يتوقع عبد العزيز ياسين، أستاذ التاريخ بجامعة ابن زهر، أن “يواجه خطاب السياسيين وصناع القرار تحديات جديدة، قد تصل حد هدم فزاعات “الثوابت” و”المسلمات” و”الأسس”، وإعادة النظر في التوجهات العامة للخطاب السياسي العالمي المعاصر وشعارات “العولمة” و”التقدم” و”الازدهار” و”العيش الكريم” و”التفوق” و”الأولويات الأمنية والعسكرية والتنموية”. ويرى الباحث الجامعي في التاريخ، في حوار مع موقع “لكم”، أن جائحة كرونا ستدرج ضمن القضايا الكبرى للتاريخ الجارية وقائعه، ويمكن أن تدرس في إطار “الزمن الخامس” الذي يمتد ليشمل حوادث الساعة، ويعرف ما بين المؤرخين ب “تاريخ الزمن الراهن”.
ويؤكد ياسين أن في الأزمة ” عادت الدولة بقوة وبمباركة شعبية لتلعب أدوراً محورية في مواجهة الوباء من الناحية الصحية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والجنائية، وهي من الأدوار التاريخية المنسية للجهاز المخزني المغربي والتي عاودت الظهور في كورونا”. ماذا يعني لك الحجر الصحي؟ دخلت الحجر الصحي طوعا، بشكل إرادي واع ومسؤول، لأنه خيار عقلاني لتفادي عدوى الوباء واتقاء لنشرها، وفيه حرص على المشترك والعام. وتجاوبا معشعار:”بقا في دارْك؛ تنْجي راسك وتْنجي غيركْ”، الذي أضحى شبه ثقافة عند المغاربة وتداولوه على نطاق واسع. وإلى جانب الحجر، أعمل على التقيد بالاحتياطات الصحية المقررة، والتزم بغيرها من الإجراءات المتخذة بموجب قانون حالة الطوارئ الصحية المعتمد ببلادنا؛ في سياق ما عرفه العالم من اجتياح فيروس كورونا المستجد،رغم ما في ذلك من توقف عن ممارسة مجموعة من الحقوق الدستورية على رأسها حق التنقل وحرية التجوال، وغيرها من الحقوق المقررة بموجب قانون الوظيفة العمومية… لم أجد مشاكل تستحق أن تذكر في التأقلم مع الحجر الصحي، لأنه جاء بشكل إرادي قبل كل شيء، وبدافع وعي وطني مسؤول. ولا يعني هذا الكلام، بأن الحجر لم تكن له تأثيرات نفسية، أو لم يؤثر على سلوكي الاجتماعي اليومي، لان الإنسان كائن اجتماعي بطبعه؛ له علاقات أسرية ومهنية، ولديه أصدقاء ورفاق، وجزء من برنامجه اليومي يقضيه خارج منزله. وعلى غرار زملائي من المدرسين الباحثين،افتقدنا جزءا يسيرا من نشاطنا اليومي، خاصة ما يتعلق منه بالمشاركة حضوريا في اللقاءات العلمية والثقافية، لان الحضور الفعلي واقع أكثر دفئ، وفيه جسور العلاقات الإنسانية. بالمقابل أتاحت لي مدة هذا الحجر فرصة للعودة لإتمام بعض المشاريع الأكاديمية والبحثية، والتفكير في أورش مستقبلية أخرى. صحيح أن الحجر توقيف لدوامة الجري وراء الالتزامات طوال الوقت؛ من أعمال ودراسة وغير ذلك، لكنه أيضا فرصة مواتية للخلوة والاعتكاف، تسمح للإنسان بالتدبر والعودة إلى الذات، محاولة لاستخلاص الدروس والعبر. وهو مناسبة أخرى للرجوع إلى التاريخ والتفكير في التقاطعات الممكنة بين الماضي و الحاضر، او بحثا عن تأويلات سليمة للسلوكيات والانطباعات التي عادة ما ترافق أزمنة الوباء، و إن اختلف الواقع الاجتماعي المعاش. وبالمناسبة، ليس الحجر الصحي بأمر جديد على الإنسانية، او بدعة عن المجتمع المغربي؛ لأنه إجراء تقدم العمل به مند عصور قديمة، وسبق أن نصح به الطبيب الإغريقي أبقراط، وعمل به الأوروبيون في القرون الوسطى، في مواجهتهم ل”الطاعون الأسود”المشهور منتصف القرن 15م. وهذا الفقيه محمد بن يحيى الأزاريفي السوسي (ت. 1164ه/1751م)، صاحب “فوائد من الطب”، هو الآخر، سبق أن أجزم أن الاختلاط والتجمع البشري من أسباب انتشار الأوبئة، وقال بضرورة اتخاذ الاحترازات؛ بتجنب الاختلاط، والحرص على النظافة، واختيار السكن المناسب، و”وجب لمن نزل بهم الوباء ترك الاجتماعات المعتادة في الأفراح كالأعراس”، أو غيرها من المناسبات والأعياد. ما الذي تنشغل به في الحجر الصحي؟ أجد نفسي اليوم في عمل مكثف بالمقارنة مع ما قبل الجائحة، حيث توزع عملي اليوم بين التدريس والتأطير عن بعد للطلبة، والبحث العلمي ومتابعة اللقاءات العلمية والثقافية الرقمية، فضلا على أنشطتي الروتينية اليومية، من طبخ ورياضة وطقس القراءة، والتواصل مع أفراد العائلة ومعارفي من أساتذتي وزملاء العمل والأصدقاء. اخصص حيزا زمنيا للتأطير عن بعد للطلبة والطالبات الذين تشرفت بالإشراف على أبحاث تخرجهم في سلكي الإجازة أو الماستر، وأتتبع مستويات تقدم انجازها. وأتابع الدروس الرقمية التي تقدم للطلبة من طرف أساتذة مختلف الجامعات المغربية. وأقضي جل وقتي في للقراءة والبحث، وبالمناسبة، مازلت وفيا للكتاب الورقي، واختار بالأساس الكتب المتعلقة بمجال التاريخ، أو ما يمكن أن نسميه ب”القراءة المتخصصة”. استغل أيام العزلة هاته، لإعادة قراءة بعض الكتب التي سبق أن طالعتها من قبل، وأخرى صدرت حديثا واجتمعت عندي، وأتتبع بعض التجارب البحثية في البلدان الجوار، وخاصة تونس، التي أغرتني أعمال بعض روادها.