1-تقديم بعد انتشار جائحة كورونا في العالم، اهتز الاقتصاد العالمي وأغلقت الأجواء والحدود في مشهد سريالي لم نتخيله في زمن العولمة التي فشلت في اعتبار أنه لا حدود مغلقة بين الدول، وأن العالم بات قرية صغيرة.. فالعولمة هذه، التي لم يشهد لها العالم مثيلًا منذ أن أسس الإنسان القديم تجمعات بشرية قبيل الثورة الزراعية منذ عشرة آلاف عام، يضرب فيروس كورونا اليوم في أسسها، بعدما حسبتها البشرية أساسا متينا عصيا على الاهتزاز. لقد كشف فيروس كورونا عن عجزٍ عالميٍّ كبير وغير متوقع في محاربة الأوبئة والفيروسات. وقد ظنت البشرية أنّ الإنسان انتصر، واستطاع أن يهزم الأمراض والأوبئة والطواعين، ويفتخر بانتمائه إلى زمن التكنولوجيا الحديثة القادرة على مواجهة كل التحديات الطارئة. لكن واقع الحال أن الإنسان ضعيف رغم كل هذا التقدم الذي وصل إليه. هذا الوباء الذي يعد عالميا لأنه استطاع أن يصل إلى جل دول العالم، وأصاب البشرية في مختلف جوانب حياتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية..وأحس معه الناس بالصدمة في زمن العولمة والحريات والانفتاح، ورأوا ما لم يتصوروا أبدا أنه سيقع في يوم من الأيام.. المساجد والكنائس والمعابد تغلق، يجلس الناس في بيوتهم وتغلق المحلات التجارية، والحدود والمطارات، وهذا أمر غريب على الإنسانية، لأن حرية السفر والتنقل من الحريات الكبرى التي شعر الإنسان المعاصر في العهد الليبرالي الحديث أنه قادر على أن يمارسها متى ما شاء، واعتُبرت من الحقوق الإنسانية الأساسية. كانت العولمة اقتصادية بالدرجة الأولى، ثم صارت تقنية وثقافية وأيضا أمنية. والاقتصاد اليوم هو الضحية الأكبر بعد الإنسان لفيروس كورونا، فالاقتصاد العالمي كان يعبر حالة من التوتر منذ الأزمة المالية لعام 2008، كما كان من المتوقع أن تعصف أزمة اقتصادية عالمية جديدة.. لكن لم يكن يتوقع أحد أن تحدث تلك الأزمة بهذه السرعة ومن خلال هذا الفيروس؛ فمؤشرات الأسواق العالمية وصلت إلى درجة لم يسبق لها مثيل إلا في الأزمات التاريخية الكبرى مثل "الكساد العظيم" عام 1929م. ويتوقع الكثير من الاقتصاديين أن ما سيحدث الآن أسوأ بكثير مما حدث في "الكساد العظيم"، والسبب في ذلك أن الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل أكبر من أي وقت مضى على حالة من التواصل المركب والعولمة المعتمدة على بعضها، إذ إن الكل يتأثر بالكل؛ فمنذ أن بدأت الأزمة في الصين وانتشرت تدريجيا بدأت الأسواق في الانهيار في باقي أنحاء العالم. 2-الحقائق العالمية اليوم -العالم لم يعد قرية صغيرة كما توقع مارشال ماك لوهان. -الحدود لم تعد مفتوحة بل أغلقت تماما حتى بين الدول المشكلة للتكتلات الإقليمية، مثل "النافتا" و"الاتحاد الأوروبي" و"مجلس التعاون الخليجي" و"آسيان" .... -التضامن الأوروبي بات مجرد وهم لا وجود له في الحقيقة. -إن عمودي العولمة الاقتصادية، وهما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لم يقدما أي مساعدة ضخمة للدول في هذه الظروف الدولية الصعبة. -تهاوي الأسهم في البورصات. -تراجع أرباح الشركات متعددة الجنسية وتوقف حركية فروعها في دول العالم الثالث. -أساطيل من الطائرات الصينية تتجه لتقديم المساعدات لعدة دول بالعالم. 3-نهاية العولمة الاقتصادية. بناء على ما قلناه سابقا فإن جائحة فيروس كورونا "قد تكون القشة التي ستقسم ظهر العولمة الاقتصادية". ونعتبر أن العولمة الاقتصادية رخوة وليست صلبة تناسب الأزمات العالمية. ووفقا لروبن نيبليت، الرئيس والمدير التنفيذي ل"تشاثام هاوس" المعروف بالمعهد الملكي للشؤون الدولية، "فقد أجبر تفشي “كوفيد-19” الحكومات والشركات والمجتمعات أيضا على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية، ومن المستبعد في ظل كل ما سبق أن يعود العالم إلى فكرة العولمة ذات المنفعة المتبادلة التي طبعت أوائل القرن الحادي والعشري". 