"الكذبة لا يمكن إلغاؤها أبدا.. حتى الحقيقة ليست كافية لذلك"، بول أوستر لم يكن ابن خلدون عالم أوبئة، لكنه امتلك فراسة ذكية جعلته يستنتج أن الأوبئة والجوائح لها دور في تغيير مسار التاريخ وفي انبثاق حضارة ونهاية أخرى، إلى جانب عوامل أخرى متزامنة تكون مساعدة لهذا التحول: تفكك العصبية، أزمة مالية، فقدان الثقة في المؤسسات، نزاع مسلح، احتقان اجتماعي صامت... فتكون الأوبئة والجوائح مثل القطرة التي تُفيض الكأس، وها نحن اليوم شهود على اجتياح وباء كورونا المستجد للعالم، الذي يعتبر من حيث الخسائر البشرية لا شيء أمام وحوش الأوبئة التي شهدها كوكبنا الأرضي، مثل الموت الأسود الذي اقترن بالطاعون ثم الكوليرا والجذري. لكن للفيروس التاجي ميزات مغايرة، إنه أول فيروس معولم اكتسى شكل النظام السياسي والاقتصادي القائم، فانتقل مثل البضائع والسلع بحرية وبسرعة فائقة، وأول وباء في عصر فورة وسائط التواصل الاجتماعي التي أضفت عليه رعبا كبيرا وسخرية فائقة، إنه وباء له "جماليته" الخاصة في زمننا، وله ميزة أخرى هي أنه حدث يجري ووقائعه تتسارع يوما عن يوم في الوقت الذي نحاول فيه التفكير والقبض على ميكانيزمات ما سيحدثه من تغيرات مستقبلية بيقين يتناقض حتى مع أبسط مقومات العلم ذاته. وإذا كان من الصعب الآن الجواب الحاسم على سؤال إلى أين يسير العالم بعد وباء "كوفيد-19"؟ لأننا في بداية الأزمة التي تبدو الأولوية المركزية فيها للصحة العامة والحفاظ على البقاء، فإن إسقاطاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكثر فظاعة، لأن مرحلة الحجر الصحي، التي تخفض تكلفة الاستهلاك وأشكال تدخل الدولة، ستمتص الصدمات الأولية وستحاول مرحليا فقط تجنب الأسوأ. نحتاج إلى مسافة أكبر لرسم حقيقة ما سيكون عليه العالم ما بعد كورونا، إذ لا يمكنك إحصاء دجاجاتك قبل أن تفقس من بيضها كما يقول المثل الإنجليزي، لكن باستقراء مجموعة من العناصر التي بدأت معالمها تتضح شيئا فشيئا، واستنادا إلى تجارب التاريخ في لحظات التحول الكبرى للبشرية، يمكن رسم سيناريوهات متباينة لاحتمال ما ستكون عليه البشرية بعد محاصرة الوباء القاتل الذي يُتوقع أن يكون نهاية الصيف المقبل، لكن يجب أن نكون حذرين جدا، فالأسباب الكبرى لا تؤدي دوما إلى متغيرات عظمى في الجغرافية السياسية، كما يجب أن نتذكر دوما أن التنبؤ ليس من العلوم الدقيقة، فالعالم صراع إرادات وقوى ومصالح، وليس مجرد قراءة في كف الأحداث لضبط تحولات الجغرافية السياسية لعالم ما بعد كوفيد-19. باي باي "العولمة" كما ولدت في أرض سبعة رجال انطلقت العولمة نهاية الحرب العالمية الثانية مع ميثاق هافانا عام 1947، مباشرة بعد مؤتمر بريتون وودز الذي قاده صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير بواشنطن في فاتح مارس 1947، أي أثرياء الحرب الجدد الذين مولوا كل الأنشطة الدولية لإعادة إعمار دول دمرتها الحرب الكونية، وكان أهم ما جاء في هذا الميثاق (havana charter) هو الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (GATT)، لكن انقسام العالم إلى منظومتين متصارعتين في إطار الحرب الباردة التي تزعمتها الولايات المتحدةالأمريكية والاتحاد السوفياتي لم يمنح الأوكسيجين اللازم للاتفاقية الجديدة التي لم تصادق عليها سوى 23 دولة في جنيف عام 1947، وكان لا بد من انتظار سقوط جدار برلين، حيث استضافت أرض سبعة رجال-مراكش بالمغرب-مؤتمر الكات (général agreement on tariffs and trade) الذي سيتحول إلى منظمة التجارة العالمية (wto) التي وقعت عليها 117 دولة في بداية 1994. كان لقاء مراكش الدولي بداية إقامة نظام عالمي جديد قاعدته الأولية تحرير التجارة الخارجية وإقامة مناطق حرة، لكن بنيته العميقة: نهاية رعاية الدولة الوطنية، تحت غطاء تشجيع حركية الإنتاج ورؤوس الأموال والاستثمارات وخفض الحواجز الجمركية... سادت "النيو ليبرالية" المتوحشة، وغاب الشق الاجتماعي والإنساني/التضامني عن الأسس التي قدمتها الدول الكبرى كقاعدة لتحقيق استفادة مشتركة من دعم "اتفاقية الكات"، انهارت الحدود ومعها السيادة التقليدية للدول الراعية وتحكم الاستهلاك في توجيه الرغبات... وها قد سرّع فيروس كورونا المستجد من اهتزاز ثقة الأمريكيين والأوربيين ذواتهم بالعولمة بشكلها الحالي وفضائل التجارة الدولية التي انقلبت من فردوس موعود به إلى جحيم هاديسي، فقد تضاعف عدد الأمريكيين الذين قدموا طلبات الإيداع الأولية للتأمين ضد البطالة منذ نهاية مارس إلى النصف الأول من أبريل الجاري من 3.3 ملايين إلى 6.6 ملايين. وأكد الخبير الاقتصادي جوستين ولفرز لصحيفة "نيويورك تايمز" أن البطالة الأمريكية ترتفع بنحو 0.5 في المائة يوميًا، وتوقع أن يصل معدل البطالة الإجمالي إلى 30٪ من السكان الأمريكيين النشطين بحلول الصيف. أما الاتحاد الأوروبي فقد بدا أشد ارتباكا أمام فيروس لا يحمل جنسية ولا يحتاج فيزا لاجتياز الحدود، انكمش الاقتصاد الأوروبي بشكل لم تعرفه أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، بموازاة مع التداعيات الاجتماعية لهذه الدراما البشرية الهائلة التي عصفت بالاقتصاد العالمي الذي تحتكره بضعة ديناصورات من الكارتيلات الاقتصادية تفوق أي حساب. هذا سيناريو مجمع عليه، أي إن النيوليبرالية المتوحشة ستشهد تراجعا كيفيا لا كميا، على اعتبار أن حتى الأوبئة التي شهدها العالم في بداية القرن الماضي مع وباء الأنفلونزا في 1918 و1919 لم تعلن عن بداية عصر جديد من التعاون الدولي، لكن وكما أكد الخبير الأمريكي روبن نيبلبت: "فإن جائحة فيروس كورونا المستجد ستُنهي حتما العولمة كما نعرفها"، فالتركيز حول المال بدل الإنسان أفرز صعوبات كبرى لقادة العالم الجديد. كما أن سرعة انتشار الوباء ومخاطره الكارثية على ساكنة العالم الغربي، كما في إيطاليا، إسبانيا، فرنسا، وأمريكا متزعمة العولمة "التقليدية"، مع غياب التخطيط وضعف القيادات السياسية، سيضر كثيرا ب"العلامة التجارية" للنظام العالمي الذي قادته الولايات المتحدةالأمريكية. الشمس قد تشرق من قلب الشرق الأقصى بزعامة الصين هيمنة رجال الاقتصاد الشرهين والسذج الأنانيين والشعبويين على السياسة في العالم الغربي، والتراخي في اتخاذ قرارات حمائية لمحاصرة الفيروس، أدى إلى زعزعة ثقة المواطنين في قدرة هذا النظام الذي كانوا تحت سطوة دعاياته السحرية، لحمايتهم من التهديد المدمر لفيروس كورونا، الذي تسبب في خلق الرعب وغلق الحدود وتعطيل الأسواق وشل الحركة، وكشف هشاشة النظام الصحي الذي كان يقدم كنموذج للتقدم الغربي. واستناداً إلى السيناريوهات المختلفة لتأثير وباء كورونا على نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى ارتفاع البطالة العالمية بنسب تتراوح بين 5.3 ملايين (السيناريو المتفائل) و24.7 مليون عاطل (السيناريو المتشائم)، وذلك زيادة على عدد العاطلين عن العمل في عام 2019 الذي بلغ 188 مليوناً. إن عالما جديدا يولد بين ظهرانينا اليوم، عالما ليس فردوسا جديدا، لكنه عالم مغاير بنظام قيم جديدة لم تتضح معالمها بعد، لأننا وسط الزلزال المعولم، هناك في ذلك الشرق الأقصى الأسطوري والساحر ذي الثقافة العميقة والحضارة الباذخة، الذي حافظ على قيمه الثقافية ونظامه الاجتماعي، تسير الصين نحو قيادة