وبين الفينة والأخرى أترك مجال التخصص، وأنصرف إلى قراءات أخرى موازية، آخرها رواية “الطاعون القرمزي” للروائي الأميركي Jack London، التي تدور أحداثها سنة 2073م، والتنبؤ بحلول موجة بوباء طاعون جارف بالأرض وقضى على سكان المعمور، وهي رواية طريفة في باب الخيال العلمي عن وقع الأوبئة في الذهنيات والتمثلات. إن الحجر الصحي الذي يعيشه الباحث وغيره من خدام المعرفة، هو فرصة للعزلة والتفكير، لأن التركيز و”التفرغ”، يزيدان من طاقة التفكير بعمق وتأن، ويساهمان في إتقان الأسئلة وبنائها بناء سليما،وأستحضر هنا مفارقة عجيبة، تتعلق بكون ما قرأه المعتقلون السياسيون من خزائن الكتب في السجون، أكثر بكثير من تلك التي قرؤوها فقادتهم إلى الاعتقال!وقدم أشهر المبدعين أفضل إبداعاتهم من معتقلاتهم السجنية وإقامتهم الجبرية، أو في عز أيام مرضهم !!. وبصفتي مغربيا، أتتبع مستجدات الحالة الوبائية بالمغرب والعالم، وما رافقها من حوامل إعلامية سواء المكتوبة والمطبوعة منها، أو المصورة سمعيا وبصريا، سواء ذات الصلة بإحصاء الضحايا ومعدلات العدوى، أو التوعية بأهمية تطبيق الحجر الصحي كإجراء وقائي، أو تتعلق بمختلف أساليب التضامن الاجتماعي التي أبداها المغاربة في هذه الأزمة؛ ليس بغاية التتبع عن كثب لتطورات الحالة الوبائية وخرائطها المتغيرة، ولا بغرض تقييم ونقد ذلك الخطاب، وإنما للملاحظة، عن قرب،لانعكاسات الوضع وتأثيراته في وجدان الناس ومشاعرهم؛لأن الأمر يتعلق بخطاب حامل لثقافة اجتماعية، تليق باستجماع صور ومؤشرات عن الحالة الذهنية للمغاربة في تعاملهم مع واقعهم في ظروف الأزمة. هذا، ومن جهتي شخصيا، فقد سمحت لي فرصة هدا الحجر، بمواصلة التكوين الذاتي المستمر لتنمية وتقوية بعض الكفايات، ولتدارك بعض التعثرات التي تخللت تكويني الدراسي والجامعي في مجال اللغات الفرنسية والإنجليزية بالخصوص. وبالموازة مع ذلك، أعمل على تلبية بعض الدعوات والإسهام قدر الإمكان في الندوات والأيام الدراسية الرقمية التي حلت محل اللقاءات المألوفة. وشخصيا، اعتبر ذلك عملا بيداغوجيا مهما، مكن الطلبة والمهتمين وعموم المغاربة من التواصل مع عدد من الباحثين والمثقفين وحتى السياسيين. ولا أريد هنا، أن يفهم من كلامي أنني أروج لفكرة مغرضة مفادها؛أن الوسائط الرقمية/ الافتراضية، قد تحل كليا محل الممارسة الميدانية والحضورية على مستوى التواصل أو التدريس … ما قراءتك لما يقع اليوم وما الذي كشفته هاته الأزمة؟ خلال عزلة الحجر وتأملاته بدت لي كذلك ملاحظات عديدة تستحق التفكير والمتابعة، منها ما يتصل بمهام التدريس والبحث، ومنها ما هو عن حياتي الخاصة. اكتشفت أن البحث العلمي يحتاج إلى”حجر علمي” بالنسبة للباحث مرة كل سنة أو سنتين على الأكثر، ويفترض أن تتاح له فرصة إنهاء التزاماته العلمية ولترتيب أفكاره وأبحاثه وتجويد إنتاجيته، وأعتقد أن العزلة الطوعية مهمة جدا للباحث، ومن الأفكار التي ستبقى بعد هذا الحجر الصحي المرتبط بفيروس كورونا . وبصفة عامة، اكتشفت أن هناك أفكارًا تدخل في صميم موضوع المعرفة من حيث قيمتها ووظائفها،وفى رأيي أن المثقف الذي يفكر بصدق وبعمل إخلاص، هو من يدير وجهته نحو شؤون مجتمعه وبلاده و ما تواجه من أسئلة كبرى وجودية ومستقبلية.وقد لوحظ كيف فرض هذا الوباء، في نفس الوقت وعلى الجميع، تحديا فكريا كان، حتى الأمس القريب، من اختصاص من نسميهم “خبراء”!! ومن الأمور التي شدت انتباهي، ولابد أنها لفتت أنظار الكثيرين، وهي: 1- في وقت أعلنت أغلب دول العالم إغلاق الحدود والمعابر، وجد المغرب نفسه وجها لوجه في مواجهة مع عدو فتاك غير مرئي، واضطر إلى تسخير موارده الذاتية وطاقاته المحلية، وقد أخْرج المغربي ما لديه، كل من موقعه،بدءًا بالأطقم التمريضية والطبية ورجال السلطة الترابية والأمنية، وأسرة التربية التعليم، والمرابطين في المزارع والحقول ومراكب الصيد وغيرهم من جمعيات المجتمع المدني. وأبان الجميع عن حس وطني رفيع وفريد؛ بالعمل والمساعدة والمساندة والدعم في تناغم رائع يجسد المعنى الحقيقي للمثل المشهور “ماحك جلدك مثل ضفرك”، والمثل الامازيغي: “ءورا يْكْرْزْدادْس، ءابْلا (خْسْ) إزگيرْنْ نْدادْس” 