باستمرار، وتوظَّف بشكل متفاوت بين دولة وأخرى. ثم لنتأمل تسلل الثقافة الرقمية إلى الحياة اليومية. العمل عن بُعد، الدراسة عن بُعد، استعمال الخدمات الإلكترونية للتبضُّع وحتى لتوزيع مواد التموين على سبيل التضامن، التسلية والتثقيف عن بُعد، مشاريع "السياحة الافتراضية"، الصحافة الرقمية، اشتغال المؤسسات الحكومية والبرلمانية، انعقاد جلسات المحاكم عن بُعد، التواصل بين الدول وداخل المؤسسات الدولية. بين كل هذه الأنشطة، وبين المراوحة بين التلفزيون والحاسوب والهاتف المحمول كجسر نحو الإعلام الإلكتروني والشبكات الاجتماعية، أصبح الفرد أقرب إلى الكائن الافتراضي. حين تصف التقارير الإخبارية حول مضاعفات الجائحة الحالية في مستوى الاقتصاد الدولي، تُصنِّف القطاعات وفق تضررها من الانكماش السائد. هناك القطاعات الأكثر تضرراً مثل صناعة السيارات، والسياحة، والنفط، والنقل الجوي، وهناك القطاعات المزدهرة مثل "عمالقة الأنترنيت" الخمسة التي تُختصر تسميتُهم في "غافام": غُوغل، أمازُون، فيسْبوك، آبْل، مايكروسُوفْت". واللافت أن شركات جديدة بدأت تتألق في هذه الظرفية مثل "زُوم" في مجال الاجتماعات والمؤتمرات عن بُعد. ثم إن شركات الأنترنيت أنجزت منذ عدة سنوات استثمارات هامة في مجال البِيُوتِكنُولوجيا الذي يعنى بالبحث الطبي وصناعة الأدوية واللقاحات. وخارج النطاق الأمريكي، لا بأس من التذكير بأن الشركة الصينية العملاقة "علي بابا" تنافس أمازون في ميدان التجارة الرقمية، وشركة سامْسُونْغ الكورية الجنوبية هي في آن واحد من أكبر منتجي الأدوية على الصعيد العالمي.
مأسسة التضامن تمر عبر العدالة الجبائية -7- هناك أكثر من دليل يؤكد الشعور بأن "عام كورونا" سوف يدوم أكثر من عام. من الجائحة إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، إلى مضاعفات سياسية تختلف باختلاف البنيات والسياقات ونوعية الحاكمين والمحكومين والنخب المؤثرة. في عدد كبير من المجتمعات، يروج خطابان حول "ما بعد فيروس كورونا". هناك خطاب يركز على برامج الانطلاقة الاقتصادية الجديدة، وكأن الأمر يتعلق بقوس ينبغي إغلاقه، أو بحادثة سير بسيطة سوف يتم تجاوزها بمشاريع وأرقام تنهل من المرجعية السائدة عينها. وهناك خطاب يركز على مركزية الإنسان، وحالة الاستعجال الاجتماعي المقترن ب"عودة المسألة الاجتماعية"، وحالة الاستعجال البيئي الذي يعتبر أن هناك ترابطا قويا بين صحة الإنسان وصحة الحيوان وصحة الأرض. نكاد نقر بأن الجائحة الحالية عملت على عولمة المعضلات والخيارات، بين البلدان المتقدمة والبلدان التابعة. لكن هذا لا يعني تغييب الخصوصيات. تحمل التجربة الحالية للمغرب عدة دلالات. فقد أبانت دينامية تدبير الجائحة وما رافقها من تضامن وفعالية إدارية على أهمية الإرادوية في الخروج من المآزق. نشير هنا من جديد إلى الأرقام الرسمية التي قدمها المسؤولون حول الفئات المستفيدة من الدعم الاجتماعي، من مأجورين فقدوا مناصب شغلهم، وفئات تعيش في أوضاع ما يسمى ب"القطاع غير المهيكَل". فقد وجدت الدولة الوصفات الملائمة للتواصل الفعال مع هذه الفئات، بينما نُسجت قبل الجائحة وعود فضفاضة حول مشروع الدعم الذي لم يكن يتطلب بالضرورة ظرفية الجائحة. فهل ستواجه هذه الفئات بعد حين مصيرها السابق؟ سوف يكون مآل "ما بعد كورونا" فرصة للتمييز بين الإرادة الحقيقية في التغيير، وبين استراتيجيات التمويه وربح الوقت والمزاوجة بين إتقان الإعلان والتلكؤ في الإنجاز. والإرادوية التي نحن بصددها لا تعني الخروج من مأزق الدولة في مواجهة المجتمع، بل إنقاذ المجتمع من أجل بناء علاقة متقدمة بين الدولة والمجتمع. وهي تعني في هذا السياق مأسسة التضامن عن طريق العدالة الجبائية، واعتماد الشفافية الدائمة فيما يخص الإحصائيات والمعطيات، وفك قيود النقاش العمومي بعيدا عن أساليب التكميم المتجددة التي تقتنص الفرص للانتعاش (انظر مشروع قانون 20-22)، وإعادة الاعتبار للقطاعات التي تحصِّن المواطن ضد المرض والجهل والجور. أستاذ باحث في التاريخ 8 يونيو 2020