العالم باطمئنان، فسرعة محاصرتها للوباء التاجي الذي ظهر بين أحضانها، ستجعل مواطنيها يثقون أكثر بنجاعة نظامهم السياسي وقوة مؤسساته. وبحكم قدرتها الفائقة على تكييف اقتصادها الذي وجهته نحو صناعة "الحرير الصحي"، أصبحت الصين المورد الأساسي لجل ما يحتاجه العالم. إن التكلفة السياسية لغياب الحريات وتدخل الدولة في تفاصيل حياة الصينيين لن تشكل أولوية بالنسبة لعالم أصبح هاجسه حفظ البقاء وأولوية الصحة العامة. قد تسير الصين نحو عولمة مختلفة تخفف من استيلاب السلع أمام منتجيها، وستمد العالم بما سيحتاج إليه، كل حسب حاجته، كل حسب دخله. إنها عولمة قد تبدو أكثر إنسانية، حيث يتوحد المال والإنسان، البضاعة المادية والقيم الثقافية الملازمة لها. إن محورية التنين الصيني في عالم ما بعد كورونا ستصبح حقيقة لا غبار عليها، ومعها ستأتي كوريا الجنوبية، الهند وسنغفورة، وستتبعها روسيا التي كان ماوتسي تونغ قد اختلف مع زعيمها لينين، بتقديره أكثر للشرط الثقافي وأسبقية البناء الذاتي. إن تنافسا عالميا جديدا سيولد من المحتمل جدا أن تقوده الصين، في الجهة التي ستبزغ منها شمس حضارة ما بعد كورونا، الشرق الأقصى! هذا سيناريو يدغدغ كثيرا مشاعر الاشتراكيين وذوي النزعات الإنسانية؛ إذ يرى جوزيف س. ناي جونيور، الأستاذ بجامعة هارفارد، في مقال له بمجلة "فورين بوليسي"، أن وباء كورونا لن يغير التوازن القائم لصالح الولايات المتحدة، لقد تضرر كل من الاقتصاد الأمريكي والصيني بقوة، دخلت الصين في أزمة مع تباطؤ معدل النمو وانخفاض الصادرات، وعلى خلاف الولايات المتحدة التي تتميز بموقع جيو-سياسي مهم، فإن الصين لديها نزاعات إقليمية مع برونايوالهند وإندونيسيا واليابان وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام. من ناحية أخرى، تعتمد الصين بشكل كبير على واردات الطاقة التي تمر عبر الخليج الفارسي والمحيط الهندي، حيث تتمتع الولايات المتحدة بالتفوق البحري. بالإضافة إلى تمتع أمريكا بمزايا ديموغرافية، فمن المرجح أن تنمو القوى العاملة الأمريكية بنسبة 5 في المائة، بينما ستتقلص في الصين بنسبة 9 في المائة، ويرجع ذلك أساسًا إلى سياسة الطفل الواحد السابقة. ويضيف الباحث الجامعي أن القوة الأمريكية تأتي أيضًا من موقعها في طليعة تطوير التقنيات الرئيسية، بما في ذلك التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا النانو وتكنولوجيا المعلومات؛ إذ تهيمن جامعات الأبحاث الأمريكية والغربية الأخرى على التعليم العالي. لكنه يخلص إلى أن "كل هذا يشير إلى أنه من غير المحتمل أن تحدث جائحة كوفيد-19 نقطة تحول جيو-سياسية، ولكن في الوقت الذي تستمر الولايات المتحدة في الاحتفاظ بمعظم الأوراق الرابحة، فإن القرارات السياسية المضللة قد تجعلها تلعب هذه الأوراق بشكل سيئ"، وهنا قد يكون لهذا السيناريو الرجحان المبين. عالم برأسين: العودة إلى الحرب الباردة عسكريا الساخنة اقتصاديا يبدو هذا السيناريو أقرب إلى الواقع، ولكن ليس على المدى السريع، فلن تفرط الشركات الكبرى المتحكمة في صناعة القرار السياسي العالمي بسهولة في مصالحها، التي أصابها الكثير من العطب، والدليل هو تحول كثير من الدول الغربية إلى "قراصنة جدد"، يعترضون الشحنات الطبية القادمة من شرق آسيا. أمام هذه المعطيات، ستتطور بنية جديدة للحكامة الاقتصادية العالمية، وسيصبح العالم أمام منافسة جيو-سياسية تقودها الصين في الشرق، والولايات المتحدةالأمريكية في الغرب، أما الاتحاد الأوروبي، فسيعيش ما يشبه وضع ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ هناك يمين حاكم، حوّل قضية