3- اختبار للأنظمة السياسية بالعالم إن هذا الفيروس وانتشاره مثّل اختباراً للأنظمة السياسية في العالم كله وللحكومات على وجه الخصوص، فإدارة الحكومات لتدبير الوضع أبانت أن هناك حكومات نجحت وتطرح نفسها كنموذج مكتمل، والحقيقة أن الصين وحكومات أخرى نجحت، في حين أن الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة سقطت في الاختبار وإدارتها للأزمة لم تكن على قدر المستوى. 4-الصين وسيادة النظام العالمي الجديد تعد الصين أقل الدول التي ستدفع فاتورة من هذه الأزمة، وربما تكون أكثر الدول الرابحة؛ وهناك تقديرات تقول إنها بعد انتهاء الأزمة سيكون ناتجها الوطني ما بين 17 و18 تريليون دولار، بعد أن كان من 13.4 تريليون دولار قبل الأزمة. وبالتالي سوف تربح الصين مكاسب مهولة غير مسبوقة تقربها جداً من الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت تنتج قبل أزمة كورونا 20.4 تريليون دولار. وبالتالي يمكن القول إن العالم يعيش مرحلة الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولاياتالمتحدة إلى عولمة تتمحور حول الصين، التي يبدو أنها بدأت تلعب دور الزعيم العالمي الجديد من خلال كم المساعدات التي أرسلتها ومازالت للعديد من دول العالم في هذه الأزمة العالمية. 5-أميركا والنكوص ربما سيشهد عالم ما بعد فيروس كورونا نكوصا لزعامة الولاياتالمتحدة للعالم، لأن الإدارة الأمريكية أبانت عن سلوك يقوم على تغليب المصالح الذاتية الضيقة (وطني أولا)، ولم تمد يدها بالمساعدات الطبية والمادية لدول العالم. إن واشنطن فشلت في اختبار القيادة، فعلاقاتها بأوروبا انقطعت، وانقطعت أيضاً مع دور الجوار، كندا والمكسيك. كما دفعت الولاياتالمتحدةالأمريكية والاحتياطي الفيدرالى الأمريكي ما يقرب من 500 مليار دولار لإرضاء المواطنين؛ وبالتالي لم تربح شيئاً حتى الآن، وتعد في قائمة الدول الخاسرة. 6- من سينتصر النظام الديمقراطي أم الاستبدادي؟ إن المعركة بدأت وسنرى الانتصار الحاسم لمن سيعود، للديمقراطية والتعددية أم للحكم الاستبدادي؛ فالطريقة التي تدار بها الأزمة الحالية العالمية في الصين، وإشادة منظمة الصحة العالمية بها، تطرح العديد من المقارنات بين طريقة الحكومات شديدة المركزية مقابل البلدان الديمقراطية. ومن خلال ما يراه العالم اليوم في تدبير الأزمة بكل من الصين والدول الديمقراطية الغربية سيعزز الاعتقاد عند المزيد من الناس عبر العالم بأن الصين في صعود، وبأن الغرب لا شك في أفول، وأن الأيديولوجية الليبرالية يبدو أنها تعمل فقط في لحظات السلم والازدهار، وإذا ما ظهر خطر ما، تتوقف عن العمل. لكن هذا التحليل ليس عاما وشاملا، فهناك دول ديمقراطية في الشرق، إذ إن الأنظمة الديمقراطية في آسيا مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان كلها أبلت بلاء حسنا في هذه الأزمة، وتمكنت من السيطرة على انتشار المرض، دون عزل مدن بكاملها؛ وهي إجراءات تأخرت فيها الولاياتالمتحدة وأوروبا. 7- العولمة إلى زوال إن جائحة كورونا أعاقت حرية التنقل والتواصل حول العالم، وهي من أساسيات مفهوم العولمة، وما قيل سابقا إنها من حسنات العولمة، وإن العالم بات "قرية صغيرة"، لم يعد كذلك الآن، بل باتت الدول بحدودها المغلقة مثل الجزر المتباعدة. وباتت عولمة الاقتصاد هشة، وسرعان ما تم إغلاق الحدود وانقطعت المساعدات، فكل دولة وخاصة الدول الكبرى ترفع شعار "وطني أولا". والسؤال هنا هو هل ستظل مؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) باعتبارها أسس العولمة الاقتصادية تدعم الدول في العالم، بمنحها قروضا في ظل الكساد الكبير الذي يعرفه العالم؟. على ما يبدو أن مفهوم العولمة ربما جاء على مقاس الظروف العالمية الاقتصادية الجيدة ورفاهية العيش، ولم يفصّل على مقاس الأزمات العالمية، وبالتالي يبدو أنه لم يعد مناسبا للمرحلة الحالية، وزواله بات مسألة وقت ليس إلا. *رئيس المركز المغربي للدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية