- إلى روح الدكتور عبد الرحمن مزيان- عبد الرحمن هذا مواطن مغربي جزائري أو جزائري مغربي، رجل حمل في صدره قلبا يسع لبلدين، قد تعجبون من كونه يجمع بين جنسيتي بلدين "عدويين"، أو لنقل بين بلدين يصدق عليهما وصف "الإخوة الأعداء". ستزول أسجاف الدهشة والعجب حينما تعلمون تفاصيل الحكاية: رأى عبد الرحمن النور في إحدى قرى جنوب شرق المغرب، كان ذلك في بداية ستينات القرن الماضي، تلقى تعليمه الابتدائي بمركز عين الشواطر بإقليم فكيك المتاخم للحدود المغربية الجزائرية، تابع مساره الدراسي بكل من بوذنيب والرشيدية، ثم انتقل إلى مدينة مكناس ليستكمل دراسته بكلية الآداب شعبة اللغة العربية وآدابها، حصل على شهادة الإجازة في حوالي 1989م، وهي السنة التي صادفت حدوث انفراج في العلاقات المغربية الجزائرية، توّج بفتح الحدود بين البلدين بعد أن كانت مغلقة لمدة تزيد عن 14 سنة بسبب النزاع في الصحراء، إذ كانت الجزائر منذ البداية من الدول الداعمة لجبهة البوليساريو الانفصالية. كان والد عبد الرحمن مزيان: الحاج عثمان من قدماء مقاومي وأعضاء جيش التحرير، دافع عن حوزة المغرب مثلما دافع حوزة الجزائر، شأنه في ذلك شأن عدد كبير من أفراد قبيلة ذوي منيع، وهي من القبائل العربية التي نزحت من المشرق العربي واستقرت بالجنوب الشرقي للمملكة، وبحسب الروايات التاريخية وكتب الأنساب فإن هذه القبيلة كان لها إسهام كبير في استقدام العلويين إلى المغرب، ومن ثمة كانت لها علاقة وطيدة بالشرفاء العلويين، وبما أنها كانت عبارة عن بدو رحل، فقد كان الترحال سمة أساسية في حياة أبنائها، إذ عرفوا برحلة الشتاء والصيف ما بين منطقة تافيلالت Taffilalt( أرفود – الريصاني – مرزوكة...) الموجودة حاليا بالمغرب، ومنطقة واد كير Oued Guir (المجرى السفلي لواد كير تحديدا ومن أهم مدنها بشار- العبادلة- القنادسة- تاغيت..) وهي تابعة حاليا للجزائر. وبما أن المغرب والجزائر كانا يرزحان تحت ربقة الاستعمار الفرنسي، فقد انتظم أفراد قبيلة ذوي منيع بمعية قبائل تافيلالت في صفوف المقاومة ضد المحتل الفرنسي سواء في المغرب أو الجزائر، وعند حصول المغرب على استقلاله سنة 1956م اقترحت عليه فرنسا أن يسترجع حدوده الشرقية المتضمنة لمنطقة كير، وبحسب بعض المصادر التاريخية فإن المغرب طلب تأجيل هذه المسألة إلى حين حصول الجزائر على استقلالها، هذا من حيث الظاهر، أما السبب الحقيقي لموقف المغرب فيلخصه البعض في كون المغرب لو استرجع صحراءه آنذاك فمعناه توجيه ضربة موجعة لحركة التحرير الجزائرية التي كانت تحظى بدعم واضح من المغاربة سواء من خلال مدها بالسلاح أو فتح الطريق للمقاومين المغاربة قصد مؤازرتها ميدانيا، وتذهب بعض الروايات التاريخية إلى حصول اتفاق مبدئي بين المغرب ومجلس القادة الخمس للثورة الجزائرية يقضي بأن يسترجع المغرب أراضيه فور حصول الجزائر على استقلالها، وهو الاتفاق الذي تنكر له الجزائريون، ولا زال إلى اليوم حزب الاستقلال يطالب في أدبياته باسترجاع المغرب لحدوده الشرقية هاته. وفي بداية الستينات وتحديدا بعد حصول الجزائر على استقلالها سنة 1961م، حدثت بعض المناوشات العسكرية بين الجيشين المغربي والجزائري، وفي سنة 1963م نشبت حرب الرمال بين البلدين، وهي الحرب التي تركت جرحا غائرا في خاصرة العلاقات المغربية