يعد القانون المالي أهم عمل تشريعي في حياة الحكومة، ومحطة سنوية لمناقشة وتقييم السياسات العمومية والتدابير والإجراءات المتخذة من قبل القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية. ويعتبر قانون المالية لسنة 2012، والذي لم تبدأ بعد مناقشته بالبرلمان، وثيقة ذات خصوصية استراتيجية باعتباره أول قانون مالية في عهد الدستور الجديد وأول وثيقة مالية ومحاسبية وتدبيرية في عهد الحكومة الجديدة بقيادة العدالة والتنمية. فهذه الحكومة عرفت اهتماما شعبيا وإعلاميا ودوليا غير مسبوق، نظرا لخصوصية المرحلة والرهانات والآمال الكبيرة المعقودة على حكومة بنكيران، وقد امتد هذا الاهتمام الإعلامي المتزايد ليطال حتى التدابير والإجراءات المالية التي ستتخذها هذه الحكومة مع بداية اشتغالها. وقد أثيرت في سياق هذا النقاش مجموعة من القضايا المتعلقة من جهة بالمسطرة التشريعية المتبعة، ومن جهة ثانية بمضمون القانون المالي والتدابير المتوقعة بمناسبة تنزيل البرنامج الحكومي على مستوى أول قانون مالية تتعامل معه هذه الحكومة. كما تطرح بهذه المناسبة مجموعة من الإشكالات المتعلقة بإصلاح طرق تدبير المالية العمومية ومراقبة المقاولات والمؤسسات العامة والإصلاحات الضريبية، وبشكل خاص المراجعة الشاملة للقانون التنظيمي لقانون المالية الذي لم تستطع الحكومة السابقة إصلاحه كما وعدت بذلك في تصريحها سنة 2007. مآل مشروع قانون المالية 2012 كثر الجدل حول المسطرة التشريعية بخصوص مشروع قانون المالية لسنة 2012، ودعا البعض الحكومة إلى إعادة النظر في المشروع الأول واعتماده في المجلس الحكومي قبل إحالته على البرلمان للمناقشة والتصويت؛ وهناك من يرى بأن الحكومة الجديدة يجب أن تقوم بإعداد مشروعها الخاص انطلاقا من برنامجها الحكومي قبل بدء المسطرة التشريعية من جديد، وهو ما قد يصل بقانون المالية لما بعد منتصف السنة قبل المصادقة عليه. لكن قلة من المتتبعين تنتبه إلى بأن مشروع قانون مالية 2012 يوجد أصلا بالبرلمان منذ شهور، ومسطرته الدستورية والقانونية بدأت بالفعل قبل الانتخابات الأخيرة وقبل تعيين وتنصيب الحكومة الحالية. فالحكومة السابقة عرفت تخبطا كبيرا تابعه الجميع بخصوص سحب المشروع الأول من الدورة الاستثنائية لشهر شتنبر الماضي، ثم قامت الحكومة السابقة في نهاية المطاف وبعد شذ وجذب بين أطرافها، بإحالة مشروع نهائي لقانون المالية غير متوافق بشأنه أصلا داخل الحكومة. وكان الرأي العام قد تابع خلال شهر شتنبر الماضي الصراع المرير بين حزبي الأحرار والاستقلال بخصوص مناقشة المشروع الأول، والذي كان قد تضمن معطيات هامة تتعلق بصندوق التضامن وضريبة الثروة، وهي المقتضيات التي اعترض عليها صلاح الدين مزوار وزير المالية آنذاك، وطالب بحدة غريبة ومريبة عن حذف صندوق التضامن الاجتماعي. وبعد إعادة صياغة جديدة، تم إيداع مشروع قانون المالية لسنة 2012 بشكل رسمي بمجلس النواب بتاريخ 20 أكتوبر 2011، وهو الأجل الذي ينص عليه الدستور المالي. ومنذ ذلك التاريخ والمشروع يوجد لدى مكتب المجلس دون أن تبدأ مسطرته التشريعية على مستوى البرلمان، وذلك في خرق سافر للدستور وللقانون التنظيمي للمالية الذي ينص صراحة في المادة 33 على أن المشروع يجب أن يحال على الفور على لجنة المالية من أجل المناقشة، وهو ما لم يتم نظرا لرفض وزير المالية أيضا بدء المناقشة، وكان تخوفه من تزامن المناقشة مع اقتراب الانتخابات السبب الرئيسي لهذا الرفض. لكن الأغرب من ذلك كان موافقة رئيس مجلس النواب (الاشتراكي عبد الواحد الراضي) على تجميد المناقشة، وهو أمر مخالف لصريح أحكام الدستور ولمقتضيات القانون التنظيمي لقانون المالية الذي يوجب بدء المناقشة فورا بدءا من تاريخ وضع مشروع قانون المالية بالبرلمان، بل ويُلزم مجلس النواب بالانتهاء من المناقشة والتصويت خلال أجل شهر واحد فقط من تاريخ الإحالة، وهو ما يصادف 19 من نونبر 2011. وقد كان جليا تخوف الأغلبية السابقة، وبصفة خاصة حزب التجمع الوطني للأحرار، من تزامن المناقشة مع الحراك الانتخابي وما يعنيه من فضح اختلالات الأداء الحكومي والكوارث التي تسبب فيها تدبير وزير المالية للشأن الاقتصادي والمالي الوطني، والذي تؤكده المؤشرات الصادرة في نهاية السنة الماضية. فنفقات صندوق المقاصة فاقت 52 مليار درهم بعدما كانت الحكومة السابقة قد برمجت فقط 17 مليار درهم لتغطيتها مما يعني فشلا تاما في التدبير