نظم محامو مدينة كلميم في أواخر شهر يناير الفارط وقفة احتجاجية أمام المحكمة الابتدائية للتنديد بالوضعية المزرية التي آل إليها القضاء بمنطقتهم، وقد تزامنت هذه الوقفة مع وجود لجنة تفتيش بالمدينة. فهل ما يطالب به دفاع "باب الصحراء" يعتبر "رسالة أخرى إلى التاريخ"، لكن هذه المرة من الجنوب؟ "" يبدو أن الشارع "الكلميمي" يجمع على سيادة شعور الإحباط وعدم الثقة في القائمين على أمر القضاء والعدالة بمدينة كلميم ومنطقتها على امتداد سنوات، وذلك بفعل الفساد المستشري والرشوة الضاربة أطنابها في مختلف أركان المحكمة بدءا من أدنى السلم الإداري إلى أعلاه. وفي هذا الصدد ظل محامو المدينة يحتجون ويكاتبون الجهات المسؤولة، لكن "حليمة بقيت على عادتها"، ولم يلاحظوا أي تغيير من شأنه إعادة إحياء أمل الثقة في القضاء بالمدينة. ويقر هؤلاء المحامين في آخر وقفة لهم بالمحكمة الابتدائية بأن أمر فساد القضاء وصل حدا لم يعد أي أحد قادر على الحسم فيه لجعله قضاءا مستقيما ونزيها لإقامة درجة من العدل مقبولة لدى أغلبية الساكنة. في واقع الأمر إن المستمع لمحاميي كلميم وهم يتحدثون عن ظروف القضاء بمدينتهم، كأنه يسمع حديثا عن واقع القضاء بالمغرب برمته، وفي آخر المطاف يشعر كأن مدينة كلميم تعيش فوضى وفساد وسيادة الاستهتار بالعدالة كقيمة، وبالتالي التلاعب بمصالح المواطنين في واضحة النهار وعلى مرأى العيان ولا من يحرك ساكنا، علما أن هذا الوضع ليس جديدا، وليد اليوم، وإنما دام على امتداد سنوات خلت وعاينته أكثر من لجنة تفتيش ووصفته كتابات موجهة إلى مختلف المسؤولين ونددت به مختلف طرق الاحتجاج. فهل الفساد في هذا القطاع أضحى متجذرا لدرجة أن آليات المنظومة هي التي باتت تعمل على التصدي للإصلاح والتغيير؟ وقفة المحامين.. رسالة أخرى إلى التاريخ إن حركة محاميي مدينة كلميم ولقاءاتهم مع لجن التفتيش وكتاباتهم إلى مختلف الجهات المعنية، كشفت عن واقع القضاء بالمدينة، كما نبهوا أكثر من مرة إلى أن ظروف العمل والقائمين على أمور القضاء هناك مكّنت، بشكل أو بآخر، من ترسيخ عقلية ونهج تدبير جيوب تقاوم دخول جهاز القضاء إلى العصر الحديث قصد تقوية نزاهته واستقلاليته وسيادة ضمير المهنة. إن محامي كلميم، مثل أبطال "رسالة إلى التاريخ"، يدعون إلى ولوج قضاء منطقتهم تاريخا جديدا يعيد الأمل في الشعور بالمواطنة ومحاربة جيوب مقاومة التغيير والإصلاح الفعليين، لاسيما وأن أعلى سلطة في البلاد والحكومة أعلنتا، أكثر من مرة عن ضرورة بلورة استراتيجية مجدية وذات فعالية لمكافحة الفساد عموما، وفساد الجهاز القضائي ومنظومة عدالتنا على وجه الخصوص. وتأكدت هذه الدعوة بمناسبة مصادقة المجلس الوزاري على اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الرشوة وتبني قانون حماية المبلغ عن الرشوة. لقد قام محامو كلميم، كما فعل قبلهم أبطال "رسالة إلى التاريخ"، بدق نواقيس الخطر بخصوص استشراء الرشوة والفساد بالجسم القضائي بمنطقتهم. هذا في وقت "فُرِشّت" فيه الأمور ولم يعد الصمت سيد الموقف. فمختلف القضايا الكبرى، من عيار نوازل الرماش والديب واليخلوفي والتمسماني وبين الويدان، كلها أزاحت الستار، بشكل أو بآخر، عن