الجزائرية، لازالت تداعياته تحفر عميقا وتوسع الشقة بين البلدين الجارين، ثم جاءت مرحلة السبعينات ليشكل البلدان ساحة للصراع الدولي في إطار ما يسمى بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي بزعامة أمريكا، فتم زرع دمّل الحركة الانفصالية للبوليساريو في المنطقة، لينطلق فصل من الصراع الدامي المأساوي فتغلق على اثر ذلك الحدود بين الدولتين، فتنشطر قبيلة ذوي منيع بالقوة وبالفعل بين الدولتين، إنها المأساة في أقتم صورها الإنسانية: عائلات وأسر تعيش حالة تفكك وتشرذم إلزاميين، إنه جدار برلين في صيغته المغاربية. من يدري قد تكون ساحة الحرب في الصحراء جمعت بين الأخوين: قابيل يقتل هابيل، إنه تاريخ البشرية المظلم يعيد نفسه من جديد، لتعيش المناطق حالة استنفار قصوى على جميع المستويات، وتتحرك بالموازاة مع ذلك آلة الحرب الإعلامية، فيتحول الفوز في مباراة لكرة القدم بين منتخبي البلدين (هزيمة المغرب أمام الجزائر بالبيضاء ب 5 أهداف ل 1) إلى إنجاز عظيم يفوق النصر العسكري. كان لا بد أن نستحضر هذه التفاصيل حتى يتسنى لنا فهم قصة الدكتور عبد الرحمن التي تختزل في تلاوينها مأساة إنسانية لا زالت تلقي بظلالها على مصير شعبين جارين، تجمعهما أواصر الدين واللغة والتاريخ... وتفرّق بينهما الحسابات السياسية الضيقة والعقد النفسية المزمنة. كان عبد الرحمن عاشقا للأدب، مولعا بالفلسفة، ذا خلفية فكرية يسارية، لمّا حصل على الإجازة كان بإمكانه أن يمضي سنة من التكوين بمدرسة تكوين المعلمين ليتخرّج معلّما، لكن طموحه الشديد الذي ملك عليه مجامع نفسه، كان يدفعه للتفكير أبعد من ذلك، وعند فتح الجدود بين المغرب والجزائر استهوته فكرة زيارة الجزائر لصلة الرحم مع أعمامه هناك وللتعرف على البلد الجار الذي كان مجرد الحلم بالتنقل إليه ضربا من ضروب المستحيل. حطّ صديقنا الرحال بمدينة بشّار، احتفت به العائلة والقبيلة أيّما احتفاء... قبيلته في المغرب كما في الجزائر هي عائلة كبرى... الكلّ أعجب بحسن تواصل عبد الرحمن وبسعة أفقه الثقافي لدرجة أن بعض المثقفين عرض عليه فكرة التدريس بجامعة بشار، تردد في بداية الأمر، لم يستسغ أن يعيش بعيدا عن أسرته، حاول عمّه أن يقنعه: "اسمع يا ولدي العلاقات بين المغرب والجزائر تحسنت ولله الحمد، ومسألة حصولك على الجنسية الجزائرية لا يطرح أي إشكال، إن تاريخنا يشهد بأن منطقة تحرك قبيلتنا لم تحدها حدود في يوم من الأيام، واللعنة على المستعمر الذي أوقعنا في هذا المطب. كما أن تاريخ أبيك النضالي يشفع لك بذلك وييسّره. أمّا عن أسرتك فسيكون أمر زيارتها متاحا في كل حين. هنا ستحقق حلم حياتك، ألم تكن تحلم بأن تكون مدرّسا جامعيا؟". ابتسم عبد الرحمن مدركا أنّ عمّه قد عزف على الوتر الحسّاس، في غضون أيام قليلة أصبح عبد الرحمن المغربي جزائريّا، انتظم في كلية الآداب مدرّسا للأدب العربي وفي الوقت نفسه طالبا في شعبة الفلسفة. ها هو ذا حلمه بدأ يتحقّق، انتعشت في دواخله روح الطالب والباحث، شارك بألمعية في منتديات أدبية داخل الجزائر وخارجها، وأسهم بكتاباته النقدية في المجلات العربية، ثمّ أعقب ذلك مرحلة التأهيل الاجتماعي ليتزوّج وينجب ثلاثة أطفال. مضت الأيام مسرعة جميلة حرص خلالها صاحبنا على زيارة المغرب كلّما داهمه الحنين لوطن النشأة أو تأجّج في