2- تمة ملاحظة أتقاسمها مع عدد من الملاحظين، مفادها أن هذه الأزمة الطارئة، قد أعادت التفكير في مجموعة من المسلمات والنظريات الفلسفية والتاريخية والمقولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأبانت عن فشل ذريع للنيوليبرالية التي حاولت إيهامنا بأن السوق والقطاع الخاص بإمكانهما القيام بكل المهام، ونبهتنا الأزمة جميعا، إلى جملة من الخيارات التي لم تكن في المسار السليم، وكشفت أننا مقبلون على تحديات صريحة وعميقة، من شأنها أن تخلط الأوراق وتعيد ترتيب أولويات الأفراد والأسر والمؤسسات والدول. فعلى المستوى العالمي، بدا لي أن الطابع الفجائي لفيروس كورونا وانتشاره السريع بين أكبر عدد من المعمور في ظرف قياسي، ووقعه الاقتصادي على مختلف البلدان التي لحقتها العدوى، قد خلق صدمته للبشرية على حين غرّة، وأبان عن إحدى أخطر المصائب التي عانت منها البشرية بفعل العولمة. أما على المستوى الوطني، فرضت مجمل النواقص والعيوب التي أبانت عنها هذه الأزمة وتداعياتها، حاجة ملحة لإنجاز تقييمات صادقة وحقيقية وعلى مختلف الأصعدة، وإعادة النظر في أشياء كثيرة، وتحديد ما هو ضروري وجوهري منها، وتجديد ترتيب الأولويات. ويبدو من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، أن للمغاربة ثلاث أولويات بعيد انجلاء غمة كورونا هي:الصحة والتعليم والثقافة، ويعتبرونها صمّام الأمان بالنسبة لهم. غير أن أجمل ما في المشهد اليوم، هو أن الأزمة، قد دفعت البلدان وأجبرت الدول على استعادة زمام التدخل الصحي والاجتماعي والاقتصادي، وفرضت عليها تلبية حاجياتها الاقتصادية وتحقيق أمنها الاجتماعي وتدبير وضعها الصحي بمواردها وإمكانياتها الذاتية، ولعل ذلك هو مصدر منسوب الثقة المجتمعية إزاء الدولة ومؤسساتها، الذي تشكل وتقوى في ظل ظروف هذه الأزمة. ويبقى الرهان الأساس في اعتقادي، هو الحفاظ على تلك الثقة واستثمارها في بناء نموذج تنموي جديد قائم على العدالة الاجتماعية وعلى أن المواطن هو جزء من دولته وركنها الأساس. كما تعلمنا من كورونا بأن العلم هو مفتاح الأزمات، ولا يمكن أن نعبر إلى مجتمع آمن وإلى نموذج تنموي آخر، كما نريده ونتخيله، دون الرهان على العلم والانتصار لقطاعي التعليم والثقافة والصحة. إجمالا، أتوقع أن يواجه خطاب السياسيين وصناع القرار في مختلف المجالات تحديات جديدة، قد تصل حد هدم فزاعات “الثوابت” و”المسلمات” و”الأسس”، وإعادة النظر في التوجهات العامة للخطاب السياسي العالمي المعاصر وشعارات “العولمة” و”التقدم” و”الازدهار” و”العيش الكريم” و”التفوق” و”الأولويات الأمنية والعسكرية والتنموية”، وغيرها. وأرجح أن تؤدي هذه الأزمة إلى مراجعة الأولويات العالمية والإقليمية والوطنية في المجالات الطبية والسياسية والخيارات الاقتصادية. 3- ومن الناحية الاجتماعية، عكست جائحة كورونا ما يلي: أبانت عن هشاشة المجتمع المغربي وبينت حقيقة ارتفاع معدلات الفقر(عدد طلبات المساعدات المالية)، بما يجعل من هذا “الهامش”، الذي يمثل جزء مهم من الشعب المغربي، واقع اجتماعي حري بالتدخل والتدبير المستعجل. كما لوحظ أن الكثير من المغربيات والمغاربة قد فقدوا العمل خلال هذه الأيام بسبب الجائحة، وعدم احترام أصحاب الأعمال لكرامة العمال وأدنى حقوقهم المادية والمعنوية. وعلى الصعيد الديمغرافي، أسفرت هذه الأزمة عن هجرتين معاكستين جديرتين بالدراسة والبحث،وهما هجرات من أوروبا إلى المغرب! وأخرى داخلية من المدن نحو البوادي القرى. بالمقابل، أبرزت أزمة كورونا محورية العائلة وضرورة استعادتها لجملة الأدوار التي تخلت عنها مؤخرا لصالح مؤسسات أخرى في مجالات التنشئة والتأطير الاجتماعيين مثل المدرسة والجمعيات وسائل الإعلام، وفي ظل تنامي النزعة الفردانية وتراجع جاذبية مؤسسة الزواج، خصوصاً مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الجهة المقابلة للنواقص التي عرتها محنة كورونا، لا أخفي شعوري بالاعتزاز الكبير تجاه انتصار المجتمع المغربي لثقافته التضامنية وشبكاتها التقليدية، لأن روح التكافل واللحمة التي تنسجها الجوائح بين المغاربة تاريخيا، تفسر إلى حد كبير، صمودهم أمام دوريتها وتعاقبها عبر تاريخهم الطويل، وما انخراطهم التلقائي في مختلف جهود التضامن المادي والرمزي خلال هذه الأزمة،إلا تعبير عن حرصهم الجماعي في مقاومة الوباء، كمسؤولية فردية وجماعية وأولوية مشتركة من جهة، وفيه وعي بفكرة المصير المشترك من جهة ثانية. ولا يسعني إلا أن أتمن مجمل عمليات