المهاجرين إلى عدو خارجي وطالب بإغلاق الحدود، لكن فيروس كورونا أصبح عدوا داخليا، والحدود المغلقة زادت من معاناة أوروبا، وشعبوية الحاكمين الجدد أصبحت تتلقى الضربات بعد اكتشاف أن معظم المشتغلين في الصف الأمامي لمواجهة كورونا هم من الجيل الثالث للمهاجرين. لقد أصبح كل قادة أوروبا المنحدرين من اليمين محط سخرية، وأضحوا جزءا من المشكل في محاصرة وباء كورونا المستجد. هذا البعد، سيفرز معطيات جديدة لعالم ما بعد كورونا، العودة إلى قطبية جديدة، ستكون حربها الباردة عسكريا فيما اقتصاديا ستظل ساخنة، برأسين: الصين في الشرق والولايات المتحدةالأمريكية في الغرب، فيما الاتحاد الأوروبي سيشهد تفسخا أكبر بعد انسحاب انجلترا، وفي كل الأحوال لن يعود إلى قوته السابقة؛ فاليمين المتطرف سيتلقى ضربة قاصمة، والقادة الاقتصاديون السذج-باستثناء مريكل ألمانيا التي لاقت إجماع 88% من الآراء المؤيدة لنجاعة خطتها في مواجهة فيروس كورونا-سيفقد متكأهم السياسي في التركيز المستمر على قضايا المهاجرين الكثير من الدفء الشعبوي الذي كانوا عبره يجيشون مواطنيهم ضد الأجانب. إننا أمام ما يشبه السقوط الحر للنظام العالمي الجديد وميلاد قطبية جديدة في ظل انكماش اقتصادي غير مسبوق. عودة الدولة الوطنية الراعية: إنه عرس الوطنيين والقوميين والاشتراكيين مع فيروس كورونا المستجد، أغلقت جل الدول حدودها، وانغمس العالم المتقدم في صراع داخلي مع الجائحة بالكثير من النرجسية القاتلة، ووجدت الدول التي انخرطت في سياق عولمة بلا حدود نفسها وحيدة في مواجهة مصيرها والاعتماد على قدراتها الذاتية، هذا الوضع سيفرز انهيار أنظمة سياسية لم تستطع التحكم في انتشار الوباء، وأخرى ستتقوى أكثر، وهو ما سيساهم في إعادة الثقة لمؤسسات الدولة الراعية/الوطنية، التي ستكشف عقم العديد من خياراتها الاستراتيجية التي فرضتها عليها النيوليبرالية المتوحشة، وهذا سيغير الكثير من الأولويات التي كانت مدرجة على جدول الدول النامية خاصة، مستغلة روح التضامن والثقة والإجماع الوطني التي صاحبت فيروس كورونا المستجد. لكن علينا أن نكون حذرين؛ فالأوبئة التي غيرت مجرى التاريخ لم تكن تسير دوما نحو الأفضل، فالدول التي جندت كل أجهزتها للقضاء على فيروس كورونا المستجد، وفعّلت أجهزة مراقبتها وطوّرت قدراتها الأمنية، سيكون من الصعب تصور أنها يمكن أن تتخلى بيسر على تحكمها في المجال العام، وهذا قد يكون فيه الكثير من الضرر على حقوق الإنسان وقد يرسخ في بعض المناطق العزلة والانكفاء على الذات، ومعه قد تعود الأنظمة الاستبدادية للسيطرة على الحكم. من الرأسمالية المالية إلى الاستبدادية الرقمية: انتقال الحضارة من الخارج إلى الداخل هذه التكنولوجيا الرقمية العالية، التي تتحكم فيها الشركات الغربية أساسا (غوغل، أمازون، فايسبوك، آبل...) ستكيف عالم ما بعد كورونا وفق مصالحها، وستغدو التكنولوجيا الموجهة لبرمجة الكائنات (الجافا java) التي ابتكرها جيس غوميلينغ في بداية التسعينات ذات سلطة لا تقاوم؛ إذ إن الحجر الصحي فرض تقنية "كل شيء عن بعد" (ابقى فدارك stay home, stay save)، ستدمج السلع والبضائع في نظام رقمي غير مسبوق، وكلما طال أمد انتشار فيروس كوفيد-19، اجتهدت الشركات الكبرى نحو تقوية تكنولوجيا العمل والتواصل واستخلاص الفواتير والإنتاج والخدمات عن بعد، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تحول النظام القيمي برمته، حيث تنتقل البشرية من حضارة الخارج إلى حضارة الداخل، وقد نكون شهودا على انتقال العالم نحو الرأسمالية الرقمية التي قد تغدو أكثر إنسانية أو تزداد شراسة واستبدادا ورقابة.