قلبه الحب الموّار لوالديه وإخوانه. لكن سرعان ما انقضى شهر العسل بين المغرب والجزائر فتم إغلاق الحدود من جديد وتبودلت الاتهامات بين الدولتين، وكان لا محيد لعبد الرحمن أن بتجرع من كأس الفرقة والبين، لقد تأثر بهذا العطب المستجد فقلّت زياراته للمغرب بطبيعة الحال، وحدث ما لم يكن يتوقعه، حملت إليه الأخبار ذات صباح نبأ موت والده، تملّكه حزن كظيم، لن يكون بمستطاعه أن يلقي النظرة الأخيرة على ذلك الرجل الذي مثّل بالنسبة إليه نموذج البطل الاستثنائي، تحجّرت الدموع في مآقيه، خانه صبره حينما سمع أمّه عبر الهاتف تشرق بصوتها، كان ألمها ممضّا فزادت من لوعته وحرقة ألآمه. بكى أطفاله الجزائريون بحرارة فراق جدّهم المغربي الذي لم ينعموا بقربه كثيرا. استعاد شريط ذكرياته في المغرب منذ ولادته إلى أن جاء الجزائر زائرا فأصبح مقيما. حاول أعمامه وأصهاره وأقاربه وحتى طلابه أن يخففوا عنه غلواء حزنه واكتئابه. استمر على حاله هذا لسنوات، كلما رنّ صوت الهاتف انخطف قلبه مخافة أن تصل إلى مسامعه أصداء فاجعة جديدة بموت أحد أقاربه. هي الحدود تمزّق نياط القلوب هنا وهناك: من تلمسان إلى السعيدية، ومن وجدة إلى مغنية، ومن أدرار إلى الرشيدية، ومن بشار إلى فكيك وبوعرفة.... زار المغرب مرة أخرى خلال إحدى العطل الصيفية، آلمه حال أمّه وإخوانه الذين تبدّلت أحوالهم برحيل الحاج عثمان، ذلك الطود العظيم. في كل مرّة كان عليه أن يجيب على تساؤلات أصدقائه المغاربة، كانوا يودّون أن يعرفوا مجريات حياته في بلد "عدو" - كما هو مترسخ في وهم الكثيرين-. سأله أحدهم: "ما هي حقيقة إحساسك تجاه المغرب والجزائر؟ هل أنت مغربي؟ جزائري؟ّ أم هما معا؟" رمى ببصره بعيدا وتنهد تنهيدة عميقة وقال: "أمّا عن المغرب فأقول: تغرب كل شموش العالم وشمس حبّ المغرب في قلبي لا تغرب. وأما عن الجزائر فأقول: "لك يا جزائر في القلب جزائر وبحور". الكون برمته يا صديقي نشأ بدون حدود، الحدود أنشأتها الضغينة والأنانية والجشع، ومن خلفها توجد عقول محدودة. فهم صديقه المرمى من قوله وهو الذي كان يؤمن بأن رفيقه ما كان يقيم وزنا للجغرافيا في حساب مغرب حلم به كبيرا: المغرب الكبير. عاد عبد الرحمن إلى الجزائر حاملا في قلبه همّا مقيما ووجعا سيّدا. استوطنت جسده لعنة المرض، ظل صامدا لسنوات وهو يحلم بيوم تزول فيه الحدود إلى غير رجعة فيعود المغرب الكبير واحة لشعوب المنطقة وفضاء رحبا للإخاء والمحبة والتسامح. ازدادت حدّة مرضه ثم فاجأه هادم اللذّات، أسلم الروح لبارئها. قيّض لأمه المسكينة أن تكتوي بنار فراقه. هي الحدود مرّة أخرى تحول بين المرء وحبيبه. تمنّت لو شيّعته إلى مثواه الأخير، لو طبعت قبلة على جبينه، لو احتضنت صغاره وضمتهم إلى صدرها. بكت الأم الثكلى بدموع حارة. إنه مشهد درامي يتكرر دوما، هنا أو هناك لا فرق، قلوب كليمة ونفوس هدّها الألم والحنين والاغتراب. والمتهم الأول والأخير: آلة السياسة الجهنمية التي تعيق الدفق الإنساني المحتدم وتغتاله، فلا تسمح للشعوب بأن تستحمّ في بحار المحبة والسلم ولا أن تمدّ لبعضها البعض يد التعاون والخير والنماء. صديقي عبد الرحمن سلاما ولا أقول وداعا. أتمنى لحلمك أن يتحقق يوما ما ليكون المغرب والجزائر وجهان لعملة واحدة هي المغرب الكبير. نم قرير العين أخي فحلمك لا تسيّجه حدود.