تورط أكيد ومفضوح، لرجال محسوبين على الجسم القضائي. وبالتالي ستكون من المفارقة الغريبة ومن الغباء التركيز، مرة أخرى، على أشكال وطرق كشف الفساد وكاشفيه وتناسي الجوهر: الفساد ورؤوسه، لأن السير على هذا الدرب، كما وقع سابقا، هو كذلك لون من ألوان الفساد تفوق انعكاساته، سلبية الفساد المكشوف، أراد من أراد وكره من كره. ومن المعلوم أن "رسالة إلى التاريخ" كانت من توقيع عدد من المحامين بهيأة تطوان، أفرزت الكثير من التلاعبات والأسئلة المتعلقة بقضايا قطاع العدل، وقضت غرفة المشورة التابعة لمحكمة الاستئناف بتطوان في غضون شهر فبراير 2007، بالتشطيب على محرري الرسالة من هيئة الدفاع، وتأكد بجلاء أن الجهة المعنية بهذه النازلة كانت خصما وحكما في ذات الوقت. وها هم محامو كلميم يثورون على الفساد بطريقتهم، كما ثار أبطال "رسالة إلى التاريخ"، وفي هذا الصدد قال قائل، أليس هذا مناسبة لحضور الشجاعة الأدبية والنزاهة الكافيتين للتراجع عن قرار التشطيب الصادر في حق أبطال "رسالة إلى التاريخ" مادام زملاؤهم بكلميم هم كذلك وجهوا "رسالة إلى التاريخ" بطريقتهم، علما أن الجوهر هو نفسه: التصدي للفساد. ولتسليط الضوء على دواعي وقفة محاميي كلميم، اتصلنا بكل من الأستاذ عبد الله شلوك والأستاذ عمر حلة، الممارسين بمدينة كلميم، واللذان أشارا أنهما يتحدثان باسمهما وليس نيابة عن زملائهما أو عن نقابة المحامين، وكانت الحصيلة كالتالي: وجه التشابه بين محتجي تطوانوكلميم يقر الأستاذ عبد الله شلوك أن حركة المحامين المحتجين على أوضاع القضاء والعدالة بمدينة كلميم، لا تختلف دوافعها عن مشاكل واقع القضاء ببلادنا عموما، وهي أمور أضحت الآن معروفة لدى العام والخاص، وأن الدوائر العليا على علم بها، بل نادت بضرورة إصلاح هذا القطاع الحيوي أكثر من مرة وفي عدة مناسبات. فالداء موجود ومستشري والمناداة بالإصلاح وتقويم القضاء وغيرها من المصطلحات ظلت قائمة في مختلف الخطابات والبرامج الحكومية. وقد تبين تورط مجموعة من القضاة في العديد من القضايا والنوازل، بالتالي، إن فساد القضاء هو نفس الفساد، سواء في شمال المغرب أو جنوبه، ومظاهره تكاد تكون متطابقة. و"رسالة إلى التاريخ" صورت أجزاء من هذا الواقع في قالب آت من الدفاع، وهو الشريك الآخر في العدالة، وبالتالي ليس هناك أي تبرير لتلك الطريقة الهوجاء التي عومل بها أصحابها، باعتبار أن ما قاموا به مرتبط باليمين الذي قاموا بأدائه كمحامين، ومما يتضمنه أن لا يخذل المحامي الوطن، وأن السكوت على فساد القضاء والرشوة فيه خذلان، وهكذا لم يعمل أصحاب "رسالة إلى التاريخ" سوى على احترام فحوى القسم الذي أدوه، وهذا واجبهم. تكريس واقع قضاء مزري وفاسد ويتساءل الأستاذ عمر الحلة، لماذا تكريس هذا الواقع المزري للقضاء والعدالة بإقليم كلميم؟ فهل هو نتيجة الإهمال وعدم الاهتمام أم أنه اختيار ناتج عن الخلط القائم بين أهداف سياسية وأهداف قضائية؟ ويجيب قائلا، لم نعد، نحن كمحامين، نفهم الأسباب، فهناك قضاة صادرة في حقهم عقوبات تأديبية يأتون إلى كلميم أو يتم تعيينهم وهم حديثو التخرج من المعهد العالي للقضاء، إذ أن الأوائل من أصحاب السوابق المشينة في مناطق ومحاكم أخرى، يقدمون إلى المدينة مجترين معهم أقدميتهم للعمل على تكريس نفس التصرفات التي أبعدوا من مناصبهم السابقة بسببها، ويلتقون مع قضاة جدد مبتدئين لا يتوفرون على الخبرة الكافية في صناعة القرار القضائي والحكم، ويمارسون عليهم ثقل أقدميتهم، لأنه في سلك القضاء، كما هو معروف، الذي يمكنه تولي التسيير في غياب المسؤول الأول هو أقدم القضاة، وهو الشيء الذي يمكنهم كذلك من تولي أمور أناس من الشعب ورئاسة جلسات والقيام عليها، وهكذا يكرس هؤلاء المبعدون من جراء التأديب والعقاب نفس السلوكات المشينة التي أدينوا من أجلها. وحتى مع إبعاد بعض القضاة القدامى عن التسيير يتشبع الجدد، حديثي التخرج، بأفكار وسلوكيات هؤلاء، مما يساهم في المزيد من استشراء الفساد والرشوة بشكل أصبح مفضوحا أكثر من أي وقت مضى، وهذا أمر معروف، ليس فقط، لدى المحامين والعاملين بالمحكمة، وإنما كذلك في الشارع العام، إذ بات من نافلة القول إنه يمكنك الحصول على حكم بالمقابل وتستفيد منه بقدر المال الذي تقبل دفعه كرشوة. واقع الحال بخصوص توقيت حركة احتجاج محاميي كلميم على فساد القائمين على القضاء بالإقليم وظروف العمل بالمحكمة يؤكد الأستاذ عمر حلة، عضو هيأة المحامين بأكادير والممارس بكلميم، أنه لم يكن هناك تحديد مسبق للموعد ولم يكن هناك أي التزام بظرف زمني معين سلفا بقدر ما كان واقع القضاء الذي تعيشه المدينة هو الذي فرض الوقفة الاحتجاجية ودعا إلى حركة التنديد التي قام بها المحامون. ويضيف، أن الظروف التي تحياها المحكمة بكلميم هي التي حتمت ذلك التحرك التلقائي دون التخطيط له، باعتبار أن الأمور وصلت إلى حد لا يطاق ولم يعد من الممكن السكوت عنها، ومن حسن الصدف تزامن تحرك المحامين الجماهيري مع وجود لجنة التفتيش بالمدينة، وكانت مناسبة سانحة ليطلع أعضاؤها على فداحة واقع حال العدالة والقضاء بكلميم. ويقول الأستاذ عبد الله شلوك، إن حركة محاميي كلميم لم تنطلق من فراغ، إذ تم توجيه العديد من المراسلات ومجموعة من الشكاوى والقيام بالكثير من الاحتجاجات، بشكل مباشر ويومي بالمحكمة، كما تم بعث كتابات إلى الدوائر العليا عن طريق نقابة المحامين طرحت مختلف المشاكل الشائكة بكل شجاعة وجدية، سواءا محليا أو مركزيا، وتدارسوها مع لجان التفتيش، لكن بدون جدوى، وظلت دار لقمان على حالها. وأضاف الأستاذ عمر حلة، خلافا لما عومل به أصحاب "رسالة إلى التاريخ" لم يتلق محامو كلميم أي تهديد ولا مضايقات من أية جهة. علما أن هذه الإشكالية طرحت عليهم من طرف أعضاء لجنة التفتيش بشكل آخر، إذ قالوا لهم: يمكن إجراء اللقاء خارج المحكمة وفي السر تحسبا لأية مضايقة أو اتخاذ الأجهزة القضائية مواقف إزاءهم، إلا أن المحامين عبروا عن استعدادهم لتنظيم اللقاء في بهو المحكمة ومواجهة القائمين على القضاء بالمدينة علانية اعتبارا لأن الفساد وصل حدا لم يعد يتحمله أحد. ذكر أسماء المتهمين بالفساد يقول الأستاذ عمر حلة، كان من الضروري كشف جملة من الأمور المسكوت عنها وإماطة اللثام عنها، وذلك لوضع أعضاء اللجنة تحت مسؤولياتهم ما دام أن المبتغى هو الإصلاح والغاية هي الكشف عن الإعوجاجات والتعرف عن قرب على المشاكل الحقيقية المطروحة