التدخل التي أبدعتها مختلف الهيئات المدنية من جمعيات وتنسيقيات ولجن اليقظة المحدثة ميدانيا في قرى ومداشر ربوع المغرب، حيث أمكن الاعتماد على شبكات التضامن العائلية والقبلية والعيش من منتوج الأرض، ولو على قلته، أو في وسط المدن والمراكز شبه الحضرية، لمواجهة تبعات هذا الوباء والتقليل من حدتها. وكلها مبادرات نابعة بالتأكيد من حرص إنساني بليغ، لا تنفي وجود أقلية استغلت الجائحة للاغتناء و ممارسة الاحتكار. وقد يبدو للباحث في التاريخ، أنه أمام المعنى الحقيقي لمفهوم “التاريخ الطويل”، فالتضامن والتكافل الاجتماعيين عند المغاربة، ظلت من الأساليب القديمة التي تجددت أشكاله وآليات اشتغاله باستدامة، كلما تجددت أسبابها الموضوعية المرتبطة بالأزمات المستجدة، والأخطار التي تحدق بالمجتمع، فتدفع بالمغاربة إلى تدبير تلك الأزمات عن طريق إبداع جملة من أشكال التضامن وشبكاتها لضمان تماسك المجتمع وتثبيت استقراره ما أمكن. وتحضرني هنا، دعوة يعقوب المنصور الموحدي (ت 595ه/ 1199م) لأبي العباس السبتي (أشهر رجالات مراكش السبعة)، للإشراف على عملية توزيع المال والزرع والثياب على الفقراء والمساكين بحلول إحدى جوائح أواخر القرن 12م، وكرس عرفا حسنا سمي ب”العباسية”، وتقتضي من بائعي الخبز أن يتصدقوا بجزء من باكورة منتوجهم، كفأل حسن يستفتحون به يومهم في البيع، وهي سلوكات ما تزال سائدة بمراكش، وقد أحياها المغاربة من أصحاب المخابز بداية هذه الجائحة. مسار تاريخ الأوبئة في تاريخ المغرب متعدد المقاربات كيف كانت السلطة تتعامل معه؟ من المؤرخين من وصف تاريخ المغرب بأنه تاريخ أوبئة ومجاعات وحروب، واعتبر أن تلك الأزمات والنكبات هي بمثابة بنيات وأسس التاريخ المغربي، ومن العوامل الرئيسة التي حالت دون تحقيق أي تقدم يذكر، إن على مستوى تطور أجهزة الدولة والتقنيات والذهنيات، أو على المستوى الاجتماعي، بحكم أنها أحدثت -غير ما مرة- نزيفا ديموغرافيا وحركية مستمرة في الأنسجة البشرية والخريطة القبلية للمغرب. أود هنا –لو سمحت- أن أقف عند كلمة “المخزن” والتي تصف الدولة كسلطة في أيامنا الحالية. يتعلق الأمر بتقليد أمازيغي سابق للفتوحات، جرى تكريسه من خلال نظام حصون التخزين المشهور عند المغاربة ب(أكادير، إغرم، أجدير، غرناطة، لقصر) وقد تبنته واعتمدته مختلف الدول التي تعاقبت على حكم المغرب استوعبته في نُظمها العامة منذ المرابطين على الأقل وخصوصا مع الموحدين الذين حمل نظامهم لقب “المخزن”، لاكما تسعى بعض الأقلام إرجاعه إلى أصل روماني أو عباسي أو أندلسي. ومن أقدم الإشارات الصريحة لمصطلح المخزن في تاريخ المغرب المكتوب، تعود إلى عهد الموحدين بالإشارة إلى “عبيد المخزن”، والى فترة حكم السعديين، حيث انتشر في المصادر استعمال مصطلح “المخازنية”، وهم حراس المخازن المخصصة لموارد الجبايات التي كان جزء منها يوجه لتوزيعها على الفقراء فترة الجوائح والمصغبات. يتعلق الأمر إذن بمصطلح مستوحى من بعض الوظائف التقليدية للدولة بلغة اليوم، وطرق تدبير السنوات العجاف و زمن الكوارث، يوم كان “المخزن” يؤمن العديد من الخدمات الاجتماعية التي تعزز مشروعيته وتجعله مقبولا حتى لدى الخارجين عن سلطته.وهي وظائف يبدو أنها قد طالها النسيان وبقي الاسم دالا عليها. أما المخيال الجمعي للمغاربة اليوم، فلم يعد يحتفظ من المخزن إلا بالدلالة التي تعني التدبير الإداري والجانب القسري، لأسباب تاريخية و سياسية ليس هذا محل الخوض فيها. إجمالا تحفظ المصادر التاريخية لنا نماذج كثيرة في بابأساليب وطرق تدبير الدولة للأوبئة والكوارث في القرون السابقة، وبعض من ذلك : – سياسة الدولة الموحدية بإنشاء عدد من المخازن الضخمة، إذ كانت تخصص لتجميع الجبايات العينية من الحبوب والأغذية في السنوات السمان من أجل استهلاكها خلال السنوات العجاف، لمواجهة خطر الخصاص والمجاعات المترتب عن تطرف المناخ وتقلباته الفجائية التي ميزت مناخ المغرب عبر التاريخ. – والمثال الثاني للسلطان مولاي إسماعيل الذي أمر سنة 1721م، بتوزيع القمح على الفقراء والمحتاجين وكذلك على القبائل التي فرت من المجاعة نحو المدن.