أظهر "تقرير المخدرات العالمي لعام 2016"، الذي أصدره البرنامج العالمي لمكافحة المخدرات والجريمة، التابع للأمم المتحدة، أن نحو 250 مليون شخص في العالم، أي نحو 5% تعاطوا المخدرات غير المشروعة، بمختلف أنواعها. ولفت إلى أن 144 مليوناً يتعاطون البانغو، و29 مليوناً يتعاطون منشطات وحبوب "أكتستاسي"، و14 مليونا يتعاطون الكوكايين، و13.5 مليونا يتعاطون الأفيون، و9 ملايين يتعاطون الهيرويين. ووفقا لبعض الدراسات تكلف المخدرات البشرية خسارة كبيرة في الأرواح تتجاوز ما خلفته الحربان العالميتان من ضحايا. لهذا تم تخصيص يوم 26 من شهر يونيو من كل عام لمكافحة المخدرات وتوعية المجتمعات بالإدمان وأضراره، وكيفية التعرف على أعراضه والعلامات التي تظهر على المتعاطي، والتبصير بما يجب اتباعه لتفادي الوقوع في هذا الخطر الكبير، وكيفية الوقاية من انتشاره عن طريق التنشئة الاجتماعية السليمة، وتلبية احتياجات الشباب في وقت مبكر، فالمخدرات وأخواتها من المسكرات هو طريق يغري صاحبه بالنشوة والفرح ساعات أو سويعات، ما يلبث ذلك الطريق حتى يصبح مظلما للماشي بين أدربه وعتباته، لا يقدر صاحبه أن يعود أدراجه، نظرا لحجب عقله وهزالة جسده وضعف همته وعدم التحكم في نفسه، وغالبا ما ينتهي به الطريق إلى السجن أو الموت، أو التسكع في الشوارع مجنونا ذليلا منكسرا لا يقوى على شيء، وبالتالي نهاية طبيعية لشخص أصبح عديم الفائدة لمجتمعه وعبئا ماديا على أسرته، ومما لا شك فيه أن المسكرات والمخدرات بأنواعها الثقيلة والخفيفة آفة خطيرة تلتهم مستقبل الشباب، كما أنها تؤثر تأثيرا مباشرا وخطيرا على الجهاز العصبي المركزي، بالإضافة إلى أن لها تأثيرات فسيولوجية، ونفسية مدمرة للإنسان؛ حيث تسبب له انهيارا أخلاقيا وعقليا ونفسيا فيفقد كرامته وإحساسه، كما أنها تسبب لمن يتعاطاها تسمما مع مرور الزمن مما يؤدي الى إصابة أجهزة الجسم وخاصة الجهاز العصبي بخلل في وظائفه الأساسية. بالإضافة إلى تأثيراتها السلبية على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات التي ابتليت بها، فهي تقضي على العقول والقدرات وتفترس الشباب وتحطمه وتفسد الحياة الزوجية والأسرية كما تساعد العوامل الاجتماعية كرفقة السوء وسوء التربية وتفكك الأسرة والعوامل الاقتصادية، كالفقر والحاجة والتشرد، وقد ورد في تقرير منظمة الصحة العالمية لسنة 2016 أن عدد المدمنين في العالم قد تجاوز 250 مليون شخص مما يشير إلى أن تعاطي المواد المخدرة والمؤثرات العقلية والنفسية وإدمانها قد أصبح بمنزلة "سرطان العصر" يصيب الشباب والمراهقين خاصة، وينذر بكارثة ذات أبعاد متعددة تهدد مستقبل البشرية عامة، وعليه جاءت شريعة الإسلام للحفاظ على هذا الإنسان، من حيث هو إنسان مخلوق مكرم عند الله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". يقول ابن كثير: "كرّم فجعله يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله وينتفع به.." أه. فمن تعاطى هذه المخدرات والمسكرات فقد لحق بأمة الحيوانات ولم يكرم نفسه التي كرّمها الله؟ وأعظم نعمة في الإنسان هي نعمة العقل، الذي جعله الشرع مناط التكليف، فلهذا المجنون غير مكلف، والعقل نور، به يفكر الإنسان ويخترع وينتج ما لا يقدر عليه الحيوان، وقد مدح الله أصحاب العقول والألباب "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار". من هنا تأتي حرمة المُسكِرات والمخدِّرات؛ نظرًا لأضرارها الفادحة، والأخطار البادية، وإن الإسلام يَرمِي من خلال تعاليمه النيِّرة، وآدابه الطيبة، إلى الحفاظ على النفسِ، والمال، والعقل، والعِرْضِ، فالمخدِّرات والخمور تؤدِّي بصاحبها إلى حِرمانه من عقله وماله وعرضه ونفسه... فكان مبعثُ النبي الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم رحمةً للبشرية جمعاء؛ "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء)؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُحِلُّ لهم الطيباتِ، ويحرِّم عليهم الخبائثَ يقول تعالى: "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ" (لأعراف)، ولقد عالج القرآن الكريم مشكلة المسكرات بحكمة وبصيرة وبتدرج وتؤدة، فكان أوَّل ما نزل في تنفير الناس مِنْ شُرْبِ الخمر قوله تعالى: "وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"(النحل)، فوصف الله تعالى الرزق بالحَسَن، ولم يصف السكر بذلك؛ تمهيدًا لتحريم الخمر، ثم لفت الأنظار إلى آثارها الضارَّة التي تَفُوقُ ما فيها من منافع محدودة، فقال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا" (البقرة)، وفي مرحلة لاحقة حرَّم تعاطيها قبل أوقات الصلاة؛ بحيث لا يأتي وقتُ الصلاة إلاَّ والواحد منهم في أتمِّ صحوة، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء)، وبعد أن تهيَّأت النفوس لتحريمها وأصبحوا يتطلَّعون إلى اليوم الذي تُحَرَّم فيه تمامًا، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا" جاء التحريم القاطع في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة)، فعائشة رضي الله عنها كانت تعرف جيِّدًا عمق مشكلة الخمر في نفوس المجتمع الجاهلي؛ لذلك قالت عن التدرُّج الذي نزلت به الآيات: "... ولو نزل أوَّل شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا نَدَعُ الخمرَ أبدًا..."، ولكن المجتمع - الذي ربَّاه النبي صلى الله عليه وسلم على مراقبة الله تعالى - امتثل لأوامره فور نزولها على نبيِّه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفَضِيخ، فأمر رسول الله مناديًا ينادي: "ألا إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ". قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأَهْرِقْهَا، فخرجتُ فهرقتها، فَجَرَتْ في سِكَكِ المدينة. ومع نزول هذا التحريم القاطع من الله تعالى جاء الحل النبوي لمشكلة إدمان الخمور، فقد استمرَّ تنفير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه منها، فقال رسول الله لأبي الدرداء رضي الله عنه: "لا تَشْرَبِ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ". بل ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مَنْ يقوم بصناعتها وبيعها وشُرْبها، فقال: "لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْه"، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُغلق باب التوبة أمام هؤلاء المدمنين؛ بل جعله مفتوحًا، حتى لو تكرَّر الخطأ أكثر من مرَّة؛ حيث ربط رسول الله بين التخويف من سخط الله وعقابه في الآخرة وعدم توبتهم إليه، وهذه هي عظمة رسول الله في معالجته لمثل هذه المشكلات المتجذِّرة في مجتمع ما، ومن هنا حكم الله بتحريم الخمر، ونهى عن تعاطِيها وتداولها نهيًا باتًّا، بعد هذا التحريم انتهى المسلمون عن شرب الخمر، حتى أهرقوها فجَرَتْ في سكك المدينة، وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمَ قليلِها وكثيرها بقوله: "ما أسكر كثيره، فقليله حرام"؛ (سنن أبي داود)، وقد بيَّن رسول الهُدَى صلى الله عليه وسلم جميعَ أنواع الخمر التي تُتَّخذ من متنوع الأشياء من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، كما أخرج الإمام البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعتُ عمر رضي الله عنه (على منبر النبي) صلى الله عليه وسلم يقول: "أمَّا بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمرُ ما خامر العقل"؛ (صحيح البخاري)، والنتيجة الوخيمة التي تُورِثها المسكرات والمخدِّرات في المجتمعات البشرية، هي ضعف العقل والإدراك، وتدمِّر صحةَ الإنسان، وتفتِّت العَلاقاتِ الزوجية، والروابطَ الأسرية، والأواصر الأخوية، وتعرِّض كلَّ شيء في الحياة من التعليم والاقتصاد والصحة، للفساد والخراب والانهيار، وفيها إضاعة للمال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال في أكثر من حديث، كما تزهق الأرواح في حوادث السير بسبب تعاطي هذه المسكرات والمخدرات.. أما جرائم القتل والسرقة التي ترتكب بسبب تناول هذه المسكرات والمخدرات فحدث ولا حرج...!!. ومما يزيد من خطورة المواد المخدرة أنها سلاح غير مشهر، تبث سمها في أبدان ضحاياها دون أن تبرق أو تنفجر فتسمع ، فهي سلاح لا يصيب المحاربين فقط، بل يتعدى الأمر إلى الآمنين أيضاً لذا لم تتورع بعض الدول عن استخدامها لكسر شوكة الشعوب وتهديد مقوماتها وتقويض كيانها الداخلي، وقد تلجأ دولة إلى استخدام هذا السلاح للنيل من الدولة التي تحاربها، فقد لجأت اليابان -على سبيل المثال- في غزوها للصين التي يتجاوز عدد سكانها خمسة أضعاف عدد سكان اليابان قبل الحرب العالمية الثانية إلى نشر المخدرات في الأراضي التي احتلتها، وتهريبها إلى الأراضي التي لم تكن بعد مستهدفة بذلك القضاء على حجة النضال وروح المقاومة في أبنائها بأقل جهد وأخطر سلاح، وقد خصصت اليابان جانباً من ميزانيتها لإقامة مصانع لاستخراج مشتقات الأفيون مثل المورفين والهيروين والكوكايين وأباحت تعاطى المخدرات التي حرمتها في بلادها، فانتشرت حوانيتها في كافة المدن والقرى وبينما قدر عدد مرضى إدمان المخدرات في مقاطعات الصين الشمالية الأربع في سنة 1936 بحوالي 1 مليون وصل هذا الرقم إلى 13 مليون عام 1936 وقد أهاجت تلك الحقيقة المؤلمة ثائرة الرأي العام العالمي، وعرض الأمر على عصبة الأمم التي دفعت اليابان بتلك الوصمة في الاجتماع الذي حضره ممثلو 27 دولة عام سنة 1938. وإلى حد الآن ويوما بعد يوم تثبت أن المعالجة الأمنية وحدها لقضية المخدرات غير مجدية، ذلك أن تاريخ المخدرات يوضح أن تعاطيها هو تجربة بشرية قديمة ويرتبط في كثير من الأحيان بثقافة الناس والمجتمعات والعادات والتقاليد. وكما أن تعاطي المخدرات وإنتاجها وتسويقها منظومة أو شبكة من العلاقات والظروف والعرض والطلب، فإن علاج المشكلة يجب أن يتم بطريقة شبكية تستهدف المجتمعات والتجارة والعرض والطلب، فيبدأ العلاج بتخفيف الطلب على المخدرات بالتوعية ومعالجة أسباب الإدمان الاقتصادية والاجتماعية، ففي بعض المناطق والأقاليم تعتمد حياة الناس على المخدرات ويستحيل القضاء على إنتاجها إلا بإقامة مشاريع تنموية واقتصادية بديلة، لهذا يحتاج في معالجة هذه السموم إلى إدارة وإرادة سياسية وأمنية واعية للأبعاد المتعددة للمشكلة وقادرة على حماية المجتمع من تسلل عصابات المخدرات إلى مراكز النفوذ والتأثير والحيلولة بينها وبين محاولاتها لغسل أموال المخدرات. ويبقى للإيمان بالله تعالى جانب أساسي في معالجة هذه الأمور؛ من مسكرات ومخدرات؛ لأن قوة الإيمان بالله والتوبة والإنابة إليه تعطي لهذا المؤمن المدمن قوة روحية وأملا كبيرا في رحمة الله ومغفرته، مما يسهل عليه الإقلاع من هذه القاذورات والمسكرات والسموم التي أصبحت تهدد المجتمعات البشرية في دول العالم كله.