التوقعي؛ ونسبة العجز تجاوزت عمليا 8% من الناتج الداخلي الخام، وهو رقم كارثي وتاريخي يذكرنا بوضعية المغرب سنوات الثمانينات التي أدت إلى تطبيق برنامج التقويم الهيكلي؛ وحصة الموارد العمومية انخفضت لأدنى مستوياتها منذ سنوات طويلة، مقابل تضخم النفقات الاستهلاكية وتفشي الفساد المالي وهدر المال العام من قبل عدد من الوزراء جلهم من الاحرار... ففي ظل هذه الوضعية المتأزمة، ومع رفض كل من وزير المالية السابق صلاح الدين مزوار ورئيس البرلمان بدء مناقشة المشروع المذكور في خرق سافر للدستور المالي، بقي القانون المالي لسنة 2012 مجمدا بمكتب مجلس النواب لحين انتخاب البرلمان الحالي. ويتعين فقط على الحكومة الحالية الاتفاق مع مجلس النواب الجديد على موعد بدء المناقشة بعد نيل الثقة البرلمانية بشكل رسمي قبل أيام، وهو ما يمكن أن يكون موضوع عقد دورة استثنائية خلال الأيام القليلة القادمة بعد نهاية دورة أكتوبر الحالية. وبالتالي لا تحتاج هذه الحكومة لبدء المسطرة التشريعية من جديد لإحالة مشروع جديد لقانون المالية، بل يتعين عليها أن تقوم فقط بتأكيد إحالة المشروع الأول الموجود بالبرلمان منذ 20 من أكتوبر الماضي، وتتفق على بدء النقاش داخل لجنة المالية، وستكون حكومة بنكيران لا محالة مدعوة لتقديم تعديلات كبرى على المشروع أثناء المناقشة وقبل التصويت، وهو أمر ميَسَّر ويسمح به القانون التنظيمي للمالية والنظام الداخلي لمجلس النواب. أما إذا أرادت الحكومة الإتيان بمشروع جديد للمالية فيمكنها ذلك قانونيا، لكنها ستكون أولا مطالبا بإصدار مرسوم لسحب المشروع المودع بالبرلمان، وبعدها عرض الخطوط العريضة للمشروع الذي تعتزم تقديمه أمام المجلس الوزاري، قبل اعتماد المشروع من قبل مجلس الحكومة وإعادة إحالته من جديد أمام البرلمان، وهي الإجراءات التي قد تتطلب عدة شهور قبل إصدار قانون المالية بشكل قانوني. وعلى هذا الأساس، وبالنظر للوضع الخاص الذي تعيشه البلاد ولحاجتها للسير الطبيعي للمؤسسات الدستورية، فإن عقد دورة استثنائية لمناقشة مشروع قانون المالية الموجود أصلا بمجلس النواب، وإدخال تعديلات كبرى عليه، الحل الأمثل والأكثر نجاعة، حتى يتم تصحيح الوضع الدستوري والقانوني الشاذ الذي تسببت فيه وزارة المالية في الحكومة السابقة. فوزير المالية السابق كان حريصا على تأجيل الإصلاحات الكبرى لتدبير المالية العمومية لما بعد الانتخابات البرلمانية، على الرغم من أن وزارة المالية تعتبر القطاع المختص بضمان الْتِقائية السياسات العمومية والتنزيل المالي للاستراتيجيات القطاعية الكبرى التي تعرفها الدولة (المغرب الأخضر، المغرب الرقمي، هاليوتيس، الطاقات المتجددة، البرنامج الاستعجالي للتربية والتكوين، رؤية 2020 للسياحة، الصناعة التقليدية...). كما لم تكن الوكالات والمؤسسات العمومية تخضع في ظل الحكومة السابقة لأية رقابة أو تتبع أو إشراف مباشر من قبل الجهاز الحكومي، رغم أن عددها يتجاوز المائتين وثلثي الاستثمارات العمومية تتم من طرفها، وتدبير عدد كبير من الاستراتيجيات القطاعية كان موكولا لهذه المنشآت والمؤسسات العمومية. وحتى المفتشية العامة للمالية، التي يُفترض أن تكون العين الحارسة على المال العام، كان دورها مقيد بخلفيات سياسية وعمليات المراقبة التي تجريها كانت موجهة لأهداف حزبية ضيقة إلى حد كبير، بحيث لم تكن تتحرك في الكثير من الأحيان إلا بناء على تعليمات خاصة لأهداف سياسية محضة. إن طرق تدبير المالية العمومية كانت دائما السبب في تفاقم الأزمات المالية التي يعرفها المغرب، فإذا كانت الأزمة الاقتصادية تضرب القطاعات الإنتاجية وتساهم في انكماش الاقتصاد الوطني، فإن سوء تدبير المالية العمومية يُفاقم هذه الأزمة ويرفع حجم الاستدانة ويعمق العجز المالي وعجز الموازنة نظرا لطرق الإنفاق وطرق تدبير المال العام. إن حكومة ذ. عبد الإله بنكيران ستكون أمام رهان إصلاح ما أفسده التدبير السابق المخالف للدستور المالي، واعتماد إصلاحات كبرى انتقالية على مشروع قانون مالية 2012. كما أنها ستكون مطالبة بعد أقل من ثلاثة أشهر لإجراء مراجعة جذرية للقانون التنظيمي للمالية حتى تتمكن من إعداد أول مشروع قانون مالية في عهدها (لسنة 2013 والذي يبدأ إعداده شهر ماي القادم) وفق منظورها الجديد حتى تتمكن عمليا من التنزيل المالي للبرنامج الحكومي. *دكتور في القانون متخصص في العلوم الإدارية والمالية العامة [email protected]