كما أن عددا من السلاطين مثل محمد بن عبد الله ومحمد بن عبد الرحمان و المولى الحسن (الأول)، كانوا يوزعون المؤن والمال على الناس ويوزعون البذور على الفلاحين خصوصا في المدن. لم يقف تدخل السلطة المركزية عند مستوى توفير القوت للرعايا، بل في مثل تلك الظروف، كانت أجهزة الدولة تتحرك وتمارس الرقابة في الأسواق، وحسب ما ذكره بعض المؤرخين، كان السلطان بنفسه يشرف على الحسبة التي تنشط بشكل فوق العادة في فترات الأزمة،فيخرج ما في مخازنه من حبوب لتزويد الأسواق، ويستورد السلع، ويحدد الأسعار لخلق التوازن بين العرض والطلب، ويسقط الضرائب على التجار والمزارعين، ويحارب الاحتكار، ويعاقب كل من سولت له نفسه من التجار المضاربة والتلاعب بالمواد والسلع. ومن نماذج تدخل الدولة زمن الأوبئة: منذ الموحدين على الأقل، كان المخزن يخصص بنايات ويشيد أخرى تعرف ب”المارستانات”، وهي مراكز للاستشفاء يشرف عليها أطباء، وتمول من بيت خزينة المال، كما خصص السلاطين الموحدين حارات العزل الصحي للمرضى المصابون بأمراض معدية تبنى خارج أسوار المدن كفاسومراكش، وخاصة الجذام، الذي طبع تاريخ المغرب الوسيط وسماه الطبيب المشهور ابن زهر ب “العلة الكبرى”. وفي سنة1582م، أمر السلطان أحمد المنصور السعدي بإغلاق حدود إيالته، ومنع أي اتصال بالأجانب اتقاء منه للعدوى. وأورد المؤرخ أحمد الناصري في الجزء الخامس من كتاب “الاستقصا”، نص رسالة بعث بها السلطان نفسه لابنه أبي فارس سنة 1602م، خليفته على مراكش، جوابا على ما كتب به إليه في مسألة الوباء الذي ظهر بسوس ومراكش، هل يفر منه أم لا؟، فأجابه ينصحه بالحجر الصحي من خلال تفادي لمس أي رسالة قبل أن يغمسها في الخلّ، و بالخروج من المدينة والذهاب إلى البادية فرارا من الوباء، ويطلب منه عدم إغفال استعمال ” الترياق”، ويصف أحمد المنصور كميات الترياق التي تركها في مراكش وطرق استعمالها. منذ أواخر ق 18م، بدأت الهيئة القنصلية الأجنبية بالشمال في اتخاذ إجراءات وقائية ضد الوباء، وتمكنت من انتزاع موافقة السلطان المولى سليمان لفرض الحجر الصحي بظهير 1797م، وبموجبه تم اتخاذ تدبير الحجر الصحي على السفن القادمة من وهران، وشل جميع المواصلات القارية في الحدود الشرقية، محاولة لتجنب تسرب وباء الطاعون المتفشى آنذاك في المغرب الأوسط (الجزائر). وتعج الخزانة المغربية الرسائل السلطانية،وتقارير القناصل الأجانب، وفتاوى الفقهاء، حول ” الخونطة أو الكرنتينة”، التي جرى العمل بها في المغرب منذ مطلع 19م، وخاصة في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمان، الذي اختار جزيرة السويرة محجرا صحيا للحجاج الموبوءين أو المشكوك فيهم لمدة 40 يوم كما توحي به الكلمة (quarante). خلال فترة الضغط الاستعماري الأوروبي على المغرب، وبعد تنظيم أول مؤتمر دولي للصحة بين الدول الأوروبية لتوحيد سياساتها الصحية، عقد بباريس الفرنسية سنة 1851م، فرضت على البلدان الخاضعة لها تأسيس مجالس صحية ترأسها أطباء وقناصل أجانب.وتأسس “المجلس الصحي الدولي” بالمغرب عام 1792م، وفرض تدابير صحية عديدة على المخزن كمنظومة تقليدية هشة لم تكن له الوسائل الكافية والإرادة الضرورية لوضع سياسات عمومية في هذا المجال. وبعد التغلغل الاستعماري الفرنسي أواخر ق 19م ومطلع العشرين، وضع مهندس نظام الحماية الفرنسية بالمغرب الجنرال ليوطي موضوع الصحة ضمن ما يعرف ب”السياسة الأهلية” التي استهدفت كسب الأهالي أو ود القبائل العنيدة والممانعة، وإقناعهم بإيجابيات الاحتلال ورسالته الحضارية!! كانت هذه بعض الأمثلة القليلة عن الأساليب التي لجأ لها المخزن الزمني لمساعدة السكان خلال الجوائح في تاريخ المغرب، وتجدر الإشارة هنا أن تلك التدخلات كانت تهمّ أساسا الحواضر الكبرى مثل فاسومراكش…واستهدفت سكانها، عكس سكان البوادي والأطراف. وما الذي تغير في تعامل السلطات مع وباء كورونا في مغرب اليوم؟ لاحظت أن السلطات المغربية قد سارعت في وقت مبكر نسبيا إلى اتخاذ حزمة من القرارات والتدابير وُصفت ب”الاستباقية والجريئة”، ومنها تعليق الرحلات الجوية مع الصين وتشديد المراقبة في الموانئ والمطارات الدولية منذ نهاية شهر يناير. وبعد تسجيل أولى حالات كورونا في البلاد ابتداء من يوم 2 مارس أعتقد، وبداية انتشار الفيروس بالمغرب، ألغت جميع الملتقيات الرياضية والفنية، وأمرت السلطات بإغلاق المساجد والمدارس والجامعات والمعاهد، والمقاهي والمطاعم، وكافة المرافق وفضاءات الترفيه. كما أقدمت على تعليق الرحلات الجوية الدّولية بشكل تدريجي قبل أن تتوقف إلى إشعار آخر. وبالموازاة مع إجراءات وتدابير أخرى، تم العمل بالحجر الصحي (المنزلي)، قبل فرضه وتشديده بموجب قانون “حالة الطوارئ الصحية” الذي تم العمل به خلال الفترة الممتدة ما بين 20 مارسإلى غاية 20 أبريل، وتم تمديده إلى يوم 20 ماي، قبل أن يمدد ثانية لمدة ثلاث أسابيع