في شهر رمضان الكريم ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل. وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تُبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف "الشهيوات" تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الطعام بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب.. ولا يعود هذا الطعام إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار في الشهر الفضيل. جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب "ديوان المائدة" للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام .. شهية طيبة: المائدة 12 لم تكن طفولتي مزركشة بالحلوى، لا لقلة الأعياد فقط، وإنما لكثرة العطل التي كانت تطوِّح بي إلى بيت جدتي هناك حيث تسود ثقافة الفطائر لا ثقافة الشطائر والسكاكر. في تلك البادية التي على مشارف القلب، كانت جدتي هي أمي ومعلمتي خلال العطل، وكانت حاكورتها هي القاعة الرحبة حيث أعطتني درسا في محبة التراب، إذ أشركتني في غرس شجرات اللوز وحببت إليَّ العناية بها، فما انقطعت عنها حتى بعد أن سمعتها بعيني هاتين وهي تتحدث عن الله بأنصع ما يكون الحديث. لم تكن طفولتي مزركشة بالحلوى، لكن ذاكرتي كانت وستظل مرصعة باللوز. الحلوى الشباكية وحلوى باب المدرسة وحلوى مولاي إدريس وحلوى سوق السبت وحلويات المناسبات الدينية والعائلية التي كانت مختصرة في غْريّبة وكعب غزال... هذه الحلويات وغيرها قليل هي ما كان يؤثث لحظات ذلك الزمن البعيد الذي كان حُلْوًا بلا حلوى. فعدا كعب غزال، لا تحتفظ طفولتي بالوُدّ لحلوياتها. ولعل ذلك يعود إلى أنني نشأت أعرابيَّ الذوق أفضل بنات الأثافي والتنُّور على الهلاليات والبوتي فور. ولأن الأعراب أشد أكلا أيضا، فإن ما يفي بالنهم هو الحرشة والبغرير والمطلوع والمفروق والملاوي (وقد سميت كذلك لكثرة ليّها لا نسبة إلى شقيقتنا جنوب القارة)، وهي الفطائر التي غالبا ما تُشيّع إلى مثواها الأخير مرفقة بما يكفي من السمن والعسل إكراما لها ولآكليها. لقد تطورت صناعة الحلويات بعد إنشاء معاهد لدراستها، ومحلات فخمة لبيعها، وبرامج تلفزيونية للتعريف بها والترويج لها، كما تعددت أصنافها بعد أن توسعت دائرة محتوياتها، فشملت الشوكولاتة والكاراميل والكوكو والفواكه المعلبة ومشتقات الحليب وفواكه البحر... فصار منها الحلو والمالح، الرطب والصلب، الساخن والمثلج وما لست أعرف. هكذا صارت الحلوى للمائدة كالحلي للجسد، تعرض في واجهات لا تقل بريقا وتباع في حُقّ يناسب حجمها وتحمل خاتم صانعها الذي يخال نفسه صائغا، فيضع فوق بعضها ما يشبه الحجر الكريم وغالبا ما يرى في حبة اللوز زمردة. ولست أبالغ إذا قلت إن الحلوى أصبحت تستأثر باهتمام النساء أكثر مما تفعل الحلي، فيقبلن على شرائها جاهزة وعلى تعلم صناعتها من التلفزيون وكتب الطبخ، كما يتبادلن الخبرات حولها بينهن... لكأن الموائد أجساد النساء، أجسادهن الأخرى التي يعرضن مفاتنها إذ يُحلِّينها بنفائس الحلويات. فلا غرو أنهن أصبحن يتحدثن، بعد كل حفل، عن أصناف الحلويات بعد أن كنّ، في الماضي، يتحدثن عن حلي المدعوات، فارتفعت أسهم منظمي الحفلات في بورصة المجتمع بما يقدمون من أطباقها. طفرة الحلويات هذه لها سبب آخر، لعله تعدد الأعياد والمناسبات. فبعد أن كان لدينا عيدان فقط: الصغير والكبير (الفطر والأضحى) صارت لنا أعياد الميلاد وعيد الحب وحفلات الاستقبال وحفلات التخرج وحفلات رأس السنة... فلم تعد الأعراس تكتفي بالأقراص والأقواس (أقصد غريبة وكعب غزال) فصار ما صار من هذه الأطباق التي ينسيك التالي منها السابق. كلما وجدت نفسي عرضة لطبق من الحلوى تمتد يدي تلقائيا إلى كعب الغزال، فهو عندي تاج الحلويات الذي لن يخلع أبدًا، لاسمه نصيب من الشعر، ولشكله سر الهندسة: القوس، أما قلبه فمن معجون اللوز، ولست أخاله لوزًا غير الذي غرست في حاكورة جدتي ذات طفولة. لَكَمْ سيكون جميلا من صاغة الحلويات أن يبدعوا لكعب الغزال أشباها في الشعر كأيطل الظبي وعيون المها... ستفرح أشجار اللوز في كل مكان وسَتفْترُّ عن مزيد من الأزهار البيضاء بيضاءَ كأنها الْبَرَدُ الموعود بالعُنَّاب. حين أقلعت عن تلك البادية التي على مشارف القلب، تلك التي تندر فيها الأعياد، اكتشفت في روزنامتي عيدين جديدين: عيد ميلادي وعيد الحب الذي يصادفه. ولأني لا أعدم أحبة، فإنني أتمنى عليهم بدل الورود الحمراء من هنا شقائق النعمان من هناك، وبدل ألواح الشوكولاتة أقواس كعب غزال.