لرفع الظلم والحيف والمعاناة التي تعيشها ساكنة كلميم التي فقدت الثقة في المنظومة القضائية، بما في ذلك الدفاع. وأجمع الأستاذان، شلوك وحلة، على أن مجموعة من الأسماء ذكرت بعينها، سواء لأعضاء لجنة التفتيش أو في كتابات النقابة. ويضيفان أنه منذ أكثر من سنة تم تعيين رئيس جديد للمحكمة بعد وفاة الأسبق، الشيء الذي دفعهم إلى توقيف حركة احتجاجهم قصد إعطاء الفرصة للوافد الجديد للنظر في الأمور، إلا أن الحالة ظلت على ما هي عليه، وهذا ما زاد من تأجيج غضب المحامين والمتقاضين على حد سواء، لذلك أعادوا الكرة وحددوا جملة من النوازل مع ذكر الأسماء، وهذه المرة أقسم أعضاء لجنة التفتيش بكل ما أوتوا من يمين، على أساس أنهم سيرفعون كل الحقائق التي عاينوها ووقفوا عليها إلى الدوائر العليا بأمانة، وسيتعاملون معها بالضمير المهني، لاسيما عندما أعلن المحامون المحتجون عن مللهم من الوعود والتطمينات لأنهم وصلوا إلى حد فقدان الثقة حتى في اللجنة التي جالسوها مؤخرا. خصوصيات مشاكل المنطقة يضيف الأستاذ عبد الله شلوك، أن هناك بعض الخصوصيات تنفرد بها منطقة كلميم، الشيء الذي يفرض أخذها بعين الاعتبار بخصوص اختيار القضاة والعاملين بسلك العدالة، إذ وجب على هؤلاء أن يتعرفوا على عقلية الساكنة وتقاليدهم وأعرافهم، فالملاحظ أنه في مجرد تسيير الجلسات هناك غياب التواصل والتفاهم، وفي أحسن الأحوال لا يتمان إلا بصعوبة، فهناك أمور، قد تبدو شكلية في عيون البعض، لكنها تحظى بأهمية بالغة في عرف الساكنة. وفي هذا الاتجاه، يشير الأستاذ عمر حلة، بأنه يمكن للشخص، إذا تم تجريحه بمجرد كلمة أن يسمح في حقه، كما أنه يمكن للقاضي في الجلسة أن يأمر الماثل أمامه بإزالة العمامة أو اللثام دون العلم بأن إزاحته تعني دلالات أخرى لا يمكن قبولها البتة، لأنها تمس بعفة وكرامة الشخص، كما أن أهل المنطقة لا يستسيغون، بأي وجه من الأوجه، استجداء حقهم، وعندما يتم التلاعب بحقوقهم يفقدون الثقة في أنفسهم أولا وفي عفتهم، وفي الدفاع، وفي المؤسسات، ومثل هذه الأمور لا يجتهد القائمون على القضاء بالمدينة لفهمها واستيعابها قصد احترامها. ويسترسل الأستاذ موضحا أن المشاكل التي تعاني منها المدينة والتي تعرقل مجرى القضاء تكاد تكون مشابهة للعراقيل القائمة بالمغرب برمته، لكن من خصوصيات المنطقة أن وزارة العدل تعتبر منطقة كلميم فضاء نفي وعقاب بالنسبة للقضاة والممارسين في أسلاكه، ينفون فيها أصحاب السوابق التأديبية ويعينون بها القضاة المبتدئين (حديثي التخرج)، وغالبا ما يكون سنهم صغيرا ومحتلين للمراتب الأخيرة في سلم النتائج المحصل عليها. وهذا الواقع ظلت تعيشه المدينة منذ افتتاح المحكمة بها حتى الآن، وما زالت المعضلات مطروحة بنفس الحدة مع تراكم انعكاساتها السلبية إلى حد تكريس عدم الثقة في القضاء ورجاله بالإقليم. ويختم الأستاذ عبد الله شلوك الكلام، مشيرا إلى أن مقر المحكمة الحالي لم يعد يليق نهائيا بممارسة القضاء والتقاضي، وحالها أهون وأمر من مقرات القاضي المقيم بالمناطق النائية والمهمشة، أما ورش بناء المقر الجديد فيتقدم ببطء شديد منذ سنوات عديدة، ولا من يحرك ساكنا. إدريس ولد القابلة رئيس تحرير أسبوعية المشعل