أخرى. مع أزمة كورونا، عادت الدولة بقوة وبمباركة شعبية لتلعب أدوراً محورية في مواجهة الوباء من الناحية الصحية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والجنائية، وهي من الأدوار التاريخية المنسية للجهاز المخزني المغربي والتي عاودت الظهور في هذه الأيام، كما سبق، فالتدابير المالية التي اتخذتها الدولة لصالح الفئات الفقيرة والشرائح الاجتماعية الهشة التي أضعفتها الأزمة الحالية مثلا،من خلال إنشاء “الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا”،ليس إلا نسخة أخرى لأسلوب كان المخزن يؤمنه بطريقة تقليدية السلطة المركزية، وتجسد من خلال جمع الموارد والمال من فئات وإعادة توزيعها على أخرى، غير أن تعبئة مختلف وسائل الدولة عبر عموم المجال الترابي المغربي، يبدو هو الجديد الذي لم يتحقق في تاريخ المغرب من قبل. إجمالا يمكن القول بأن الهزات التي تطرأ بين الحين والآخر في أي مجتمع، بها تقاس متانة مؤسسات الدولة والمجتمع على السواء في مواجهة الأزمات، ومن هذه الزاوية أتساءل بدوري كالآتي: أيمكن أن تكون أزمة كورونا مناسبة لإعادة تأهيل الأدوار التقليدية للمخزن المغربي ومحاولة تكييفها مع الوضع الوبائي والاقتصادي الجديد ؟ وبصيغة أخرى، هل نحن أمام إعادة إنتاج دور مؤسسة الدولة المغربية نفسه في علاقتها مع المجتمع؟ كيف ينظر المواطن المثقف والفاعل السياسي إلى هذه الأدوار المتجددة؟ وهل تغير أزمة كورونا مفهوم السلطة والدولة، في ظل تصاعد بعض الدعوات المنادية بمزيد من تمركز السلطة والثروة والقيم، وتراجع الترافع على الممارسة والمؤسسات الديمقراطية؟هل سيفوت المغرب للمرة الثالثة هذه الفرصة التاريخية لتأسيس دولة عصرية مؤسسة على تعاقد ومهام جديدة؟ هناك من يعتبر ان سلوك التضامن والتآزر التي تنامي خلال الأزمة سيدفع السلطات لتمرير قرارات او مواقف والإجهاز على الحقوق والحريات كما نبهت الى ذلك الأممالمتحدة هل لديك هذا التخوف؟ لست هنا بصدد المجادلة في شرعية مختلف التدابير الإدارية والقانونية والأمنية التي اتخذتها الدولة في مساعيها من أجل التصدي للوباء، ولا لمناقشة عواقبها وكلفتها السياسية، بقدر ما أود الإشارة إلى ما جاء في بعض التحاليل بأن السلطوية تترسخ وتستفحل بشكل قوي وملحوظ، وتهيمن على المشهد كمنظومة عمل سارية، مقابل تراجع منسوب الديمقراطية، وقدمت مؤشرات من قبيل تصدر نساء ورجال إدارة ترابية بعينها للمشهد الإعلامي خلال هذه الأزمة، وبعض التجاوزات الأمنية المسجلة، وتسخير جهود الأفراد والمؤسسات في مواجهة الوباء لصالحها السلطة، بمثابة مؤشرات على تمددها واستفحالها. قد يعتبر المغرب – ضمن بلدان العالم الثالث- بالنسبة للباحثين في العلوم السياسية نموذج جدير بالدراسة حول ظاهرة استقواء السلطوية في ظروف هذه الأزمة وأعقابها، خصوصا أن حالة الطوارئ التي تم فيها تعليق العمل بالدستور أو القانون، كفترة استثناء، أضحت موضع المسائلة؛ سواء حول ما منح للسلطات العمومية من صلاحيات واسعة في اتخاذ قرارات استعجالية دونما لجوء إلى الإجراءات الاعتيادية في الديمقراطيات، أو حول ما لوحظ من تغوُّل أجهزة وموظفي وأعوان بعض الإدارات. وبالمقابل تراجع القوى الديمقراطية وتخليها عن أدوارها وخطابها التي كانت تستمد مرجعياته من القانون والمؤسسات الديمقراطية ومن المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان. وكيفما كان الأمر،نحن في وضع تتراجع فيه الممارسة الديمقراطية، وعلى رأسها الحرية، كحق مؤسس وأهم قيمة بُنيت عليه لبقية حقوق الإنسان، ولا يمكن استغلال لحظة الوحدة والإجماع الوطنين للإجهاز على مكتسبات حقوقية تحققت عبر مسار نضالي محترم، ومن الأهمية بمكان الحفاظ على يقظة الحقوقيين، وبأدوارهم كاملة في حماية الحقوق والمكتسبات، عن طريق رصد ومناقشة كل الإنزلاقات والتجاوزات، والمرافعة من أجل إرجاع الأمور إلى نصابها وصوابها، لأن المناسبة هي فرصة أخرى لتعلم مزيدا من دروس الديمقراطية والحكامة وحقوق الإنسان. وبالتالي، فإن الأمر في رأيي، أكبر من مجرّد حالة استثناء عادية، ولا بد أن تعطى الأولوية للبناء والتنمية ورفض الظلم ودعم قيم الحرية، والحرية هنا كهدف في حد ذاتها، أمّا العلم والعقل فهما الوسيلة. البعض يرى خلال هاته الأزمة، أن دور الأحزاب محدود ومقلص ومهمش أين يكمن الخلل؟ جرت العادة خلال الأزمات وحالات الطوارئ مثل هذه التي نجتازها، أن يتم العمل بقوانين استثنائية وتعليق العمل بالدستور والقانون، غير أن الملاحظ في حالة المغرب، يبدو مثيرا للانتباه، كيف تم حجب عمل الحكومة وخصوصا بعض قطاعاتها التي ما أحوج المغرب والمغاربة إلى وظائفها ومجالات تدخلها، كوزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، ووزارة الثقافة، ووزارة العدل والحريات.. وكيف انزوت الأحزاب السياسية والنقابات المهنية إلى الخلف واكتفت بالمراقبة ومباركة التدابير المتخذة في حالات كثيرة، في حين برز بعض وزراء “السّيادة” بمعية عدد من التكنوقراط. وقد تناولت الصحافة هذا الموضوع واعتبرت رئيس الحكومة أضحى شبه مرؤوس تحت سلطة وزير الداخلية،وأشارت إلى انزواء وزير الصحة وعوّضه مدير مديرية الأوبئة التابعة لوزارة الصحة، وغيرها من الأمثلة. ومن جهتى، لا أدري مثلا إن كان من الصواب سياسيا، أن تنفرد الحكومة بالمبادرة التشريعية، في ظروف ما أحوج فيها إلى التوافق واحترام الديمقراطية، ولا أستوعب أي مستقبل للسلطة والديموقراطية في ظل انحسار الظاهرة الحزبية والنقابية وضمور المجتمع المدني. واعتقد أن المغرب في حاجة إلي سياسيين نجباء مجتهدين مستشرفين للمستقبل لان هذه الظروف مناسبة لإغناء النقاش السياسي الوطني بعيدا عن منطق الخوف من تحمل الكلفة السياسية لهكذا مواقف وقرارات، والترفع عن منطق التفكير من زاوية استحقاقات 2021، وما تطلبه من جهد وعمل وجب ادخاره مخافة استنزاف القوى الذاتية قبل وقتها. برزت إشكالية البحث العلمي وتمويله و رقمنته خلال الجائحة. ما المدخل لتنمية البحث العلمي في الجامعة المغربية بعد ما حصل اليوم؟. أحسب أن السؤال المثار ذو طبيعة مركبة، وقبل الجواب، أستسمحك للوقوف بداية عند مسألة تبدو لي أساسية في الموضوع، وتتعلق بتلك الانتقادات والتهم التي لحقت الجامعة المغربية بشأن تذيلها لقائمة أفضل الجامعات في العالم، والتشكيك في قدرتها على النهوض بالبحث العلمي، والحال أن أمر ذلك التقهقر لا ينبغي أن يفسر بمحدودية الإمكانات الذهنية للأستاذ الباحث أو طلاب هذه لجامعات، بقدر ما يعزى إلى عوامل اقتصادية بنيوية من ضمنها الميزانية الهشة المخصصة للبحث العلمي، مقارنة بالإنفاق على قطاعات أخرى رغم عدم أهميتها. كما أن حداثة تأسيس الجامعة المغربية بعد الاستقلال، وإثقال كاهلها بتكوين الأطر المغربية في سياق “مغربة” أطر مختلف المجالات، قد كلفها عقودا من الزمن خصصت لهذا الغرض، وحال دون نهوضها بباقي المهام المنوطة بالجامعة، وفي مقدمتها البحث العلمي والتقني، إضافة إلى غيرها من الأخطاء التي قزمت دور الجامعة وأضعفت البحث العلمي في المغرب. ورغم كل ذلك، فإن هذه الجامعة في ظل أزمة كورونا وما رافقها من إجراءات، قد أبانت عن قدرتها -إلى حد كبير- على سد الحاجيات التي تطلبتها المرحلة الحالية على مستوى الموارد البشرية على الأقل، وتأكد أن للمغرب كفاءات أثبتت أهليتها وخبرتها في الميدان، وعملت بما أوتيت من إمكانات ومعارف على انتشال البلاد من براثن هذه الجائحة، وتوفقت في تحقيق نوع من الاكتفاء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والأمني. وإذا كان لهذه الأزمة من حسنات، فأولها قلب موازين الاحتياجات بالنسبة لبلدنا وضرورة إعادة ترتيب أولوياته، وعلى رأسها إيلاء مزيد العناية بمجالات التعليم والبحث العلمي، كقطاع في أمس الحاجة إلى إصلاح حقيقي وتطوير حتى يتلاءم مع متطلباتنا المستقبلية.وفي هذا الإطار لابد من إعادة الاعتبار للجامعة المغربية، ليس لأن التعليم العالي هو قمة الهرم الدراسي فحسب، وإنما هو مفتاح التقدم، لأن مهمة الجامعة هي تكوين النخب وإنتاج المعرفة. إذن، فالتعليم والبحث العلمي يفترض فيهما أن يكونا المحرك الرئيسي لكل رؤية وطنية في العالم ومدخلا أساسيا للتنمية المأمولة، وجب الاهتمام بهما وجعلهما في المقدمة كأولوية قصوى، وهو ما لن يتأتى –في نظري- إلا بالاهتمام الكبير بالجامعات ومراكز البحث العلمي من خلال: – وضع إستراتيجية وطنية للبحث العلمي، وجعله جزءا من الأمن القومي، بل عماده وركنه المتين. – إصلاح حقيقي لمنظومة التعليم بأسلاكه المختلفة، وتوفير الإمكانيات الضرورية لنهضتها، والرفع من ميزانية البحث العلمي. – تحسين مناخ العمل والإبداع والبحث؛ سواء بمراجعة القوانين المؤطرة للبحث العلمي وتحصين الملكية الفكرية وبراءات الاختراع….، أو من أجل الحد من “هجرة الأدمغة” والموهوبين، واستعادة الطاقات والكفاءات من مغاربة العالم. – سد الفجوة الفاصلة ما بين التكوين وطبيعة الاقتصاد وسوق الشغل، وبين البحث العلمي وتطبيقه، فلا فائدة من تعليم ديموقراطي دون دمقرطة الاقتصاد. وبالنسبة للشق الثاني من السؤال، والمتعلق بموضوع الرقمنة، فقد سبق للمغرب أن أولى عناية لهذا الجانب و أعد برامج حكومية عديدة في مجال الإدارة الرقمية او في مجال التعليم من خلال برنامج تعميم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم (GENIE) منذ 2006، غير أن تجربة انتشار هذا الوباء العالمي (فيروس كورونا) وما أبانت عنه من مضاعفة الحاجة إلى الاتصال والتواصل الرقميين، خصوصا في مجال التعليم، أثبتت أن تلك البرامج قد بذرت فيها أرصدة مالية ثقيلة، واستنزفت مجهودات كثيرة، وفيها هدر زمني جد مهم، ولم يستفد منها المغرب في اللحظة التي احتاجها. ومن ناحية أخرى، تمة مشكلة حقيقية يطرحها موضوع رقمنة الإدارة و التعليم، فرغم مجانية التعليم، وحق الولوج إلى خدمات الإدارة العمومية، لا يستطيع كل المرتفقين والمتعلمين تغطية تكلفة الولوج إلى الانترنيت، ما يعيد مشكل تكافؤ الفرص ليطفوا إلى السطح من جديد. بعد نهاية الأزمة كيف يمكن كتابة تاريخ “زمن كورونا” لأجيال المستقبل؟ هذا سؤال مركب ويصعب تفصيل القول فيه في حدود هذا الحوار، لكن قبل إبداء الرأي في هذا الموضوع، بجدر بداية أن أسجل ملاحظتين: 1. ظلت أسئلة مقاربة التراكم الأكاديمي الذي تحقق في ميدان الدراسات حول تاريخ المغرب، تحوم حول: هل كتب تاريخ المغرب؟ وأين وصل هذا المشروع ؟ ويفترض أن تجديد تلك الأسئلة، وينصرف البحث إلى جوانب أخرى من قبيل؛ كيف كتب هذا التاريخ؟ ولمن يكتب التاريخ؟ لأي مستقبل يكتب هذا التاريخ؟ وبصيغة أخرى، ما قيمة ما يكتب اليوم من تاريخ في المستقبل؟ 2. تحقق تطور ملحوظ في نظرة المؤرخ المغربي إلى موضوع الأوبئة، وانتقلت من دراستها كعوامل تفسيرية للوفيات، إلى دراستها لذاتها لمعرفة مسبباتها وخصائصها الوبائية وتتبع إيقاع انتشارها ورصد عواقبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية. وبالعودة إلى سؤالكم، بالنسبة لي “وباء كورونا” حدث آني بامتياز ومعاش، ما نزال نعيش في قلب حركيته، ونحيا لحظاته وتطوراته، ومؤرخ اليوم، باعتباره شاهدا على العصر، هو مطالب بمواكبة هذا الحدث بالملاحظة حتى لا يجد نفسه خارج الزمن التاريخي. كما هو مدعو أن يكون متتبعا لما ينشر ويودع من تغطيات صحفية وتقارير علمية وحوامل إعلامية، لأن الأمر يتعلق بما سيعرف فيما بعد، بمصادر وأدبيات التأريخ “لفترة كورونا”. وبحكم أنه حدث كوني وراهني ما تزال لحظاته في طور التشكّل بإيقاع سريع لا يسمح بالمتابعة الدقيقة لأحداثه المتسارعة، أسرع مما يمكن للعقل أن يستوعبه، لا يمكن فهمه إلا في سياق عالمي أشمل، وتستلزم التأني في التشخيص والتحليل القادر على تفكيك الحدث وتمفصلاته، والتمييز بين مكوّناته، حتى تتأتى إمكانية الفهم والاستيعاب، فضلا عن شرط المسافة الزمنية مع الحدث الضامنة للحد الأدنى من للموضوعية المنشودة عند كل مؤرخ…وغيرها من العناصر التي تعد مكمن الصعوبات في هذا الموضوع. لاشك أن جائحة كرونا ستدرج ضمن القضايا الكبرى للتاريخ الجارية وقائعه، ويمكن أن تدرس في إطار “الزمن الخامس” الذي يمتد ليشمل حوادث الساعة، ويعرف ما بين المؤرخين ب “تاريخ الزمن الراهن”، ويعرف بمسميات أخرى من قبيل : “التاريخ الساخن” و”التاريخ الفوري أو الآني” و”التاريخ القريب (histoire proche)، و”التاريخ قريب العهد (histoire récente) “، وهو مضمار له أسطوغرافيته ومصادره الخاصة وله طرائقه المتميزة وله متخصصوه. ومن وجهة نظري، أرى أن هذا الموضوع يطرح أمام المؤرخ أربع صعاب هي بمثابة عقبات منهجية ومعرفية، ألخصها في الآتي: 1. غياب المسافة الزمنيّة الكافية مع الحدث؛ لأن المؤرخ مدعوا إلى اتخاذ مسافة زمنية مع الأحداث التي يدرسها ويؤرخ لها، وإلا سيكون بصدد الخوض في تاريخ غير منته أو غير مكتمل الحلقات،وملزما بالإجابة على أسئلة قد تحتاج لبعض الوقت لفهم أسبابها وصيرورتها و كنه نتائجها. 2. غزارة مصادر تاريخ الزمن الراهن، فكلما كان المؤرخ قريبا من الحدث، قد يستغني عن المصادر في الأرشيفات، وتكون مصادره وآليات اشتغاله أكثر وفرة وحظا للفهم، ويواجه صعوبات جمة في تدبير تلك الوفرة. 3. الحاجة إلى اتساع النظرة والمقاربة الموضوعية في الكتابة التاريخية، فالمؤرخ عموما، مطالب أن يكون ملما بالعديد من الثقافات والمعارف المختلفة، من علوم إنسانية واجتماعية وعلوم بيولوجية وطبية، لان ذلك ضروريا لتوسيع دائرة الفهم. 4. التكامل بين المؤرّخ و الإعلامي، فالصحافة مسودة التاريخ الأولى كما يقال، على أن التماهي بي